في حديقة استوائية صغيرة ترتاح في ضاحية لندنية قريبة من مطار هيثرو، يخف الفراش لاستقبال الزائر، فما ان يدلف المرء الى الحديقة حتى يجد نفسه وسط غابة من الأجنحة الملونة، اذ ان الفراش الذي تنبه الى وجود ضيف غريب جاء يستطلع الأمر، لكن الكائنات الصغيرة التي تسكن الحديقة، المخبأة تحت سقف زجاجي لا تخفض حرارتها عن 25 درجة مئوية كي تضع تلك الوافدة من مناطق استوائية في مناخ ملائم، لا تأمن الغرباء للوهلة الأولى. وفيما يحوم بعضها على مسافة من الضيف يرقبه عن بعد، يكاد هذا يشعر برفيف أجنحة فراشات أخرى لا تبالي بالخوف. ومع ذلك، لا تغامر بحط رحالها على كتف الزائر حتى وإن كان حجمها كبيراً يبعث فيه الرهبة، بل تمضي شيئاً من الوقت وهي تتأمله بعناية. والضيف الذي يكسب ثقة الفراشات لا ينعم برفقة ساكنات الحديقة، التي يتراوح عددها بين 500 و1200، دفعة واحدة الا اذا كان محظوظاً لدرجة استثنائية، فبينما لا يأبه بعضها بالفضاء الانكليزي المتلبد، يفضل آخر الإنزواء لدى احتجاب الشمس ويكف عن الطيران بمرحه المعهود فلا يراه المرء الا نادراً. وبينها من يطيب لها الخلود الى الراحة والاستمتاع بقيلولة طويلة في ظهيرة يوم دافئ تاركة فضاء الحديقة وأزهارها للفراشات المشاغبة التي لا تمل اللهو. 150 نوعاً وعلى هذا النحو تختلف طباع الفراشات باختلاف البيئات الأصلية التي وفدت منها. وما تضمه الحديقة من هذه المخلوقات الجميلة موزع على 150 صنفاً معظمها مستورد من القارتين الآسيوية والأميركية. اذ أتى أصحاب الحديقة أول الأمر بمجموعة منتخبة من بيوض الفراش التي اشتهرت بها الهند، الفيليبين، سيريلانكا، ماليزيا، الصين، أميركا اللاتينية وغيرها. وبعدما تحولت البيوض الى فراشات صغيرة واصل المختصون، الذين أحاطوها برعايتهم منذ وصولها، العمل على تأمين المناخ والغذاء والظروف الأخرى التي تضمن لها "عيشة" طبيعية. ومن أهم أسباب الحياة هذه هي النباتات التي يضم بيت الفراش اللندني منها مجموعة واسعة. حتى ان الزائر يحسب نفسه في حديقة استوائية تغص بأغصان مثقلة بورود يانعة تضفي على المكان سحراً خاصاً. لكن هذه اللوحة الطبيعية لم تُرسم لتمتع العين وحسب، فكل شجيرة تفي بحاجة عملية. ونباتات البيت اللندني تُقسم الى مجموعتين رئيسيتين، الأولى مؤلفة من تلك التي تشكل مصادر للرحيق الذي يتغذى عليه الفراش ويستمد منه الطاقة اللازمة لحياته وطيرانه اللاهي. ومعروف ان الفراش، كالنحل، يرد الجميل للنباتات بأحسن منه. فكلاهما يعتمد على الآخر في تأدية خدمة حيوية: هي تعطيه الرحيق وهو يحمل غبار الطلع على أشعار قوائمه وجسده من زهرة الى أخرى فتتلقح وتثمر من جديد عندما يحين الأوان. ونباتات الرحيق تتعدد بتعدد أنواع الفراش الذي يسكن البيت اللندني، فمستودع الرحيق في بعضها يكاد يكون مكشوفاً في مكان قريب من أعلى الوردة ما يناسب الفراشة التي تتميز بقصر قوائمها ولسانها، أما "طويلة اللسان" والقوائم فتستطيع ان تنهل الرحيق المخبأ بعيداً في قلب أزهار أخرى. الفراشات المولعة بالألوان كما يبدي بعض الفراش ولعاً بألوان معينة فيقبل على البراعم الحمراء والصفراء والمائلة الى الزرقة التي تزين المزرعة الصغيرة الا ان لكل صنف من الفراش لونه المفضل، وقد يتغير هذا اللون حسب طور الحياة الذي تمر به الفراشة، ومعظمه يتجنب الورود المائلة وتلك المحنية التي تتوضع في نهاية غصن مقوس يتجه الى الأسفل، حتى ولو كانت غنية بالرحيق. فالفراش يرغب عادة بالبراعم المتساوقة المتجهة نحو صوب السماء. وعدا هذا كله تضم الحديقة اللندنية نباتات يعيش عليها الفراش في أول مراحل حياته، حين يكون يرقانة خرجت للتو من البيضة، ويلاحظ الزائر المدقق تنوع هذه النباتات، فاليرقانات