يزداد الوعي في اسرائيل بالعزلة الثقافية عن المحيط، عزلة تحاصر هذا المجتمع المستحدث وتجعل المبادرات الرسمية وغير الرسمية تتضاعف للحد من هذه القطيعة. وفي هذا السياق كثرت محاولات "استدراج" من يمكن استدراجه من الكتّاب والادباء والفنانين المصريين الى زيارة اسرائيل. فجذب المثقفين واحتواؤهم، يلعب أيضاً دوراً أكيداً في التأثير بالرأي العام المصري، والتخفيف من صلابة الموقف المصري الشعبي الرافض لاجراءات التطبيع. ولعل التناقض الواضح في الخطاب الاسرائيلي بين ما هو "سياسي" وما هو "ثقافي" يلعب دوراً حاسماً في هذا المجال. وفي هذا السياق ليست الزيارة التي قام بها الكاتب المسرحي علي سالم في أيار مايو الماضي الى اسرائيل، هي الاولى من نوعها، ويقيناً لن تكون الاخيرة. فمنذ عام 1977 زارها عدد كبير من الكتّاب والصحافيين الذين اشتهروا لاحقاً كدعاة بارزين للتطبيع، كما زارها عدد من التقنيين واساتذة الجامعات، غير ان الادباء والشعراء والفنانين الذين "غامروا بالزيارة" يعدون على اصابع اليد الواحدة. إذ إن المبدعين تحديداً، يشكلون جبهة صارمة بوجه اجراءات التطبيع، وتلعب لجنة الدفاع عن الحريات والثقافة القومية التي تترأسها الدكتورة لطيفة الزيات دوراً بارزاً في هذا المجال، فيما يتبنى اتحاد الكتاب المصري موقفاً محايداً، اذ تخلو سجلاته من اي قرار بمنع أعضائه من التعامل مع اسرائيل، كما أن أي بيان استنكار للسلوك الاسرائيلي العدواني لم يصدر عنه منذ العام 1977. ويفسر الشاعر المصري وعضو الاتحاد سمير عبدالباقي هذا الامر بخضوع الاتحاد منذ انشائه لسيطرة نخبة من الذين التقوا مع سياسة السادات. فقد ترأسه في البداية يوسف السباعي الذي رافق الرئيس المصري الراحل في زيارته الى لقدس. أما رئيسه الحالي فهو الكاتب والروائي ثروت أباظة، المعروف بعدائه لتوجهات ثورة 1952، وأحد الذين التقوا الرئيس الاسرائيلي اسحق نافون خلال زيارته الى مصر في السادس والعشرين من تشرين الاول اكتوبر 1980.ويعتبر البعض في القاهرة أن صلابة موقف المثقفين المصريين، جعلت الاجهزة الاسرائيلية تركز جهودها على ادباء وشعراء ذوي مواهب متواضعة، ويشكون في الوقت نفسه من ندرة فرص النشر، وتجاهل الحركة النقدية لاعمالهم. بين الكتاب الذين زاروا اسرائيل، يرد اسم نعيم تكلا وهو من كتاب القصة، صدرت مجموعته القصصية الثانية "قفزات الطائر الاسمر النحيل" عام 1983 في تل أبيب، وقدم لها ساسون سوميخ أستاذ الادب العربي ومكتشف نعيم تكلا. كما نشرت مجموعته القصصية الثالثة "مدينة فوق قشرة واهية" في اسرائيل أيضاً. "كان نعيم تكلا كاتباً مغمورا من الاسكندرية" يؤكد أحد النقاد البارزين. غير ان عدم اهتمام النقد باعماله، وضيق فرص النشر، لا يفسران كلياً استجابته السريعة لدعاوي ساسون سوميخ. فكل قصص مجموعته الثانية "قفزات الطائر الاسمر النحيل"، تتغنى بصداقة اليهود وتلعن الحرب التي فرقت بينهم وبين اصدقائهم وجيرانهم. وتجدر الاشارة الى أن كتّاباً كباراً في مصر أشادوا بقصص نعيم تكلا. إذ وصفها يوسف ادريس بأنها "لاتضرب على الرؤوس... وانما تتسلل الى النفوس بنعومة ورقة". وقال نجيب محفوظ "إن هناك أدباء شباناً ظهروا عام 1981، بمستوى جيد يبشر بأمل واعد في القصة والرواية، من ابرزهم نعيم تكلا...". وقال الدكتور يوسف عز الدين عيسى إن قصص هذا الكاتب "لايمكن أن يفرزها سوى خيال خصب موهوب... مطبوع لا مصنوع". غير ان هذه الآراء كلها قيلت قبل ان تفاجأ الاوساط الثقافية بطبع مجموعة نعيم تكلا الثانية في اسرائيل. أما الروائي المخضرم إدوار الخراط، ابن الاسكندرية ايضاً واكثر من تغنى بها في اعماله الادبية، فأعلن باقتضاب حين سألته "الوسط" عن نعيم تكلا: "لا احب قراءته ولا اريد اثارة موضوعه من الاساس حتى لا أعطيه اهمية لا يستحقها". لكن هل استحالت الاسكندرية مركزاً للتطبيع الثقافي الآن، نتيجة بعدها من القاهرة، وشعور كتابها بالعزلة والغبن؟ أجاب الخراط بانفعال واضح: "الاسكندرية كأي مدينة في مصر ليست لها خصوصية من هذه الناحية. ونعيم تكلا لايختلف عن علي سالم، هو لم يزر اسرائيل لانه اسكندراني، بل لأسباب شخصية". ونظراً للحصار الذي يفرضه الوسط الثقافي في مصر على كل مبدع يزور اسرائيل، فيكون عقابه الاهمال والتجاهل، فإن قلة محدودة من الشعراء يعرفون بأمر زميلهم نبيه سرحان. فالأخير، وهو أحد شعراء العامية الشبان، سافر مبكراً الى اسرائيل، وتحديداً عام 1978، ومازال مقيماً فيها حيث يعمل مقدماً لأحد البرامج العربية في اذاعتها. حكمت الشربيني، وهي من أقدم الاصوات وأكثرها تميّزاً في الاذاعة المصرية وصاحبة برنامج "شعر وموسيقى" الذي يذاع منذ سنوات طويلة قرب منتصف الليل، تعترف أنها ظلت تذيع اشعار نبيه سرحان بصوتها قرابة العامين، ولم تكن تعلم انه يقيم ويعمل في اسرائيل! وقالت ان الابنودي هو الذي اخبرها بذلك وانقذها من ورطة. لنبيه سرحان ديوانان بالعامية المصرية، أحدهما "مدد ياولد... مدد يابنت" قدم له الشاعر الراحل صلاح جاهين، معتبراً صاحبه من أهم شعراء جيله. ماجد يوسف يعتبر من أبرز أصوات القصيدة العامية في الجيل نفسه. وهو لا يعرف نبيه سرحان شخصياً، لكنه يحتفظ بديوانيه الصادرين قبل سفره الى اسرائيل: "كان شاعراً واعداً بمقاييس الفترة التي ظهر خلالها أواخر الستينات، وكان سباقاً في طرح أفكار جريئة في ذلك الوقت كالتعايش السلمي بين مصر وجيرانها بلا استثناء، وعدم جدوى الصراعات... اما تفاصيل دخوله اسرائيل فلا اعرفها، وان كنت سمعت انه وصل اليها عبر الاردن!".