قبل فترة أعلن سميح القاسم استقالته النهائية من الشعر. لكن الرجل المتشبث بشظايا حلم قديم يتهاوى أمام عينيه، سرعان ما عاد أعقابه بحثاً عن توازن ما مع العالم. خلال زيارته العابرة الى باريس التقت "الوسط" الشاعر الفلسطيني المقيم في اسرائيل، وخاضت معه في مجالات ثقافية وسياسية عدة من "شعر المقاومة" الى تحولات المرحلة وقضايا الحكم الذاتي. يعترف القاسم بهزائمه، ف "الوطن لم يتحرر والاشتراكية لم تتحقق، بل تعمقت الاقليمية والطائفية والعشائرية بشكل مفجع". ويتمنى لو ان لديه سوطاً يلتف حول الارض ليجلد به البشرية. الحوار مع سميح القاسم، لا يمكن ان يكون إلا سجالياً. فالشاعر الفلسطيني المعروف الذي رفض مغادرة الاراضي المحتلة وبقي تحت الحكم الاسرائيلي، "دون ان يعني ذلك حصول تطبيع ثقافي بيني وبين اسرائيل" كما يقول، أصدر قبل اسابيع مجموعة شعرية جديدة، مع انه كان اعلن - قبل عامين - استقالته النهائية من الشعر. "الا ان القصيدة هي التي اعادتني الى بيت الطاعة" يقول. التقيناه في باريس حيث أحيا أمسية شعرية ضخمة، فدار الكلام حول آخر مجموعاته في الاسواق "الكتب السبعة" دار الجديد - بيروت، وعن تجربته الشعرية بالمقارنة مع تجارب بعض أقرانه أمثال أدونيس ومحمود درويش وسعدي يوسف. هكذا اعلن القاسم للمرة الاولى عن بعض المواقف الحاسمة، فهو "ضد القصيدة الاستحداثية المصممة من الخارج، التي تلهث وراء الحداثة لوجه الحداثة"، و "ضد الادهاش لوجه الادهاش"، وضد "الصورة الغرائبية الخالية من معنى غرائبي". ويخلص الى القول بأنه بقدر ما يكره الشعر المصطنع بقدر ما يكره ازهار البلاستيك: "قد لا تكون زهرتي أجمل الازهار - يضيف - لكنها الأكثر حياة بالتأكيد"! وعلى عكس إميل حبيبي الذي أعاد النظر جذرياً في تجربته السياسية السابقة، فان سميح القاسم يعلن تمسكه بالمواقف الطليعية التي عُرفت عنه، رغم انه لا يخفي خيباته وأوجاعه ويأسه من الجماهير، والرغبة التي تراوده احياناً في "جلد البشرية" بكرباج يلتف على الكرة الارضية لعل هذه البشرية "تصحو من النكسة التي اصابتها". هنا نص الحوار مع الشاعر الذي صدرت له حتى اليوم أربع وثلاثون مجموعة شعرية، عدا مساهماته الأدبية الاخرى ومقالاته السياسية. * في مجموعتك الشعرية الاخيرة "الكتب السبعة" الصادرة في بيروت، وخلافاً لبعض تجاربك السابقة، نلاحظ ميلاً معتمداً الى التقشف اللغوي وعزوفاً عن الزوائد والزخارف اللغوية. ما هي الخلفيات الجمالية والفكرية لهذا الاختيار؟ - لنقل، منذ البداية، انني لست من المهتمين بوضع نظريات للشعر. وفي اعتقادي ان الشاعر، عندما يبدأ في التنظير، يكون بدأ في الابتعاد عن جوهر العملية الابداعية، فطالما هو في الداخل لا يمكنه ان يحيط بتفاصيل اللعبة الشعرية وخلفياتها. لذلك فمسألة الشكل والمضمون القديمة - الجديدة هذه، لم تشغل ذهني، بشكل استثنائي. لكن لدي قناعة بأن هناك انسجاماً حتمياً بين المضمون والشكل. وبالنسبة الي، فان المضمون هو الأسبق، بمعنى ان الحياة سابقة للتعبير الفني عنها. ويبدو لي أن مساحة شاسعة من الشعر العربي حالياً تسودها العملية العكسية، بحيث ان الشاعر يهتم بالشكل أولاً