وقف جبرا ابراهيم جبرا قبل أربع سنوات، بين أصدقائه ومحبّيه، يحيّي المحتفلين بالذكرى السبعين لميلاده في بغداد، فتحدّث عن الكتابة والموت. قال الاديب الفلسطيني الذي حاز الجنسية العراقية: "اليوم الذي لا أكتب فيه، هو يوم بائس، وحين أكفّ عن الكتابة فسأرحّب بالموت". لكن الموت غافل الأديب الكبير وهو في عزّ عطائه، قبل أن يشحّ لديه نبع الوحي أو تضعف منه العزيمة. هكذا أسدل الستار على مسيرة أدبية وفنية استثنائية خصبة وغزيرة، وضع خلالها الراحل ما لا يقل عن ستين مؤلفاً، ورافق أبرز المغامرات الثقافية التي أسست لمشروع الحداثة، ولعب دوراً حاسماً في تحديد المسار الذي عرفته الثقافة العربية منذ منعطف الخمسينات. فجبرا ابراهيم جبرا خاض في مجالات متنوّعة جامعاً الرسم والشعر الى النقد والرواية، وتنطّح للمسرح الشكسبيري الذي نقله بمهارة نادرة، كما قام بتعريب نصوص ابداعية ونظرية مرجعية عديدة، كان لها تأثير مباشر على كتّاب ومبدعين من أقطار وأجيال شتّى. من الكليّة العربية في القدس، الى جامعتي كمبردج في بريطانيا وهارفرد في الولاياتالمتحدة انطلق جبرا في حياته المنتجة من أرضية أكاديمية صلبة، كما فتحت له اقامته الغربية مجالاً لتوسيع آفاقه الثقافية وصقل ذوقه الفني واغناء مصادره النظرية واشباع نهم الشاب المتعطّش الى المعرفة والمسكون بطاقة ابداعية جارفة لن تلبث أن تظهر بعد استقراره في بغداد على أثر نكبة 1948 في فلسطين. وهنا تتالت اصدارات الكاتب وترجماته، ومساهمات الناقد والرسام الذي أطلق مع الفنان العراقي البارز جواد سليم وآخرين عام 1951 "جماعة بغداد للفنّ الحديث" الشهيرة، وما زال ورثتها يحتلّون الساحة الى اليوم. كثيرون قرأوا "شارع الاميرات" 1994، المؤسسة العربية للدراسات والنشر حيث يواصل استعادة فصول من سيرة ذاتية بدأها مع "البئر الأولى" 1987، "دار رياض نجيب الريّس"، لكن كم عدد الذين توقّفوا عند لوحة الغلاف التي تحمل توقيع فنّان اسمه جبرا ابراهيم جبرا؟... كم عدد الذين اطلعوا على مجموعاته الشعرية الثلاث، أو قرأوا بعض قصائدها عند نشرها للمرّة الاولى في مجلّة "شعر" البيروتية "إيكاروس/ يا عاشق الشمس، يا قتيل النور/ يا حامل الارض الى السما..."، قبل أن تصدر أعماله الشعرية الكاملة عن دار الريّس عام 1990؟ إن أغلب قرّاء جبرا احتفظوا من وجوهه الكثيرة بوجه الروائي الذي كتب أول أعماله بالانكليزية "صراخ في ليل طويل" 1955، قبل أن تتوالى العناوين: "صيادون في شارع ضيّق" 1960، "السفينة" 1970، "البحث عن وليد مسعود" 1978، "الغرف الأخرى" 1986، "يوميات سراب عفّان" 1992، اضافة الى تجربة مشتركة مع عبدالرحمن منيف "عالم بلا خرائط" 1980، أو قرأوا ترجمات له مثل "الصخب والعنف" فولكنر، لكن كم عدد الذين يتذكّرون مقالاته النقدية المنشورة في "الحرية والطوفان" 1960 وغيرها، من يذكر أن جبرا كان أول كاتب عربي يتناول بالنقد والتشريح رواية جورج أورويل الشهيرة "1984" على سبيل المثال؟ وبوسعنا أن نطيل التوقف أمام مساهمات جبرا الناقد الذي أشرف مطلع الثمانيات على تحرير مجلّة "فنون عربية" "دار واسط"، لندن/ بغداد، وترأس في الفترة نفسها "رابطة نقاد الفن في العراق"... لكن لا عجب أن تبقى تجربة جبرا الروائية طاغية في الاذهان، فهي تحتل موقعاً أساسياً في مسيرة الرواية العربية، مع أن الاديب الراحل لم يعرف الشهرة الواسعة الا مع "وليد مسعود" حيث يخوض في ضياع النخبة الفلسطينية في مهبّ المنافي. وتجدر الاشارة الى أنه يقف على حدة بالنسبة الى ممثلي الرواية الفلسطينية من كنفاني الى اميل حبيبي، فهو يحمل همّاً وجودياً وفرديّاً وثقافياً يغلب على البعد النضالي أو الملتزم، ويعبّر عن المعاناة الجماعية بلغة أخرى ومن زاوية خاصة انطلاقاً من تداعيات الذاكرة ومرارة الغربة. فبطله حديث يحن الى أرض الوطن من خلال الذاكرة، وينغمس في الحياة الفردية اللاهية، غارقاً في ذاتيته التي تبتعد معها الذكرى... أما جبرا الشاعر الذي أعلن مراراً أنه كتب الرواية "ليستوعب طاقته الشعرية"، فيتوقف عند الزمن الجنيني للقصيدة، مختزن الصاعقة. فاللحظة الشعرية تقوم لديه على كسر الرتابة المنطقية الواضحة لخلق منطق آخر، عبر بناء شديد الغموض، موغل في صعوبته التركيبية، ذي خصوصية تلتصق في بعض جوانبها بطبيعة الذات المبدعة وظروفها، واطار الزمان والمكان الذي تتحرك عبره. في حديث الى "الوسط" خلال زيارته الاخيرة الى عمّان، بسط الراحل نظرته كالآتي: "إن لحظات الابداع أشبه بالحمّى التي تستبد فجأة بالكيان، باللحم والدم، وليس ما يردّها، حتى تنسحب هي بنفسها. والقصيدة تأتي كما تأتي نوبة الصرع، دونما سابق إنذار، فيدخل الشاعر غيبوبة لا تقاوم، ولا تفسّر. وتتخذ القصيدة شكلها الأول على الورق، دون أن يستطيع الشاعر تحكماً بها... والشعور لحظة انتهاء الكتابة هو شعور العائد الى وعيه، كالعائد من رحلة مجهولة هائلة لا يدري بالضبط كيف تحققت له في مدارجها، وعليه الآن أن يُعمل فنه وصنعته. ومعرفته كلها بوعي صارم، لكي يصقل هذه الجوهرة، ويجعلها عملاً متكاملاً". وجبرا عاش حتّى أيامه الاخيرة صديقاً مقرباً للمبدعين والمثقفين الشباب، يوجّه هذا الشاعر، ويكتب مقدّمة المجموعة الاولى لذاك، أو يقدّم معرضاً لفنان تشكيلي صاعد. والذين عرفوه عن كثب من مختلف أنحاء العالم العربي، وهم كثيرون، يتذكرون كيف كان يجالس الناشئين من الادباء والشعراء، ويكرّس لهم وقته من دون تحفّظ أو تأفف، وينصت الى آرائهم باهتمام شديد ورغبة في التعلّم والاستفادة متعاملاً معهم معاملة الند للند، من دون أخذ فارق السن والتجربة بعين الاعتبار. ولم يكن جبرا يبخل على مريديه بنصائحه الثمينة، أو يتردد في مد يد العون لتسهيل نشر عمل نقدي أو أدبي. ويروي سركون بولص، الشاعر العراقي المعروف المقيم في سان فرانسيسكو، أنه كان في سنوات شبابه الأولى يجتاز بشكل يومي نهر دجلة سباحة ليزور جبرا ابراهيم جبرا. وكان الأخير يستقبله دائماً بحرارة، ويمضي ساعات طويلة في تنقيح نصوصه، ومساعدته على تحسين لغته الانكليزية... وغالباً ما