صنفت منظمة اليونيسكو غرداية ومدن وادي الميزاب في صحراء الجزائر في عداد روائع التراث المعماري العالمي. "الوسط" زارت المدينة واستطلعت، حيث الأبنية المدهشة التي تأثر بها المعماري لوكوربوزييه، وواحات اصطناعية لحفظ مياه الامطار، ونظام للشورى يحفظ استمرار المجتمع. وفي ما يلي مشاهدات "الوسط" للمدينة التي تأسست على اسم امرأة تحب الحياة، وقامت على المزج بين الواقع والخيال، وبقيت علامة على مقاومة الانسان لقسوة الطبيعة: أجمل المدن تلك التي تطلع من الحكايات والاساطير. وغرداية الجزائريّة واحدة منها زرناها أخيراً لمناسبة ندوة عن "الصحراء على أعتاب القرن الواحد والعشرين" تنظيم "جامعة التكوين المتواصل" بالإشتراك مع "الجامعة الاوروبيّة - العربية" التي يرأسها الكاتب محمّد عزيزة. معتلية ً إحدى تلال ذلك الوادي القابع على أبواب الصحراء، كأنما لتشرف على الافق البعيد، وتطلّ على المدى الرتيب المنبسط أمامها إلى ما لا نهاية، فتتمايز عنه، تختزن غرداية بمنازلها المتلاصقة وأزقّتها الحلزونيّة، ذاكرة غنيّة وعريقة تعود إلى القرن الحادي عشر للميلاد. يغمرها ضوء صارخ لا تقوى على احتماله العين طويلا ً، فهو لا يقلّ سطوعاً عن البريق المنعكس من الهضاب الثلجيّة أعالي الجبال. وتسوّرها الملاحم وسير الاوائل وأخبار الحروب والهجرات من كلّ صوب، شأنها في ذلك شأن مدن "الشبكة" الاخرى: إنّها مدن "وادي الميزاب" السبع، في الجنوب الجزائري، تقدّم نموذجاً معماريّاً فريداً، صنّفته ال "يونيسكو" في عداد روائع التراث العالمي. كما أنّها تشكّل محطة ً مشرقة من محطات الحضارة العربيّة - الإسلاميّة، ومثالا ً حيّا ً يجسّد ملحمة المواجهة الصعبة مع الطبيعة، لتطويعها والتكيّف معها، والإنطلاق منها لابتكار تنظيم مدني، روحي، إقتصادي، فكري واجتماعي ما زال يدهش الباحثين والمؤرّخين في عصرنا. أسّست غرداية قبل 9 قرون وتقول الاسطورة أن امرأة ً رذلها قومها، هامت في القفار إلى أن اهتدت إلى مغارة على التلّ، فلجأت إليها متشبّثة بالحياة. وكان من حظها أن البقعة التي أوت إليها تقع على طريق القوافل، فإذا بالمسافرين يشفقون على المرأة، واسمها داية، فيتصدّقون عليها بما تحتاجه لمؤونتها من حبوب وتمر، ومن شحم ولحم مجفّف. وذات يوم أغرم بها أحد الرجال، فمنحها اسمه ورعايته وتزوّجها. وبنى بيته فوق المغارة، مؤسّساً من حيث لا يدري المدينة التي حملت إسم المرأة "تغارمت إن دايا" بالبربريّة أي: قرية داية الصغيرة. وما زال مكان المغارة قائماً إلى الآن، تقصده نساء المنطقة حيث يشعلن الشموع ويحرقن البخور. الحقيقة والخيال كانت عينا الدليل الورع، تلتمعان وهو يقودنا عبر متاهات البلدة، ويروي بشغف - للمرّة الالف ربّما - حكاية داية. إلا أنّه صحا من حلمه الطفوليّ فجأة ً ونبّهنا مستدركاً : "إنّها مجرّد خرافة شعبيّة، ليس إلا. لا ينبغي تصديق هذه الشعوذات !". لكن ما هو أهمّ، عند الغوص في ذاكرة جماعة معيّنة، أن نفرّق بين الحقيقي والمتخيّل ؟ الذين زاروا هذا الوادي البعيد يعرفون، على الرغم من شهرته، لكونه المركز السياحي الثاني في الجزائر إسمه يظهر على كل المنشورات والادلّة السياحيّة ، يعرفون كم تبقى معرفته صعبة والتغلغل إلى أسراره عسيرا ً. وربّما لاحظ بعض هؤلاء الزائرين أيضا ً، تلك الهالة السحرية التي تغلّف هناك الكائنات والحكايات والاماكن والاشياء. فإلى أيّ درجة ينبغي للواقع والخيال أن يتزاوجا، أن يتلاحما، حتّى تتحقّق تلك المعجزة المزدوجة : معجزة وجود "وادي الميزاب" أوّلا ً، ثم بقائه حيّا ً صامدا ً على امتداد عقود عشرة، تحدّى خلالها الحروب والازمات وعوادي الزمن. تقع غرداية على بعد ستمائة كيلومتر من العاصمة الجزائريّة صوب الجنوب، ثمانمائة كلم عن قسنطينة شرقاً، وثمانمائة كلم أخرى عن وهران غرباً. وهي دائرة من دوائر الواحات وعاصمة "وادي الميزاب"، ومفترق الطرق المؤدّية إلى الصحراء الكبرى. كانت في ما مضى مركزا ً للقوافل، وما زالت مهبط كل المسافرين والمتجوّلين والعابرين، ممن يستعدّون لاجتياز المسافات الصحراويّة الشاسعة. وتعتبر المدينة الحدّ الشمالي للصحراء مع أنّها في الواقع جزءٌ فعليّ منها. فقد قيل عن "وادي الميزاب" إنّه "صحراءٌ داخل صحراء"، للتعبير عن قساوة البيئة الجغرافيّة: شبكة صخريّة تحرقها في الصيف شمس ملتهبة، وتهبّ عليها شتاءً رياح ثلجيّة آتية من الجرود العالية في منطقة الجلفة. ولفظ ال "شبكة" السائد منذ قرون عدّة عند الكلام عن هذا الإقليم الجغرافي، ينطبق تماما ً على مسمّاه. أوّل ما يصفع الزائر القادم إلى الوادي برّاً، هذا التغيّر المفاجئ في الطبيعة من حوله. فبعد كيلومترات من المنبسطات الصحراويّة المتشابهة، تمرّ الطريق المعبّدة بين كتلتين صخريّتين، فينكشف المشهد عنوة ً عن هضاب متجاورة، عاجيّة اللون، مصفوفة فوقها المنازل حسب منطق دائريّ تصاعدي مدهش. كأنّنا، كما في بعض أفلام بازوليني دخلنا، على غفلة، إلى مملكة غرائبيّة منسيّة هنا منذ قرون. ويلاحظ الزائر شبكة متسلسلة من الجبال الصلبة المجرّدة المتميّزة باللون الورديّ الداكن، تتخللها أودية، في تكاملها مع الهضاب الصخريّة تكمن ديناميّة البيئة والتوازن المناخي الموضعي والخصوبة التي تجعل الحياة ممكنة هنا. الاودية الرئيسيّة، فضلاً عن وادي الميزاب، هي: وادي متليلي، وادي النساء، وادي زقرير، وادي السبسب... أمّا المدن المعشّشة على الهضاب حول الوادي، فتشكّل مجموعة سباعيّة، تنقسم إلى قسمين: مدينتا القرارة وبريان من جهة، ومن جهة أخرى المدن الخمس التي تقع على خط مسيل وادي الميزاب، وهي بالإضافة إلى غرداية: العطف، بنوره، بني يسقن ومليكة. وإذا كانت قساوة المناخ، وشبح الجفاف وغيرها من المصاعب تجعل بالاساس من هذه البقعة مكاناً يستحيل السكن في ربوعه، فإن تلك الوعورة وذاك الشظف هما الميزة الاولى التي جذبت بعض القبائل العربيّة، الى هذه المنطقة النائية، وهي سرعان ما تلاقحت وتوحّدت مع القبائل البربريّة الاصليّة. فعلوا ذلك كي يأمنوا شرّ أعدائهم. طلباً للملجأ الآمن، وقد اخترعوا وسائل استمرارهم، مبتكرين نظام الواحات