ثم يبحث له عن مضمون مناسب. وهذا النهج يبدو لي ضحلاً وغير جدي على الاطلاق. في مجموعتي الاخيرة، هناك محاولة لاستيعاب الواقع الجديد نفسياً وفكرياً وسياسياً واجتماعياً. وهي محاولة تستدعي بالضرورة محاولة صياغة شكل جديد. ولأن المجموعة بشكل عام ذات نفس قد تجوز تسميته ب "الصوفية الحديثة"، فمن الطبيعي ان يكون الشكل منسجماً مع طبيعة هذا المضمون، وفيه كثير من التقشف، كما اشرت. فمفهوم التصوف متصل في بُردة من الحرير الفضفاض المزركش و "الدانتيل"، وكل ما له علاقة بمسائل الصنعة الشعرية. لا داعي للمكابرة! * الملاحظ أن قصائد هذه المجموعة الجديدة تلتزم بالتفعيلة والقافية، فأين انت من تجاربك الاكثر تحرراً في "كولاج" وغيرها؟ واللافت ايضاً ان المجموعة في عمومها تعتمد وزناً وحيداً بحر المتقارب، في اغلب القصائد، على الرغم من الثراء الايقاعي الذي تتيحه الاوزان الاخرى. يذكّرني هذا بقول احد النقاد: "التزم المعري لزوم ما لا يلزم، ليقيم الحجة على عبودية سادت زمانه". فما رأيك؟ - في البدء دعني اصحح لك انه ليس هناك وزن وحيد في قصائد المجموعة، بل أوزان عدة، لكنها متداخلة بحيث اردت لها ان تشكل في النهاية مناخاً ايقاعياً يبدو وكأنه واحد. وما تعبر عنه من احساس بوجود ايقاع واحد هو لي بمثابة اطراء. فرغبتي الاصلية كانت صياغة مجموعة ذات مناخ نفسي وايقاعي متجانس، مع ان المجموعة الشعرية تولد عموماً من تراكم مناخات متعددة، سواء من حيث المعاني او الافكار او الاحاسيس او الايقاعات. واذا كان ديواني يوحي فعلاً بما يمكن تسميته "وحدة المجموعة" كامتداد لوحدة القصيدة، فأنا اعتبر انها حققت غرضها خير تحقيق. ما رميتُ اليه هو التعبير عن حالة تجد تفسيرها في طبيعة المضامين التي تمليها عليّ هذه المرحلة الجديدة، وهي مرحلة خفوت الخارج وطغيان الداخل. وهذه المرحلة مختلفة، بغض النظر عن كونها أحسن أو أسوأ من سابقاتها... * في حزيران يونيو الماضي، وقف سميح القاسم الى جانب محمود درويش في تونس للاعلان شعرياً عن انتهاء مرحلة اخرى من معاناة الشعب الفلسطيني، وطي صفحة من ملحمة "المنفى". لكن الغالب على مجموعتك الجديدة هو النظرة الرمادية الى الحاضر والتوقعات الكارثية بالنسبة الى المستقبل. - لعل أهم سماتي، من حيث المعنى الشعري، الصدق والعفوية واعتقد ان هناك اجماعاً نقدياً على هذه المسألة. فحتى لو اردت ان ازور مشاعري وأحاسيسي، لا اظنني سأوفّق في مسعاي. وليس سراً ان المرحلة التاريخية الجديدة التي نعيشها تناقض بشكل جذري كل الأسس الفكرية والانسانية التي بنيتُ عليها تجربة شعرية طويلة، قائمة على افكار تحرير الوطن، وبناء الوحدة العربية، وانتصار الاشتراكية في العالم... لا داعي للمكابرة اليوم. لم يتحرر الوطن، بل جزء ضئيل منه. لم تتحقق الوحدة العربية، بل على النقيض تعمقت الاقليمية والطائفية والعشائرية بشكل مفجع. وعلى المستوى الدولي، فأن الاشتراكية لم تنتصر، بل أُصيبت بنكسة تاريخية رهيبة وبعد سبعين عاماً من التجربة، انهار ذلك القصر الفكري والروحي الذي وضعنا فيه دمنا وشبابنا. وسيكون كذباً وتمويهاً، لو لم تظهر في شعري تعابير تميل الى ما يشبه