حدثه بشغف عن شعراء وكتّاب لم يكن يعرفهم ذلك الحين. والذين استمدوا من جبرا زخمهم الابداعي كثر، من دون شك، على امتداد العالم العربي، بمشرقه ومغربه. أليس مترجم فولكنر بين الذين عرّفوا بالأدب الانجلو - ساكسوني بشكل لم يسبق له مثيل، فاتحاً أمام الكتابة النقدية والروائية آفاقاً واسعة، ومد جسوراً بين الفن والادب، ومهد لقيام حركة نقدية في مجال الفنون التشكيلية، مطوّعاً اللغة العربية للأساليب النقدية والروائية الحديثة. ألم يستفد من تقنيات "الصخب والعنف" كل الروائيين العرب؟ وتشاء مفارقات القدر أن يدعى جبرا الى تونس للمشاركة في "المهرجان الدولي للزيتونة" في القلعة الكبرى في تونس 18 - 18/12/1994، حيث خصّص يوم كامل لتكريمه. لكن حدس الاديب وشعوره بدنو أجله، دفعه الى الاعتذار مكلّفاً الاديب العراقي ماجد السامرّائي بالقاء كلمة اعتذار وشكر بالنيابة عنه، ولعل تلك الكلمة المعبّرة التي تتفرّد بنشرها "الوسط" راجع الكادر في مكان آخر من هذه الصفحة هي آخر ما خطته يراعة جبرا. يروي ماجد السامرّائي اللحظات الاخيرة التي قضاها برفقة صديقه جبرا: "كنت عنده، مساء الثلثاء الماضي 6/12 تحدّثنا طويلاً كعادتنا، وكانت الكتب والأوراق تحفّ بطاولته... وعلى طاولة أخرى مجلات،ورسائل، وكلمة كتبها لتقديم معرض فنان من جيل آخر، من المقرر أن تنشر في "دليل المعرض". وكان رافق الفنان الى بيته كعادته في مثل هذه الحالات، ليرى أعماله ويناقشه في هذه المسألة أو تلك، ويسجّل ملاحظاته، ثم يعود ليكتب. كان جبرا عادياً لولا مسحة حزن طفيف لمحتها على محياه. ومساء السبت، ليلة سفري الى تونس، اتصلت به هاتفياً. وجاءني صوته المحب، كما اعتدته، مرحباً. قلت له: أريد الاطمئنان الى صحتك. فأخبرني أنه بخير، وان حالة اضطراب نبضات القلب لم تعاوده منذ يوم الثلثاء". ويروي السامرّائي أن جبرا كان متعباً في السنتين الأخيرتين، وكان يبدو لزواره على شيء من "قلق داخلي". وكان منذ أواخر الثمانينات، قد بدأ يعرب عن "هواجس الموت" التي تتسلل الى نفسه. أثناء كتابة روايته الأخيرة "يوميات سراب عفّان"، كان يردد أنه يخشى أن يموت قبل أن يكملها. ويوم أكملها أظهر حالة فرح كبير. ويوم اتفق على نشرها مع سهيل ادريس كان بشوق الى رؤيتها مطبوعة. ولم يره أصدقاؤه المقرّبون أبداً يتعجّل صدور كتاب من كتبه السابقة كما فعل مع هذه الرواية... ثم كان "شارع الأميرات" الذي ضمّ جوانب من سيرته الحافلة التي تلقي الأضواء على شخصيته، وعلى المرحلة التي تبتدئ من بغداد. ويوم صدر الكتاب شعر بفرح كبير، كمن يرى فيه "كتابه الأخير". كتاب تكريمي وفي عمّان قصدت "الوسط" ماهر الكيالي مدير "المؤسسة العربية للدراسات والنشر"، وهي الدار التي نشرت أغلب مؤلفات جبرا وترجماته وأشهرها من المآسي الشكسبيرية الى أعماله الروائية. فكشف الكيالي النقاب عن مشروع ضخم كان الراحل جبرا منكبّاً على انجازه، حول "الحركة التشكيلية في العالم" منذ 1945. كما كان جبرا قبيل وفاته بصدد انجاز جزء ثالث من سيرته الذاتية