التطورات الأخيرة التي شهدها اليمن من شأنها ان تطبع مستقبل البلاد، أقله طيلة السنوات العشر المقبلة. فقد أقر مجلس النواب تعديلات دستورية كبيرة ينتظر ان تتبعها مذكرة تفسيرية للمواد المقرّة، وبذلك أصبح للبلاد دستور واضح لا خلاف عليه بين السلطة والمعارضة للمرة الأولى منذ اعلان الوحدة في 22 أيار مايو 1989. وانتخب المجلس نفسه الفريق علي عبدالله صالح رئيساً للجمهورية لمدة خمس سنوات قابلة للتجديد مرة واحدة فقط حسب النص الدستوري الجديد، وعين الرئيس نائباًَ له، هو الواء عبدربه منصور هادي، كما عين عبدالعزيز عبدالغني رئيساً لحكومة جديدة تضم وزراء من ائتلاف حزبي المؤتمر الشعبي العام والتجمع اليمني للاصلاح. وتشير هذه التطورات التي تمت خلال أقل من اسبوعين الى ترتيب جديد للسلطة يكرس الانتصار العسكري الذي أحرزته القوات الحكومية الوحدوية على القوات المسلحة الاشتراكية في المحافظاتالشرقية والجنوبية في 7 تموز يوليو الماضي بعد حرب طاحنة استمرت أكثر من شهرين بأيام قليلة. ويُستفاد من معلومات متداولة في دوائر سياسية عليا ان إعادة ترتيب السلطة في هذا البلد ترتكز على عاملين اساسيين: الأول داخلي ويتصل باشراك القوى المنتصرة في الحرب في مسؤوليات رفيعة المستوى ضمن إطار شرعي يُعبر عنها ويلبي تطلعاتها. والثاني خارجي يتعلق بنظرة أميركية غير معلنة الى الحالة اليمنية تشدد على ضرورة الحفاظ على التجربة الديموقراطية وان يكون محور هذه التجربة الكتل السياسية الكبيرة ممثلة بپ"المؤتمر الشعبي" و"الاصلاح" و"الاشتراكي" فضلاً عن الاحزاب الأخرى الصغيرة الناصرية والبعثية الأقل حجماًَ وتمثيلاً. تكريس ميزان القوى وكرست التعديلات الدستورية ميزان القوى الناشئ بعد الحرب، فجاءت المواد المعدّلة لتلبي مطالب "الإصلاح" و"المؤتمر" التي رفعت خلال المرحلة الانتقالية وواجهت اعتراضاً "اشتراكياً" ومن بينها: 1- "الشريعة الاسلامية مصدر جميع التشريعات"، وذلك بخلاف ما كان يصر عليه الحزب الاشتراكي الذي كان يدعو الى اعتبارها مصدراً رئيسياً للتشريع وهو النص الذي اعتمده دستور المرحلة الانتقالية، وقد وافق الحزب الاشتراكي على هذه النقطة لقاء تنازلات من المؤتمر والاصلاح وردت في "وثيقة العهد والاتفاق". - "العدالة الاجتماعية الاسلامية في العلاقات الاقتصادية". وهنا أيضاً كان الحزب الاشتراكي يكتفي بصيغة "العدالة الاجتماعية" من دون أية إضافات أخرى. - "يحظر تسخير القوات المسلحة والأمن والشرطة وأية قوات أخرى لمصلحة حزب أو فرد... ويجب صيانتها من كل صور التفرقة الحزبية والعنصرية والطائفية والمناطقية والقبلية... الخ" وهذه مادة جديدة أضيفت على هامش التعديلات. يُذكر ان الحزب الاشتراكي كان خلال المرحلة الانتقالية يؤكد ان عسكرييه يخضعون للقيادة السياسية في الحزب وان لا وجود لمخاطر من جراء انتماء العسكريين الاشتراكيين السياسي. - "الدفاع عن الدين والوطن واجب مقدس"... الخ. أضيفت هذه المادة الى نص الدستور. واعترض عليها الأمين العام الحالي للحزب الاشتراكي علي صالح عباد اثناء البحث في التعديلات مفترضاً انها عبارة عامة، وربما استدعت تجنيد اليمنيين "للدفاع عن الاسلام في البوسنة"، لكنه تخلى في ما بعد عن تحفظه واقترع على التعديلات بصيغتها المقرة في تقرير اللجنة