الإصطناعيّة، متوصّلين إلى تشييد دورة اقتصاديّة، وإرساء نظام إجتماعي متكامل... الواحة الاصطناعية تحت سماء ملبّدة بالغيوم، يلاحظ الدليل الذي تحلّقنا حوله قرب أقنية ريّ قديمة، إنزعاج الضيوف "الاوروبيّين" الآتين بحثاً عن الشمس، من هذا الطقس الماطر. يعلّق باسماً: "هذا هو الطقس الجميل بالنسبة الينا. ما زال الناس يتذكّرون إلى اليوم كيف فاض سدّ بني يسقن قبل أعوام. كانوا يأتون من كل النواحي للفرجة". واحات الميزاب هي الواحات الإصطناعيّة الوحيدة في الصحراء الكبرى، عندما اختار السكان هذه البقعة لم تكن هناك مياه تجري على وجه الارض، خلافا ً لما هو الحال في واحات الصحراء التي تعيش حولها التجمّعات البشريّة الرئيسيّة. وقد وضع الاباضيّة ثلاثة أنظمة لجلب المياه، حسبما يشرح لنا الرجل الملتحي، معتمرا ً الطاقيّة البيضاء، التي يضعها الميزابيّون على رؤوسهم في كل الفصول: أحاطوا كل المرتفعات الصخريّة بشبكة من السواقي والقنوات، ووجّهوها إلى خزّانات بحيث لا تضيع منها نقطة واحدة. كما شيّدوا أبراجاً لمراقبة فيضان الوادي الذي يحدث مرّات قليلة في العام. فإذا فاضت المياه عند السد الإصطناعي، تلقّفتها حواجز مختلفة، الغرض منها تخفيف قوّة إندفاعها، ثمّ حصرها وتوجيهها حسب قوّة الفيضان، وحسب إحتياج البساتين وغابات النخيل المحيطة بسفح كلّ هضبة. وقد بنى الميزابيّون الاقدمون شبكة من القنوات، على حافة الجبال لريّ الواحات. كل قناة أو "فوغارة" معيّرة وموجّهة تحت تلّ من الرمال الحامية، تغطّى بالاحجار الكبيرة، وتمسك بالجبس، ويجعل لها منافذ للتهوئة. ويكتمل هذا النظام الدقيق المتقن مع إلتقاء كل القنوات عند مصرّف أو موزّع للمياه، على شكل المشط، يحدّد حصّة كل أرض حسب طبيعتها ومساحتها وعدد نخلاتها. هذا التحكّم بالحصص يتمّ على أساس حجم الفتحات وسرعة المياه وزخمها. وقام أهل الوادي أخيراً بحفر الآبار للحصول على المياه اليوميّة اللازمة من الخزانات الطبيعيّة الجوفيّة. والبئر الميزابي التقليدي، طالما غذى القصائد والاغاني الشعبيّة، بدلوه من جلد الماعز، بدابته وقنطرته ذات الإنعطافة المنسابة. بعد الريّ وبناء شبكات المياه، جاء الشاغل المعماري والهندسي في المرتبة الثانية من قائمة اهتمامات الإباضيّة. والفن المعماري في وادي الميزاب هو اليوم ذو شهرة عالميّة، جعل المنطقة مقصدا ً للسيّاح والدارسين وأهل الإختصاص. فقد إهتدى الميزابيّون الاوائل إلى تقنيات، واستنبطوا أشكال تخطيط وتنظيم للمدينة، متكيّفة مع المعطيات البيئويّة والمناخيّة والسياسيّة والامنية والدينيّة الخاصة بهم، ومتطابقة في الآن نفسه مع أعقد ما توصّلت إليه العلوم والابحاث الحديثة. تلتقي العمارة الميزابيّة مع مبادئ الهندسة الإسلاميّة في توجّهاتها الرئيسيّة، منفردة ً ببعض الخصوصيّات التي لم تلبث أن طبعت مناطق صحراويّة عدّة لاسيّما في السودان والغرب الافريقي. إنّها تقوم على عناصر بدائيّة كالحجر والجبس المحلّي التبمشمت والنخيل، وتعتمد البساطة والتقشف النابعين من روح الإسلام. فدار