يغطّي الفترة الممتدة بين "البئر الأولى" 13 عاماً و"شارع الأميرات" 19 عاماً، و"لا أعلم أين وصل في هذا المشروع" يؤكد مدير المؤسسة العربية. وأضاف الكيالي ان المؤسسة العربية للدراسات والنشر، كانت عازمة على تكريم الفقيد في حياته من خلال اصدار كتاب يرصد حياة جبرا وأدبه وتأملاته ونقده، بقلم عدد من كبار المثقفين والمفكرين. والكتاب الذي سيصدر مطلع العام الجديد هو بعنوان "القلق وتمجيد الحياة"، اقترح فكرته صديق جبرا الروائي عبدالرحمن منيف الذي كتب المقدمة والفصل الأول تحت عنوان "دور جبرا في الفن والأدب". بين المساهمين في الكتاب التكريمي نشير الى فيصل دراج الذي كتب عن "الفلسطيني المستحيل"، ومحمد عصفور: "البنية الأسطورية في رواية "صراخ في ليل طويل""، ومحمد شاهين: ""يوميات سراب عفان"، او حصاد المرايا المهشمة"، وشاكر حسن آل سعيد: "جبرا وجماعة بغداد للفن الحديث"، وعبدالواحد لؤلؤة: "معلمي الأول"، وخليل الشيخ: "سيرة جبرا في عالم الرواية"، وعطا عبدالوهاب: "جبرا/ شكله/ صوته/ عقله"، وروجر ألن: "جبرا وفن الترجمة"، وخيري منصور: "يوم في بيت جبرا"، وجنان جاسم حلاوي: "بروميثوس الشعر التموزي": وباهرة محمد: "تأملات في سراب عفان"، وأحمد الزعبي: "الايقاع الروائي في السفينة"، وأسعد محمد علي: "البحث عن وليد مسعود، والتوليفات الموسيقية"، وماجدة حمود: "روايات جبرا"، وعصام الأعرج: "بيبلوغرافيا"، وحليم بركات: "جبرا صديقاً". وتمنى الكيالي ان يعوّض هذا الكتاب ولو جزءاً، من الخسارة الفادحة التي ألحقها رحيل جبرا بحركة الابداع والنشر على حد سواء. وكان التلفزيون الأردني بثّ قبل حوالي أسبوعين من وفاة الأديب جبرا ابراهيم جبرا مقابلة معه، ضمن برنامج "اضاءات" الذي تعده وتقدمه لانا مامكغ. واستعرض جبرا في هذه المقابلة تجربته الحياتية ، ومراحل تطوره الأدبي والفني والنقدي، وعمله في حقل الترجمة، والكتابة بالانكليزية. وتوقف جبرا طويلاً عند محطات الطفولة الاولى في فلسطين، وشقاواته في المدرسة التي كان يشاركه فيها احسان عباس زميله في الدراسة والابداع. ولما سئل جبرا عن الموت والزمن اجاب يومها إنه لا يخشى الموت، ولا يشكل له الاخير أي رعب، معقباً ذلك بضحكة مجلجلة كأنما يهزأ بهذا المصير الذي كان يتربص به، ويهدّد نبضات قلبه المتعب بتوقّف وشيك... النص الوصيّة : أما آن لي ان أحط الرحال ؟ سيدي الفاضل مدير المهرجان، أعزائي الاساتذة الافاضل في وزارة الثقافة التونسية، أيها الاخوة الكرام جميعاً * إنه لشرف كبير لي، في مهرجانكم الدولي، ان تفكروا بتكريمي لما سعيتُ فيه طوال عمري من فكر وكتابة. لا انكر ان دعوتكم الجميلة لتكريمي جاءت على غير توقّعٍ مني، ولكنني لم أُفاجأ بالضبط لمجيئها من تونس، لعلمي بعميق اهتمامكم في هذه الأرض الخضراء، بالابداع العربي، أينما تحقّق في وطننا الكبير، ولعلمي أيضاً برهافة حسكم لمسؤولية الكاتب تجاه قومه وتجاه زمانه، ووعيكم وحدة مصير هذه الأمة، ومكانتها في التاريخ عن طريق مثقفيها في المقام