البرلمانية المكلفة بهذه المهمة. - "يكون لرئيس الجمهورية نائب يعينه الرئيس" بعد انتخابه بطبيعة الحال. وكانت هذه المادة مصدر خلاف كبير بين "المؤتمر" و"الاشتراكي" الذي طالب خلال المرحلة الانتقالية بتعديل دستوري ينص على انتخاب الرئيس ونائبه معاً وعلى إعطاء صلاحيات اساسية للنائب. - "اعتماد مبدأ اللامركزية الادارية والمالية كأساس لنظام الادارة المحلية". وتتناقض هذه المادة مع المطالب الاشتراكية بتحقيق لا مركزية واسعة وتقسيم البلاد الى "مخاليف" تتمتع باستقلال ذاتي يصل الى حدود الحكم المحلي وفقاً للصيغة المعتمدة في "وثيقة العهد والاتفاق". انسجام وتناقض ويمكن القول ان المواد المعدلة هي جزء من نص دستوري منسجم ومناقض في بنوده الاساسية لما ورد في "وثيقة العهد والاتفاق" التي تم التوقيع عليها في عمان بين المؤتمر والاشتراكي عشية الحرب الأخيرة ومن أجل تفادي هذه الحرب. وكان من الطبيعي ان ينتهي الاتفاق بغياب ميزان القوى الذي ارتكز اليه وان يُصاغ نص دستوري جديد يعبر عن ميزان القوى الجديد الذي تبلور بعد الحرب. وإذا كان "النص الدستوري" حظي بإجماع النواب الحاضرين 253 من أصل 301 ممن يقيمون في صنعاء فإن قسماً كبيراً من بنوده لا يتعارض مع تطلعات الحزب الاشتراكي، خصوصاً ما يتعلق منها بپ"حقوق الانسان" واجراءات "التوقيف الاحتياطي" و"التعليم الالزامي" و"التنافس بين القطاع العام والخاص والتعاوني والمختلط" في المجال الاقتصادي وكفالة الدولة للحرية الشخصية....الخ. من جهة ثانية لا يُكرس النص في خطوطه العامة نظرة "أصولية" يتخوف منها كثيرون. ذلك انه يشدد على اعتبار "الشريعة الاسلامية مصدر جميع التشريعات" لكنه لا يسترجع القوانين التي كانت سائدة في القرون الهجرية الأولى والتي تطالب بعض التيارات الأصولية الراديكالية باعتمادها في عدد من البلدان العربية والاسلامية. والراجح ان نظرة رحبة للشريعة تسود الدستور اليمني المعدل وتتيح تعايشاً مبدئياً، في النص على الأقل، بين الديموقراطية والتعددية السياسية بمفهومها الحديث والشريعة الاسلامية، لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو: هل يستمر هذا التعايش في المذكرة التفسيرية لمواد الدستور التي يتوقع ان تصدر خلال الشهور المقبلة؟ أرجحية للمؤتمر بعبارة اخرى هل يؤدي تفسير القوانين وشرحها الى بروز خلافات بين الحداثيين والتقليديين في البرلمان اليمني أم يتحكم المنطق الذي رافق صياغة التعديلات بصياغة المذكرة التفسيرية؟ الإجابة عن هذا السؤال ستكون موضع جدل حاد وحساس خلال الفترة المتبقية من العام الحالي. ويطال الترتيب الجديد للسلطة مراتب الحكم الاساسية التي باتت تعكس أرجحية واضحة وربما حاسمة لحزب "المؤتمر" على "الاصلاح"، فالرئيس صالح الذي انتخب لولاية جديدة مدتها خمس سنوات، يظل حتى إشعار آخر رئيساً لحزب "المؤتمر" ومؤسس هذا الحزب. وإذا كان ينوي الاستقالة من الحزب في مؤتمره الخامس الذي يجري التحضير لانعقاده في المستقبل القريب، وبالتالي يوّد التفرغ لشؤون الحكم، فإنه يظل من خلال تفكيره وبعلاقاته المحلية "مؤتمرياً"، خصوصاً ان حزبه يضم اساساً شرائح واسعة من الاداريين ورجال الحكم السابقين والحاليين ونخبة من الطامحين الى المشاركة في مسؤوليات تنفيذية في المستقبل. واذا