في النصف الثاني من القرن الثامن الميلادي أنشأ عبدالرحمن بن رستم أول دولة للإباضيين الخوارج في بلاد المغرب، تمتد بين دولة القيروان ودولة فاس، واتخذ من تاهرت عاصمة له. وامتد نفوذ الدولة الرستمية الى حدود طرابلس الغرب. وبعد قرن ونصف القرن من ذلك تمكن الفاطميون من اعلان دولتهم وقضوا على الدولة الرستمية فلجأ الرستميون الى سدراته بورجلان أو ورقلة حالياً جنوب شرق تاهرت وحملوا معهم إرثهم الحضاري والفني والأدبي. ومع حلول القرن الحادي عشر الميلادي، تعرضت سدراته الى تدمير شبه كلي ففر بعض من نجا من أهاليها غرباً باتجاه الصحراء واستقروا قرب وادي ميزاب منذ ذلك التاريخ الى يومنا هذا، وشيدوا مدنهم الشهيرة بهندستها المعمارية المتميزة التي احتفظت لنفسها بطابع محلي خاص لا يكاد يشبهه أي طابع عمراني في العالم، وبنظم حياتية وثقافية واجتماعية خاصة أيضاً لم يخترقها أي نظام دخيل. ويحرص أهل ميزاب على تميز الطابع المعماري لمدنهم وبيوتهم. لذلك فإن أية مدينة لا تخلو من عناصر معمارية أدت، ولا تزال، وظائف نفعية واجتماعية وروحية، من بينها السوق التي تعد مكان تبادل بين سكان المنطقة في ما بينهم، أو بينهم وبين الاجانب الوافدين اليها من مناطق اخرى بعيدة، من الشمال ومن الجنوب. وتكتظ هذه السوق الخاضعة لنظام تسيير خاص بالسلع المختلفة المحلية منها والاجنبية. وحرص الميزابيون على تحصين مدنهم منذ القديم لاتقاء غارات النهب التي كانت تستهدف المدن. وإذا كانت بعض مدن وادي ميزاب لا تحميها الأسوار من كل نواحيها - كما هي حال بني يزغن - فإن عوامل الطبيعة كالوادي والصخور، أو التلاحم الهندسي للبيوت هو الذي يتولى عملية التحصين - كما نجد ذلك في بونورة - حيث تشكل جدران البيوت المرتفعة عالياً فوق الصخور التي نحتها الوادي حصناً منيعاً يصعب اختراقه. ويختلف كل بيت عن البيت الذي يحاذيه بما يوجد على جدرانه من فتحات تشكل النوافد، وبالاشكال التي تتخذها السطوح وكذا بنوعية المواد التي بنيت بها الجدران، ولكنها تبدو كلها ضيقة متلاصقة. ولا يوجد أسفل المدينة سوى مجرى الوادي، والى اليمين المقبرة التي تتوغل مباشرة في رمال الصحراء، والى اليسار توجد واحات النخيل المحاطة بالتلال الرملية العارية. كانت عملية الدفاع أو المراقبة جماعية اذ كان يمنع على كل شخص فتح إحدى هذه النوافذ الخارجية المطلة على الوادي، ولا يسمح بالعبور إلا عبر أبواب المدينة التي كانت تقام عليها حراسة يتناوب عليها طلبة زوايا القرآن الكريم. وشيد الأهالي الأبراج، وهي عبارة عن قلاع وظيفتها دفاعية في المقام الأول. وكانت الضرورة تقتضي أحياناً بناء البرج في فترة لا تتجاوز اليوم الوحد، كما كان الشأن مع برج مدينة بني يزغن مسقط رأس الشاعر الكبير مفدي زكريا، وهو ما ينبئ عن روح جماعية كانت تحرك السكان الميزابيين تجسدت في تكاتفهم دفاعاً عن مدنهم ولا تزال الى اليوم ملامحها بادية في تكافلهم وتضامنهم الاجتماعي. وبالاضافة الى أبراج المدن هذه، توجد أبراج أخرى شيدت فوق التلال الرملية خارج المدن، على امتداد واحات النخيل. ووظيفتها، فيما يبدو، اقتصادية وعسكرية. ولاتقاء الخسائر في واحات النخيل من جراء فيضان محتمل للوادي، أحيطت كل واحة بأسوار واتخذت الممرات الموجودة بين الأسوار مسالك سرعان ما تتحول الى قنوات ومجاري للمياه عندما يغمرها الوادي. كما أقيمت سدود ضخمة لتكسير قوة المياه وتوصليها الى القنوات ومن ثم توزيعها على الواحات بشكل عادل من خلال الفتحات الموجودة على الأسوار، ويقوم بعملية التوزيع هذه مهندس محلف. وقام أهل ميزاب بحفر ابار يصل عمقها الى نحو مئة متر، ويقال ان الآبار الجماعية حفرها زعماء الأسر