اليأس الذي لا يسعني ان استسلم اليه كلياً. فبنيتي النفسية قائمة على عناد بلا حدود. لكني، مهما عاندت، لا استطيع - ولا أريد اصلاً! - ان أخفي خيباتي وأوجاعي الناتجة عن حالات الانتكاس والسقوط والفشل التي أواجهها. كل ما بوسعي هو ان أبقى متمسكاً بحلم أراه يتفتت ويتهاوى، الا انني اتشبث بشظاياه، لأن قناعتي لم تتغير وأشعر ان منطلقاتي سليمة. فحرية الوطن ووحدة الامة والعدالة الاجتماعية لكل البشر، هي منطلقات ما ازال مصراً على انها ضرورية وممكنة ومبررة، وهي لا تسيء الى أحد. * نقل عنك منظمو أمسيتك الباريسية الاخيرة في "معهد العالم العربي" قولك: "لو اننا اصبحنا اطباء او مهندسين، لكنا اكثر فائدة لشعبنا". كيف تفسر هذا التناقض مع ما كتبته ذات يوم الى محمود درويش، على صفحات مجلة "اليوم السابع": "كان آباؤنا وذوونا يريدون لنا ان نصبح اطباء او مهندسين او من ذوي الدخل الأكيد الذي يبعد عنا الشقاء، ففضلنا ان نكون وعياً شقياً الا انه يبدع السعادة..."؟ - قبل فترة أصدرت بياناً بعنوان "رسالة من سميح القاسم الى سميح القاسم"، فيه هجوم شرس من سميح الانسان على سميح الشاعر، وأعلنتُ آنذاك استقالتي النهائية من الشعر. لكننا نحن العرب لدينا مفهوم "بيت الطاعة": بسرعة أعادني الشعر الى بيت الطاعة! ويبدو انه لا فرار للشاعر من هذه المحنة وهذه اللعنة بالطبع، حين ترى الى احلامك وأشواقك وهي تتشتت وتتبدد وتُبتلى بالخيبات، تقول في لحظات معينة دعني من هذا الامر كله. لكننا في النهاية نبقى اسرى اقدارنا وأسرى خياراتنا الاساسية. والخيار الاساسي لدي هو محاولة اقامة توازن معين مع العالم، ومع البشر، ومع الجغرافيا، بواسطة اداة هي الشعر. ولا فكاك من هذا الاختيار... موت الشعر الملتزم؟ * هناك ايضاً في مجموعتك الاخيرة "يأس" آخر معاكس، هو يأس الاديب من الجماهير: "أقول: فلا ترحموا الفقراء / الى ان تلوح على فقرهم / راية غاضبة ... ولا تنجدوا الضعفاء / اذا استمرأوا ضعفهم / واستكانوا...". هل توافق القائلين بموت الشعر السياسي او الملتزم، بعد انهيار الخلفية الايديولوجية التي كان يستند اليها؟ - اعتقد ان الشعر بشكل عام ليس مسألة قناعات، بل مسألة انفجارات حميمية في لحظات معينة. كنتُ صادقاً عندما كتبت المقاطع التي ذكرت، بل أنني اتمنى احياناً لو يكون لدي "كرباج" يلتف على الكرة الارضية لأجلد به مليارات البشر السبعة! واحسست بشهوة حقيقية في جلد البشرية علها تصحو من النكسة التي اصابتها، تماماً مثلها نوجه صفعة الى السكير او المُغمى عليه ليصحو... وفي نهاية الامر، حاولت من خلال الأبيات المشار اليها ان أعبّر عن رغبتي في ولادة جديدة من هذه الصحراء المحيطة بنا، ولادة تنطلق من نطفة الأمس لتكوين مستقبل يقوم على انقاض هذا الحاضر غير المُرْضي على كافة الصعد. اما بالنسبة الى مسألة الشعر السياسي، فإني لا أؤمن بهذه التجزئة الى سياسي وعاطفي، وشعر رثاء، وهجاء... الخ. وأنا رفضت دوماً ان أصنّف في خانة الشعر السياسي. واعتقد ان هناك سوء طوية لدى النقاد، وبعض أشباه النقاد، الذين يحاولون حصر تجربتي في خانة الشعب السياسي. والذين يقولون اليوم بانتهاء شعر المقاومة او يتساءلون: ماذا سيبقى من شعر المقاومة؟ يقولون ذلك بلهجة من التشفي والعدائية، وهي لهجة بعيدة جداً عن الموضوعية. فتح عمورية مثلاً، ليس الا حدثاً ثانوياً في التاريخ، لكن قصيدة أبي تمام تبقى قصيدة عظيمة وجميلة. وحين نقرأ رثاء المتبني لأم سيف الدولة، نتساءل ماذا يمثل سيف الدولة وأمه في التاريخ؟ لا شيء تقريباً. لكن قصيدة المتنبي تبقى معلماً بارزاً في الشعر العالمي. لذلك اعتبرها محاولات للاهانة والتقزيم. فقصيدتي هي قصيدة حياة بكل ما فيها من سياسة، وحب وكراهية، وشعور بالعزلة وشعور بالانتماء، بكل ما فيها من حزن وفرح، من يأس وتفاؤل، من أمل وخيبة... هذه هي قصيدتي التي يعرفها الناس ويُقبل عليها سواء اولئك الذين يؤيدون فكري السياسي او الذين يعارضونه. والحقيقة الثابتة، التي لا يستطيع ان يتطاول عليها أحد، هي ان شعري هو شعر تجربة قومية كبيرة، وشعر أمة بأسرها، يحس به الخليجي والمشرقي والمغاربي... * بغض النظر عن كلام النقاد، كيف يكتب سميح القاسم اليوم؟ وكيف ينظر الى تطور تجربته الشعرية، في ظل التحولات الجذرية التي تعصف بالعالم وبالمنطقة العربية، مقارنة بالمنحى الذي أخذته تجارب أقرانه، كأدونيس، ومحمود درويش، وسعدي يوسف... - الشعر في خلاصة الأمر هو تجربة فردية وذاتية، وحتى لو كانت هناك ملامح مشتركة بين مجموعة من الشعراء فإنها محدودة، ويظل الأساس هو التجربة الفردية. لهذا فإني من حيث المبدأ لست متحمساً للمقارنات. فكل من درويش او أدونيس او سعدي يوسف، له تجربة خاصة محكومة بظروف شخصية. ولذا فإن تجاربنا مختلفة عن بعضها، اختلافات بيئية وفكرية وسياسية. ولكن هناك أموراً مشتركة هي الهواجس الفنية او الشعرية. وأنا لا أريد ولا أقبل بمحاولات وضع أنموذج وفرضه على مجمل الساحة الشعرية. أعطيك مثلاً: انموذج أدونيس هو أنموذج راق في حد ذاته، وأنا احترم ادونيس الى ابعد الحدود، وأعتبره شاعراً ومبدعاً كبيراً وصاحب مدرسة. لكن إعجابي وتقديري له لا يلغيان كياني الخاص ومدرستي الخاصة المختلفة عن مدارس أدونيس ودرويش وكل الآخرين... شعر البلاستيك وشعر المقاومة * جاء في تمهيدك لأمسية باريس: "من يحبون "شعر البلاستيك" ما عليهم الا ان يغادروا هذه القاعة، فأنا ليست لدي سوى ازهار الجليل الحية". فهل في تلك الاشارة تلميح الى موقفك من بعض التجارب الشعرية العربية الراهنة؟ - حين قلت هذه الجملة قصدت ان أرمي قنبلة موقوتة وسط المشهد الشعري الراهن! كفانا تحملاً للقصيدة المصممة من الخارج، أي القصيدة "الاستحداثية" التي تلهث وراء الحداثة لوجه الحداثة. لم يعد القارئ يحتمل الإدهاش لوجه الإدهاش. ولم أعد أطيق الصورة الغرائبية الخالية من معنى غرائبي. وفي النهاية، لست مع زهرة البلاستيك بل مع الزهرة الحية، مهما أصاب هذه الزهرة الحية، من تشوهات بسبب تلوث البيئة! وقد لا تكون زهرتي اجمل الازهار، لكنها من دون شك أكثر الازهار حياة. هناك أزهار جميلة كثيرة، لكنني افضل زهرة "القندول" وهي زهرة لن تجدها في اي دكان ورود، او في أي صالون عدا في الطبيعة. لست ملزماً بمعرفة زهور باريس وأسمائها وصفاتها، لأنني لا أعيشها. انا احترمها بالطبع وأحترم عشاقها وجمهورها، لكنها لم تغنيني عن زهرتي الخاصة بشوكها وقبحها الجميل او جمالها البشع... * وكيف ينظر سميح القاسم الى "شعر المقاومة"، على ضوء المرحلة؟ - نحن لا نخترع ظروف الاحتلال خصيصاً من أجل شعر المقاومة، بل تعاملنا مع واقع فُرض علينا. وحتى تسمية "شعر المقاومة"، التي هي مستمدة حسب النقاد من قصيدتي "سأقاوم" 1960، لم نكن على وعي بها في البداية. البعض دخل في نقاشات حولنا، هل نحن شعراء مقاومة، او شعراء احتجاج... الخ. اما نحن، فقد كانت كل هذه الامور غائبة عن اذهاننا، ولم نفكر فيها على الاطلاق. بل كنا بكل بساطة شعراء حياة، كما قلتُ آنفاً. وبتغير الظروف والمعطيات السياسية، لا بد من حصول تغييرات في مضامين وأشكال اشعارنا. فقصائد مثل "أتحدى" أو "سأقاوم"، لم تعد راهنة اليوم، فيما العالم العربي بأكمله يتدفق نحو السلام مع اسرائيل. هناك وضع جديد ينشأ حالياً في العلاقات والنفسيات وهذا الوضع الجديد هو الانشغال الأساسي لشعرنا في المرحلة الحالية. فقصيدتنا المقبلة لا بد من ان تكون قصيدة البناء بدل قصيدة الانقاض، قصيدة العودة، بدل قصيدة الرحيل وقصيدة الوطن بدل قصيدة المنفى. شعرنا هو الشعر ذاته، لكن المواضيع والمعطيات تتغير، وتبعاً لذلك، لا بد ان تطرأ على قصائدنا تبدلات في ايقاعاتها وألوانها وصورها... * بين قصائدك الجديدة واحدة بعنوان "شهادة وفاة للديناصور الأخير"، أهديتها الى الراحل توفيق زياد، والى "كل الديناصورات الآدمية من رواد جيل الحلم بتحرير الوطن، وبالوحدة العربية، وبانتصار الاشتراكية"، وهي "أعمدة الهيكل الثلاثة المنهارة" كما جاء في كلمة الإهداء. من جهته، استقال اميل حبيبي من جميع مناصبه الحزبية، قبل مدة، ووصف تجربته السياسية في حديث الى "الوسط" بأنها كانت "أشبه بعبور صحراء شاسعة". فهل تشعر بانتمائك الى الخيبة ذاتها؟ - هناك تناقض تام ونهائي بين رؤيتي لماضيَ السياسي ورؤية اميل حبيبي. وهذا أمر أود ان يكون واضحاً وجلياً. فاذا كان حبيبي بعد أربعين سنة من النضال، يكتشف انه قضاها في صحراء، فهذه مشكلته. فإما انه لم يكن صادقاً مع نفسه، طيلة اربعين عاماً. او انه كان يكذب، عن عمد وسبق اصرار، طيلة اربعين عاماً. او انه كان غبياً، طيلة اربعين عاماً! اما انا فأعتز بكل لحظة في حياتي السياسية السابقة. واذا كانت لدي اخطاء سياسية، فهي اخطاء صغيرة لا تُقارن بالخطأ الفادح الذي اصاب العالم. كنت وما أزال ضد العنصرية، وضد الصهيونية، وضد استغلال البشر، وضد الاستعمار. لم أخطئ في قناعاتي هذه في الماضي، وأنا على حق الآن، وسأظل على حق الى ما شاء الله تعالى. وليس لدي ما أتبرأ منه في ماضيّ المكافح المعمد بالدم والدموع والعرق والصدق. لم اكذب اربعين عاماً، ولن اكذب اربعين عاماً اخرى. انا ضد الواقع السياسي العربي الحالي، على طول الخط. وأعتقد اننا محكومون الى الآن ب "سايكس - بيكو"، ولا يزال يحكمنا وزيرا خارجية بريطانيا وفرنسا وأنا لا أزال متشبثاً بحق العرب في الوحدة، وحق المسلمين في التحرر والكرامة، وحق البشر في الحصول على حقوق الانسان بمعناها الحقيقي، وليس بأكاذيب الاعلام الغربي وشعاراته البراقة. لهذا فليس لدي ما أتبرأ منه، وأنا لست نادماً على شيء، ولا أحس بأني أخطأت في سياستي وفي عملي وفي فكري وفي شعري... * إذن، عبارة "الديناصور الاخير"، في قصيدتك الاخيرة، تكتسي معنى ايجابياً؟ - الديناصور الاخير هو أنا، وهو هذا الجيل الذي انتمي اليه، والذي يختلف، بلوعته الفكرية وحماسه ورؤيته القومية والكونية، عما هو سائد الآن. لكن اختلافه لا يعني انه على خطأ. انه جيل مختلف وسينقرض لتأتي اجيال اخرى بمفاهيم جديدة، وربما بالمفاهيم ذاتها، لكن بأساليب اخرى وأدوات جديدة. ولا بأس في ذلك... "فلسطين أولاً"! * في أمسيتك الباريسية صرّحت ان عبارة "غزة - أريحا أولاً" لا تنسجم مع القافية، والوزن الشعري فيها مكسور، ولذا فإن شعار الشاعر يجب ان يظل هو "فلسطين أولاً"! لكنك بالمقابل أوضحت انك لا تريد المزايدة على القيادة الفلسطينية وانك لا تعارض في تحرير شبر واحد من أرض الوطن. فما هو موقفك بالضبط من مشروع الحكم الذاتي؟ - من أبغض الأمور عليّ الظلم. ولذا فأنا لا أريد أن أظلم القيادة الفلسطينية لأني، من معرفتي الشخصية، على يقين من انها قيادة وطنية وصادقة وأصيلة، من ياسر عرفات حتى أصغر موظف في ادارة شؤون الثورة. وأنا اكره التشكك، لأنه اذا كان بعض الظن إثماً، فإن كثيره جريمة. لكنني احس ان ما حصلنا عليه هو اقل بكثير مما كان يمكن ان نحصل عليه. وليس السبب في هذا كون القيادة مفرّطة او استسلامية، وما الى ذلك من تعابير مرتجلة ورائجة في السوق السياسية. اذ لا بد ان نتفهم ان اتفاق اوسلو جاء بعد حرب الخليج، وبعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وتأكد الهيمنة الاميركية المطلقة على العالم، وفي مناخ عربي تسوده صراعات اقليمية وطائفية وقبلية رهيبة. وكل انجاز هو في النهاية مرهون بالظروف التي أنتجته، ولهذا فأنا مع هذا الانجاز الفلسطيني، رغم احساسي بأنه "انجاز قليل". * وكيف تتصور مستقبل هذا "الانجاز القليل"، خصوصاً انك في روايتك "الصورة الاخيرة في الألبوم" تشير الى وجود تقارب بين الاسرائيلي والفلسطيني على المستوى الشعبي، وعلى الرغم من الصراع السياسي. اما الآن، فإن الانطباع السائد هو النقيض تماماً، اي التنافر الشعبي المتبادل رغم التقارب الحاصل بين القادة السياسيين؟ - اعتقد ان المستوى الشعبي كان ولا يزال اقرب الى التفاعل من المستوى السياسي. صحيح ان الملوك والرؤساء يلتقون والجماهير لا تلتقي. ولكن في غياب اللقاء بين الجماهير، يظل هناك شيء اساسي هو ان مصلحة الأم العربية في ان ينشأ ابنها في ظروف حسنة، وان يتعلم، وان تسعد به. والأمر نفسه بالنسبة الى الأم الاسرائيلية، وكل أم في العالم. لم أؤمن في اي وقت من الاوقات بالتناقض او التناحر التام والحاسم بين الشعوب، لأن رغبة اي شعب في نهاية المطاف هي السلام والتقدم والازدهار. تأمين البيت الافضل، الادوات المنزلية الاحدث، الاسرة السعيدة، المدارس والمستشفيات الاكثر تطوراً، هذه هي طموحات الشعوب. ولكن على مستوى القيادات، هناك تيارات غير مرئية تلعب بها اجهزة السياسة الدولية لمصالح شركات او دول او مؤسسات. الى درجة ان صناعات الاسلحة عبر العالم بامكانها ان تشوه احلام الشعوب... * ما هو تعليق سميح القاسم على قضية منع السلطات الاسرائيلية عودة الشاعر محمود درويش لزيارة الاراضي المحتلة؟ اميل حبيبي قال ان الشاعر لم يمنع من العودة، وان الضجة المثارة حول هذه المسألة كلها مفتعلة... - من شأن اميل حبيبي ان يتحول ناطقاً باسم الحكومة الاسرائيلية! ربما يكون مكلفاً بذلك او متطوعاً، وهذا من حقه. لكن الحقيقة الثابتة ان محمود درويش مُنع من العودة. والمهم في كل هذه المسألة هو احترام حق العودة لكل مبعد او مشرد يريد الرجوع الى ارض وطنه، وهذا حق مطلق وغير قابل للتجزئة او التفاوض. يبقى ان امكانات تحقيق هذا الحق مرهونة بالتوازنات السياسية والعسكرية. لكن الحق يبقى جوهرياً، وأبدياً، وغير قابل للمساومة. * وما رأي سميح القاسم في الضجة التي أثيرت حول زيارات بعض المثقفين العرب الى اسرائيل؟ وهل تعتقد أن زمن "التطبيع الثقافي" قد جاء؟ - أولاً، اي مثقف، او مواطن، او عامل، او مزارع عربي يشعر بالرغبة في زيارة فلسطين، فأنا أرحب به في بيتي الصغير في الرامة. وأنا لا اقبل اعتبار هذه الزيارات تطبيعاً، بأي معنى من المعاني، مع اسرائيل. فالذي يزورني انما يزورني في وطني وليس في دولتي او نظامي السياسي. الذين يعتبرون ان هذا الوطن هو وطننا الشرعي يستطيعون ان يزورونا كما نزورهم. وأنا تلقيت دعوة لزيارة قطر، وسألبيها قريباً بكل سرور. لأنني اعتبر هذه الارض وطني، من المحيط الى الخليج. وهنا يتضح الوحدوي الحقيقي من الوحدوي المزور، وينكشف حملة الشعارات الفارغة. أنا أعيش تحت الحكم الاسرائيلي، ولكن لا اعتقد ان هناك تطبيعاً ثقافياً بيني وبين اسرائيل. هناك حواراً، نعم. وانا شريك نشيط في الحوارات بين المثقفين العرب واليهود، وبين الفلسطينيين والاسرائيليين، وأنادي بالحوار الحضاري مع كل شعوب العالم، ومع الاسرائيليين بالدرجة الاولى لأنهم طرف مباشر في المعادلة المصيرية التي نعيش. لذلك فمن يحاور المثقفين الاسرائيليين، انما يقوم بعمل وطني حضاري من الدرجة الاولى. وأولئك الذين شنوا هجوماً شرساً على أدونيس لمجرد انه شارك في "ندوة غرناطة"، برفقة مثقفين اسرائيليين اعتقد ان دوافعهم ليست وطنية. أنا حاورت "كاهانا" شخصياً الحاخام اليميني المتطرف الذي اغتيل في نيويورك، ولم أشعر انني تلوثت. والحوار بالنسبة الي مهمة وطنية، وليس تطبيعاً. مقطع من آخر قصائده شهادة وفاة للديناصور الأخير مهداة الى توفيق زياد يباغت أعيادهم ويموتْ هو الديناصور الأخيرْ شهادة ميلاده نثرتها العواصف ليلاً قبيل انتهاء الهَزيع الأخيرْ لحلم أخيرْ انا الربذي شهدت الوفاة وأعلنُ: لا شيء غير الظلامْ. جناح يرفّ على الغمضِ ريح تفحّ ولا شيءَ غير جذوع من الطلح عملاقة جرّدتها النجومْ. ولا شيء غير أنين الصخور على الجرحِ ليل ثقيل هياكل عظيمةٌ ضخمةٌ ورماد على صفحة الماء في البركة الراكده. وغيم بطيء يمر على جبهة الديناصور الأخير ونظرته الجامده وتأخذني رعشة هوذا الآن يسكنني أنذا الآن أسكنه الديناصور الوحيد وراء سلالته البائده. ولا شيء غير هبوط الحرارة دون تخوم الطبيعه لا شيء غير انطفاء النجوم البعيدة في عتمة الدمعة الوافده يباغت أعيادهم ويموتْ...