كان الرئيس يؤكد في جلساته الخاصة وفي بعض التصريحات العلنية انه "رئيس كل اليمنيين" وليس رئيس فئة واحدة وحزب واحد، فإن "المؤتمر" يشدد أيضاً على كونه إطاراً عريضاً يُمثل كل التيارات والحساسيات السياسية في البلاد أو انه يطمح الى تحقيق هذه الغاية. مستقبل علي ناصر وتضم أرجحية "المؤتمر" في رأس الدولة عدداً من أنصار الرئيس الجنوبي السابق علي ناصر محمد. فقد عين الرئيس صالح اللواء عبدربه منصور هادي نائباً له. ونائب الرئيس تولى خلال الحرب وزارة الدفاع التي اشرفت على ادارة الصراع وبالتالي هزيمة القوات المسلحة الاشتراكية. وسواءاً كان هادي عضواً في "المؤتمر" أو "اشتراكياً سابقاً" فإن أهمية تعيينه في هذا المنصب تأتي من كونه يمثل قوى اجتماعية وسياسية هزمت في الصراع على السلطة في عدن في 13 كانون الثاني يناير 1986 ودفعت ثمناً باهظاً لهذه الهزيمة، خصوصاً في محافظتي شبوة وأبين الجنوبيتين. ويأتي هذا التعيين ليحسم ولاء هذا التيار للحكم في صنعاء. وتعتقد مصادر في العاصمة اليمنية ان ناصر محمد فقد سيطرته على أنصاره السابقين تدريجياً منذ انتقاله الى صنعاء وذلك عندما فقد وسائل تمويلهم، وفقد الوسائل النظرية التي كانت تربطه بهم مع انهيار الماركسية. وأخيراً فقد آخر الروابط السياسية معهم عندما أكد في بداية الحرب الأخيرة أنه لا يوافق على تعيينهم في مناصب حكومية وعسكرية في صنعاءوعدن. يبقى الرابط الوحيد بين علي ناصر وأنصاره محصوراً في الانتماء المناطقي الى أبين وشبوة أساساً وهذا الرابط ليس حاسماً في ولاء "الأنصار" الذين انضموا الى "المؤتمر" وكوفئوا باشراكهم في الحكم وبمنح مناطقهم "وسام الوحدة من الدرجة الأولى" في قرار اتخذه الرئيس صالح لمناسبة الذكرى 32 لثورة 26 سبتمبر ايلول اليمنية. ولعل هذه التطورات تحصر العلاقة بين علي ناصر وأنصاره في إطار من "الصداقة" أو "الأخوة"... والتاريخ المشترك. وترتيب ميزان القوى في الحكومة الجديدة يندرج في الاطار نفسه. فالأرجحية هنا ايضاً لپ"المؤتمر" الذي يرأس الوزارة بشخص الدكتور عبدالعزيز عبدالغني ويتولى الوزارات الأساسية بعضها على ان يتولى "الاصلاح" الوزارات الاجتماعية والخدمية ذات الصلة المباشرة مع الناس. ويكرسّ الترتيب الجديد للسلطة في المجالين التشريعي والتنفيذي النتائج التي اسفرت عنها الحرب الأخيرة، ويرسي اسساً لوحدة يمنية مركزية مطعمة بنظام للحكم المحلي لا يحمل بذور مخاطر انشقاق سياسي ويعبر عن خريطة سياسية جديدة يحتل فيها الحزب الاشتراكي مقعد المعارض الرئيسي في البرلمان. ويبدو ان هذه الخريطة تتيح تماسكاً للحكم الذي سيسعى الى توسيع قاعدته من الآن فصاعداً في المحافظاتالشرقية والجنوبية من دون عوائق مهمة، فهل تتناسب الصيغة السياسية الجديدة مع نظرة القوى الدولية للسياسة التي تعتمدها صنعاء في فترة ما بعد الحرب؟ توازن مثلث تؤكد مصادر يمنية رفيعة المستوى، في ردها على هذا السؤال، ان اهتمام صنعاء يتجه اساساً نحو الدول العظمى التي اتخذت موقفاً ايجابياً من الوحدة خلال الحرب، وفي طليعتها الولاياتالمتحدةوفرنسا. وتعتقد بأن واشنطن كانت على الدوام وما زالت تؤيد ارساء لعبة سياسية داخلية تقوم على توازن مثلث محوره "المؤتمر الشعبي" وجناحا "الاصلاح" و"الاشتراكي"، الأمر الذي يفسر إمتناع الحكم عن اتخاذ اجراءات انتقامية بحق القيادات الاشتراكية التي عادت الى صنعاء بعد الحرب وعدم ممارسة ضغوط على قيادة الحزب الجديدة شرط ان تلتزم هذه القيادة أصول اللعبة السياسية الراهنة. ويبدو ان "الحزب الاشتراكي" بقيادة علي صالح عباد لا يرغب في الخروج عن قواعد هذه اللعبة بدليل موافقته على التعديلات الدستورية وانتقاله بهدوء من الحكم الى المعارضة. في السياق نفسه بذلت الحكومة اليمنية جهوداً لتبديد مخاوف الدول الغربية من احتمال تمدد "الأصولية" في نظام الحكم. وبذل التجمع اليمني للاصلاح من جهته جهوداً كبيرة للتكيف مع شروط الحكم، فأكد قادته التزامهم النظام الاقتصادي الحر، ووصل السيد عبدالوهاب الأنسي الأمين العام المساعد لمجلس الشورى الى حد القول ان حزبه يمكن ان يعتمد بعض آليات الحكم الاميركية لكنه يرفض تطبيق النموذج الاميركي على الحكم اليمني وهو أمر لا تطالب به الولاياتالمتحدة بطبيعة الحال. ولا يمكن لفرنسا إلا ان تشعر بالارتياح نتيجة اعتماد البرلمان اليمني مواد اساسية في الدستور ترجع الى أصول دستورية فرنسية، لا سيما تلك التي تتناول حقوق الانسان وشروط التوقيف الاحتياطي واجراءات المحاكمة. والراجح ان باريس التي تخوض صراعاً مع امتدادات التيار الاسلامي الجزائري، لا ترغب في توسيع هذا الصراع ليشمل تيارات اسلامية عربية بدليل مبادرتها الى التفاهم مع التيار الاسلامي السوداني وامتناعها عن الأدلاء بأية تصريحات تثير التيار الاسلامي اليمني. ويحظى موقف فرنسا من الحرب الأخيرة بترحيب شديد في أوساط التجمع اليمني للاصلاح. ويذهب مصدر اقتصادي فرنسي التقته "الوسط" في صنعاء الى أبعد من ذلك عندما يبدي إعجابه بمداولات البرلمان اليمني ويعبر عن اعتقاده بأن لدى حكومة بلاده أسباباً كثيرة لتعزيز علاقات التعاون بين صنعاءوباريس. موقف بريطاني مخالف واذا كانت السياستان الاميركية والفرنسية حيال التطورات اليمنية هي استمرار للموقفين الاميركي والفرنسي خلال الحرب، فإن التردد البريطاني خلال الحرب ما زال يطبع سياسة لندن حيال صنعاء بعد الحرب. ولعل تصريحات رئيس الحكومة البريطانية جون ميجور أخيراً عن "المصالحة الوطنية" في اليمن لا تعكس قناعة لندن بأن الاجراءات الدستورية والسياسية الأخيرة في هذا البلد هي "المصالحة" بعينها. واذا كانت هذه التصريحات لقيت ردود فعل محلية عنيفة في وسائل الاعلام فإن الحكومة اليمنية أبدت حرصاً على عدم فتح مواجهة مع لندن على أمل تحقيق تفاهم معها في المستقبل. يبقى القول ان الدول الغربية مهتمة اساساً بصيانة مصالحها في اليمن وان سياستها حيال هذا البلد محكومة عموماً بهذا الشرط. ولا يبدو ان الحكم في صنعاء، من خلال مواقفه السابقة والراهنة، يهدد هذه المصالح. والراجح انه يتطلع الى تحقيق أقصى درجات التعاون مع الدول الغربية. وعلمت "الوسط" ان مسؤولين في رأس الدولة سيبادرون الى القيام بزيارات رسمية لدول غربية وآسيوية في الفترة المقبلة لتعزيز علاقات بلادهم مع العالم الخارجي ولشرح التطورات اليمنية الأخيرة، لكن صنعاء تدرك ان علاقاتها مع دول الجوار هي الاساس والشرط الضروري لضمان الاستقرار النهائي في اليمن، ولعل الدعوات اليمنية المتواصلة لفتح صفحة جديدة مع هذه الدول تكشف عن الهم اليمني الأكبر هذه الأيام.