المعروفة وأولادهم، وكانوا يقتاتون من التمر كمادة سكرية اساسية تمدهم بالطاقة اللازمة أثناء عملية الحفر في أعماق الأرض. وكان لا بد من الحفر سنوات عدة، أحياناً، لبلوغ مستوى الماء. وبالإضافة الى البيوت الخاصة داخل المدن، يتخذ الميزابيون بيوتاً أخرى وسط واحات النخيل كإقامات صيفية، وهي بيوت في غاية الروعة والجمال على رغم بساطة هندستها وتواضع تخطيطها. فالأثاث بها عبارة عن كوات محفورة في الجدران وتحت السلالم وحول المداخل. أما الحجرات فهي ضيقة لكنها تفي بالغرض المطلوب، كما تشكل بعض جذوع النخل التي لم يشأ اصحابها قطعها أثاثاً في البيت كأن تتخذ أعمدة للرفوف أو محاور للسلالم، وتطل بعض النخلات من وسط السطح فيسهل الارتقاء اليها. وتنفتح بيوت الواحات هذه على حدائق مغلقة أو على صحون يتسرب عبرها الضوء، الى كل الحجرات كما يمكن المرور عبر رواق من الصحن الى السطح الذي يتخذ مكاناً للنوم ليلاً حيث درجة الحرارة منخفضة، والليل في الميزاب ساحر بنسيمه المنعش وهدوئه الرهباني والتمازج العجيب المتفرد للألوان الناشئة من دكنة النخيل والأشعة القمرية وبياض الطلاء. أما المساجد في وادي ميزاب فتتوزع على ثلاث مناطق: في أعالي المدن يوجد المسجد الرئيسي الذي يتميز بمنارته الشامخة. وفي ضواحي المدن والمقابر توجد مساجد ومصليات، وهناك المساجد المشيدة وسط الواحات التي تتخذ أماكن للعبادة حين يهبط سكان المدن الى إقاماتهم الصيفية. وفي حين تتوافر مساجد المدن على منارات متباينة الإرتفاع والأشكال نجد المساجد المنتشرة في المقابر والواحات من دون منارات. لكنها مزودة بقاعات تحت الأرض. والمساجد في عرف الميزابيين - كما هو شائع بين المسلمين - أماكن أمان، حتى لأولئك المخطئين الاجانب الذين يتورطون أحياناً في أعمال السرقة. والى جانب المنارة، تتميز مساجد المدن عن مساجد الأماكن الأخرى بأبعادها الهندسية، وهي تخلو أيضاً من عناصر الزخرفة، لكنها تستمد جمالها ورونقها من اشكالها المعمارية البسيطة والمتقنة والمعبرة في الوقت نفسه عن صفاء سريرة الانسان الميزابي وتواضعه واهتمامه بالعمق العربي الاسلامي الذي يميز شخصيته، من دون تفريط في بعده الامازيغي المحلي، وهو ما شغله عن الاعتناء بمظاهر الزخرفة. ولعل جمالية عمارة المساجد الميزابية تتأتى، الى جانب بساطتها، من الكوات والاعمدة والسقوف المصنوعة من جذوع النخل. ويدعم هذه العناصر كلها القوس الميزابية المشكلة من السعف، اذ تتخذ الأقواس أبعادها من الإحجام المتباينة للسعف. وتتشابه مساجد المقابر ومساجد الواحات، مع فارق في الدور والوظيفة. ففي الوقت الذي يقتصر دور مساجد الواحات على فترات الصيف، نجد مساجد المقابر عامرة دائماً، خصوصاً في الشتاء حين يأتيها كل جمعة طلبة وحفاظ القرآن للتلاوة، وهي أماكن لجمع الصدقات والتبرعات لصالح الفقراء الذين يلزمون بأخذها... حسب الاعراف. وللأضرحة مكانها في العمارة الميزابية وخاصيات تتفرد بها أيضاً. فمقابر الميزابيين لا تكاد تظهر للعين من بعيد، لأنهم لا يهتمون ببناء القبور وإعلائها، اذ يتم الاكتفاء بوضع حجر عند رأس الميت وآخر عند قدميه وبينها توضع الأواني القديمة المستعملة كمعالم يتم التعرف من خلالها على قبر الميت. ومن الأعراف الجارية منع نقل الرفات أو البناء في الأماكن المخصصة للمقابر. ولذلك نجد مقابر قديمة كثيرة لا تزال مغلقة ومدفونة تحت الرمال. ويحظى بعض العلماء والأولياء بأضرحة خاصة تشيد على شكل محاريب تعلوها قباب تنتهي بنتوءات أو اشكال هندسية هرمية أو شبيهة بالقمة تتصاعد الى أعلى. ولكل ضريح شكل خاص، وهي في الغالب مزارات للاستفادة من النصائح أو معالجة بعض المشكلات الخاصة.