أيضاً لا تتفق في اختيار غذائها. لا بل معظمها يضطر الى الاكتفاء بنوع معين من الغذاء لأنه يعجز عن التغلب على المقاومة الكيماوية التي تبديها النباتات الأخرى. مثلاً، ينتج أحد النباتات مادة سُمية بوسعها قتل أي يرقانة ما عدا تلك المخططة التي تتحول في ما بعد الى فراشات "الملكة" و"الملك". فهذه تخزن السم الذي يقضي على الحشرة التي تتجرأ على التهامها. وتلجأ نباتات أخرى الى وسائل مختلفة لمقاومة اليرقانات والفراش. فعلى أوراق "وردة العاطفة" تتوضع كريات صغيرة مليئة بالرحيق هي أشبه ببيوض الفراش. وهذه تُنّفر الفراش وتمنعه من وضع بيوضه على الوردة، واذا غامر فستكون طعاماً للنمل الذي يزحف على الوردة باحثاً عن كريات الرحيق. عمرها قصير وعمر الفراشات، ككل الأشياء الجميلة في حياتنا، قصير. ولئن كانت السعادة تُقاس باللحظات فالفراش يعيش أياماً عدة. اذ تستغرق دورة حياته في المزرعة اللندنية أسبوعين ونيف، وكأنه يشتري نصف عمره لقاء بقائه في الأسر، اذ ان الذي يعيش حراً في الطبيعة يموت عادة في غضون أسبوع من رؤيته النور. والإستثناء الوحيد للقاعدة هو الصنف المسمى "زِبرا"، فهذا يبقى على قيد الحياة قرابة عشرة أشهر. الا ان الفراشات، بوجه العموم، كائنات ضعيفة تسقط لقمة سائغة لأية حشرة عابرة. وحتى تلك العملاقة، التي يكاد الزائر يخالها أفراخ ضفادع تستمتع بحمام شمسي على شجيرات البيت اللندني، لم تكن لتبقى في مأمن من الخطر لولا انها تعيش في "الأسر" بعيداً عن الطيور والحشرات التي تقتات عليها عادة. وإذا حُرمت الفراشات من العضلات القوية التي تجعلها قادرة على صد هجوم داهم، فهي رُزقت بوسيلة أخرى تسهم في حمايتها من الأعداء. اذ ان الألوان والتشكيلات الفنية البديعة التي توشي أجنحة الفراشة ليست مجرد تزويقات آخاذة غايتها تقريب هذا الكائن الى قلب الانسان، بل ان غايتها الأساسية هي تمويه الفراشة. من الطبيعي اذن ان تتباين ألوان وأشكال الأجنحة بتباين أوطانها الأصلية. ولبعضها أجنحة طريفة خادعة مثل تلك التي تتمتع بها فراشة "الطاووس". فهذه ترسم على جناحيها الزاهيين أربعة أشكال تبدو كأنها عيون ضخمة متميزة بألوانها القوية عن باقي الأجنحة. وبفضل هذا التصميم اللافت للأجنحة ينجو رأس الفراشة وجسمها الناحل من مناقيد الطيور، التي تنطلي عليها الحيلة بسهولة فتهاجم "العيون" البارزة وكأنها مصدر خطر وشيك. الفراش السام وثمة نوع آخر من الفراش يجبر الطيور والحشرات على الابتعاد عنه اذا كانت لا تنوي الانتحار، فمن يتجرأ على التهامه سيلقى موتاً محتماً بالسم المخزن في جسم هذا الفراش المعروف بإسمي "الملكة" و"الملك". ولما كانت أجنحة الفراش الذي يدعى "نائب الملك" شبيهة للغاية بأجنحة الفراش السام بنية اللون فلا خطر شديداً عليه من طير جائع يبحث عن وليمة. لكن، بطبيعة الحال، هذا كله لا يضمن للفراش النجاة دوماً، ومعظمه يعيش أياماً قليلة فقط على الأغلب. لذلك تحتفظ المزرعة، التي تعد واحدة من أكبر بيوت الفراش في الجنوب الانكليزي، دوماً بمؤونة كافية من البيوض تساعدها على التعويض عن الوفيات. وهي على علاقة وثيقة بعددٍ من مزارع الفراش في بريطانيا وخارجها حيث يسافر القائمون عليها بانتظام للتزود بالبيوض وتبادل الخبرة بخصوص أساليب تربية الفراش والعناية به. وقبل سنوات قرر أصحاب المزرعة اللندنية توسيع رقعة نشاطهم فأقاموا بيتين للفراش في تايلاندا والفيليبين. وشجعهم نجاح المشروع على تأسيس مزرعتين جديدتين في بيليز وكوستاريكا، هما حالياً قيد الانجاز. وينتظر ان تكون هذه المزارع الأربعة مصادر تمدّ بيت الفراش الانكليزي بالبيوض على نحو ثابت. أما الفائض من انتاجها فسيذهب الى زبائن منتشرين في بريطانيا وأوروبا.