الأول فهم المعبرون عن ثراء شخصيتها، والمؤكدون استمرار مساهمتهم في تنوير الانسان - هذا الانسان المهدد دوماً بالظلام. في مثل هذا السياق، على تعدد مستوياته، وجدتُني اكتب منذ صباي. وما أقبلتُ عليه في البدء بتلقائية المحبّ، وحماس الفتى الذي راحت مشاهد الحياة تثيره وتقلقه وتمتعه، جعلت، فيما بعد، أدرسه، وأتأمل فيه، وأغذيه بالمزيد من المعرفة، فيأتيني بالمزيد من الرؤى. وما كان عشقاً في أوله، بقي معي عشقاً سنة بعد سنة، حتى لأُسائل نفسي أحياناً، والسبعينات من عمري تُسرع بي، كما كانت العشرينات والثلاثينات والأربعينات تسرع، أما آن لي ان أحطّ الرحال؟ وأقول لنفسي: كفى! ولأسترح! ولكن كيف أستريح مما هو النبض الحقيقي في شراييني، كيف أستريح مما هو الصوت الهاتف أبداً في أعماقي طرباً، هوساً، عشقاً، وفجيعة؟ بالكلمة عشت منذ ان أوصاني أبي، ذلك الرجل الرائع الذي لم يكن يملك من حال الدنيا اكثر من الثياب التي على ظهره، ولكنه غنيٌّ بالكلمات الرائعة - أوصاني قائلاً: إسمع الكلمة، يا بنيّ، وادرسها، وانطقها نطقاً جيداً. فالكلمة من عند الله... وما خالفتُ قط وصية أبي: لقد قدّستُ الكلمة، وما كان عشقاً في أوله، بقي عشقاً حتى النهاية. وكلما وجدتُ اليوم شباباً يناقشونني في كتابات لي انجزتها قبل عشرين أو ثلاثين أو أربعين سنة، وكأنني كتبتها البارحة، لا أكتمكم انني أشعر بزهوٍ أرى أن لي حقاً فيه. كنتُ اخشى أنّ كتاباتي هذه قد لا تحمل الى القراء اليوم كلَّ ما شحنتُه فيها ذات يوم من أخيلة وعاطفة ورأي، غير انني أجد انها تأتيهم اليوم وهي ما زالت على شحنتها، وعلى قدرتها على تحريك النفس والعقل، ربما في اتجاه لم يكن ببالي في ما مضى وما الضرُّ في ذلك، ما دامت الكلمة باقية على طاقتها، بل لعلها ازدادت قوّة على قوّة في تحريك النفس والعقل من اجل المزيد من الحياة، من اجل المزيد من الخير والمزيد من الجمال، في عالم ما برح الشرُّ فيه في طغيانٍ وعُتوّ. ومن هنا إيماني بالانسان وقدرته، المستمدة من أروع ما نكتب، على التشبث بحريته وقدسيته، ورفض كل ما يناقض هذه الحرية وهذه القدسية. وما بحوث ندوتكم اليوم حول المتخيّل العربي في الأدب والفن إلاّ إستقصاء لهذه الطاقة على الابقاء، بواسطة الكلمة، على جذوة الروح لدى الانسان في إتقاد مستمر، ما دام صدر الانسان خزيناً تتراكم فيه أحلامه وخيالاته، وتتحرك، وهي تغتني اندفاعاً مع كل كلمة ابداعية جديدة، من أجل غلبةِ الانسان على الموت. فاسمحوا لي، أيها الاخوة الكرام، وأنتم في صدد تأكيدكم المعرفي والنقدي على بعض ما ذهبتُ اليه في كلمتي القصيرة هذه، ان أشكر لكم من أعماق القلب ما قلدتموني به اليوم من شرف، بتكريمكم إياي. وانه لفخر عظيم لي ان أرى ان تكريماً لي كهذا ان هو الا تكريم للكلمة العربية نفسها، التي لها نزدهي نفساً، وننتعشُ روحاً، جميعنا. وفقكم اللّه، والسلام عليكم ورحمة اللّه. * الكلمة التي كتبها جبرا قبيل رحيله لتلقى نيابة عنه في "المهرجان الدولي للزيتونة" تونس، 15-18/1994.