الشيخ على صورة دار الفقير، ومثل المسجد الذي تعلو مئذنته المدينة. على خطى فاليري ولوكوربوزييه على خطى الشاعر الفرنسي بول فاليري، الذي زار هذه المدينة وسحر بها، نتجوّل في أزقة غرداية الحلزونيّة، الضيّقة والصاعدة، التي تلتفّ على الهضبة وتدور حولها، بين منازل، أشبه بالمخابئ، لا يرى منها العابر إلا جدراناً سميكة خرساء، كأنّما وظيفتها الاولى أن تحمي ساكنيها. للمكان هيبته وإحترامه ولا يسمح ل "الغريب" أن يعبره من دون رفقة أحد السكّان. فكل مدينة في الميزاب مبنيّة على جبل، يحتلّ المسجد قمّته ومن حوله الكتاتيب لتعليم القرآن وللتعليم العام. كل مدينة قلعة حصينة كان يستحيل، في ما مضى، للعدوّ المغير أن يبلغها، قلعة تتحكّم بالمدى المفتوح أمامها، وتنغلق على أسرارها وطقوسها ومعتقداتها. النخلة تهب الاقواس شكلها، والحجر هو الدرع الواقي، يتحوّل في يد البناة المهرة ملجأً أميناً ضدّ الحرارة الحارقة والضوء الباهر. وتستحيل أزقّة المدينة مسارب ضيّقة، توفّر البرودة وتوجّه الإنسان في سيره مثلما توجّه الاقنية الإصطناعيّة، هناك في الاسفل، مسار المياه. الدار هي حجر الزاوية في المجتمع الميزابي. تلتفّ بطوابقها وأسطحها حول فناء داخلي، يدلف من خلاله الهواء والضوء. وهي بالتالي مغلقة من جهة الشارع، إذا إستثنينا المدخل، مفتوحة من الداخل على السماء، تجلب الضوء كما تجلب البئر الماء، وتلطّف برد الشتاء الجاف كما تلطّف حرارة الصيف المحرقة بجدرانها السميكة المبنيّة بالطوب وال "تبمشمت". و من الداخل، غالباً ما تنوب عن الاثاث حفر في الجدران مصمّمة على شكل مشاكي ورفوف وخزائن. وكانت السوق، الواقعة عند مداخل المدينة تلعب دورا ً حيويّا ً في الدورة الإقتصاديّة للوادي، القائمة طبعا ً على المقايضة. سوق غرداية التي ما تزال تعجّ بالحركة والحياة، وتفوح منها العطور الشهيّة، كانت ذات يوم المركز الرئيسيّ للتبادل التجاري في شمال الصحراء الكبرى، فكان الناس يتبادلون مسحوق الذهب وريش النعام والعبيد والسلع المجلوبة من السودان، بالمواد الغذائيّة الآتية من التل. أمّا مآذن المساجد في وادي الميزاب، فلها خصوصيّة ملفتة، إذ بنيت على الشكل الهندسي المخروط دائريّا ً . ويستحيل على المؤذن - هنا أيضا ً تدخّل الدليل ليلفت إنتباهنا - أن ينظر من صومعته إلى الفناءات الداخليّة للمنازل... ويبدو أن المعماري الفرنسي الكبير لوكوربوزييه زار هو الآخر وادي الميزاب، ودرس فنون البناء فيه. ولعلّ بين أكثر التقاليد لفتا ً للنظر وجدارة بالإهتمام في وادي الميزاب، النظام السياسي الإجتماعي الذي كان أهل الوادي وما زالوا ولو بايقاع أخفّ يديرون من خلاله شؤونهم الدنيويّة والإداريّة والدينيّة. فالمؤسّسات المدنيّة في الميزاب ترتكز على هيئات أربع : الاسرة، العشيرة، الصفّ تيّار يمثّل ميولا ً سياسيّة داخل العشيرة أو الجماعة وأخيرا ً الجماعة التي تلعب دور مجلس بلدي، وتنتخب لنفسها رئيسا ً ونائبا ً يكون من الصفّ المعارض له. أمّا السلطة النهائيّة فهي للمساجد، ومجلس المسجد.