عبر لغة وصفية وثَّق المعماري والمؤرخ باولوم كوستا المساجد العمانية القديمة وأضرحتها في كتاب صدر حديثاً عن وزارة الأوقاف والشؤون الدينية في سلطنة عمان، وترجمه الى العربية الأكاديمي والناقد العماني د. عبدالله الحراصي. المقدمة والتي كتبها وزير الاوقاف العماني عبدالله السالمي أشارت الى بعض مضامين الكتاب معبرة عن رؤية ألمحت الى عوامل مؤثرة في بناء المساجد بينها الوزير في مجموعة من النقاط، وأهمها الوظائف التعبدية، وأيضاً تلك المتعلقة بالجغرافيا والموقع والطوابع الجمالية والتزيينية السائدة في المنطقة، مشيراً الى أن المؤلف تناول المسائل المتعلقة بالبيئة الطبيعية والجغرافية في الفصل الاول لكن آثار تلك البيئة لم تظهر تماماً الا عندما عاد في الفصل الرابع الى دراسة السمات الأساسية للمعمار الديني في عمان، على ان تحديد النمط او الانماط مثل المحاريب المزخرفة وتزيين المساجد بالخزف - لا ينظر فيه الى توافر المواد في البيئة المحلية أو النماذج المتأثرة بالمحيط فحسب بل هناك ايضاً تطورات الحياة الدينية ومدى عناية المجتمع بدور العبادة اضافة للارتباط الغربي الذي يقيمه بعض المؤرخين ومنهم ابن خلدون بين الدولة والمدينة وبين الدولة والجامع في الاسلام وتظهر تلك العوامل والعناصر مجتمعة او يتقدم فيها عنصر آ في بعض الجوامع مثل مسجد سمد الكندي والجامع القديمالسلطان قابوس في نزوى وكذلك الامر في جامع الرستاق وجامع نخل وبعض جوامع ومساجد السواحل. وجاءت مقدمة الكتاب ثرية في تتبع انجازات المؤلف وشارحة خصائص الإصدار الموثق بالصور الملونة الذي قدم نحو مئة مسجد وجامع اثري في عمان، وعمارتها تمتد ويستمر صمودها على مدى حوالى ألف سنة ويقول السالمي إن العوامل الجمالية والتزيينية لعبت دوراً اكبر في مساجد وجوامع الساحل، لكن المساجد والجوامع القديمة الباقية في الداخل أكبر عدداً بقليل. وفي حين ارتبط بناء الكثير من الجوامع ومساجد الجمعة بالدولة ورؤيتها ذاتها ودورها وبرزت نشاطات المجتمع وفئاته في عملية بناء المساجد والتي تظهر فيها أيضاً واضحة خصائص المدارس الفقهية وخصوصيات المناطق اما الانماط المعمارية السائدة - وهي اثنان او ثلاثة - فتبدو ذاتية النشوء والتطور وان لم يمكن نفي التشابهات والتقاطعات مع المحيط. ويتتبع الكتاب رحلة المسجد في الجزيرة العربية عبر الخرائط التاريخية للعالم الاسلامي والتي كشفت عن تنوع هائل في توزيع المناطق المأهولة والمواقع ويعود هذا - أساساً بالطبع - الى تباين الظروف الجغرافية والمناخية في هذه المساحة الشاسعة التي تشمل مناطق خصبة وصحارى ومناطق ساحلية وودياناً تتميز بكثافة الزراعة والهضاب الصخرية والجبال عديمة الماء، وقد كانت خريطة شبه الجزيرة العربية - في فجر الاسلام وفي عهد ازدهاره حتى بضع سنين خلت - بيضاء تماماً إلا من نقطتين تظهران فقط مدينتي مكةالمكرمة والمدينة المنورة.وبعد البحوث التي قام بها صلاح الدين حول المدينتين الشريفتين واليمن 1907 فإنه لم يظهر أي بحث ميداني حول أي موقع اسلامي في شبه الجزيرة العربية لوقت طويل. يرى المؤلف أنه عبر كتابه هذا يسعى الى ملء الفراغ في المعرفة بالمعمار الديني في عمان وهذا الهدف الطموح زاد من عزة مناله وصعوبة تحقيقه. وان بعض المساجد قد هدمت أو رممت بتعجل وغير روية ومن دون سابق إشعار بل انه مما يدعو للأسى أن بعض أهم المساجد العمانية كالجامع الكبير في سفالة نزولى الذي حل محله مسجد حديث بني عام 1975م قد هدمت من دون أن يتم توثيقها وأعيد تشييدها من دون أن يشبه المبنى الجديد المنبى الأصلي في شيء، مؤثراً توثيق المباني على النحو الذي وتقت به أول مرة قبل أن يتم ترميمها وهو على يقين بأن المباني القديمة ابلغ في تأدية معناها الثقافي والتاريخي حين يراها المرء في صورتها الأصلية حيث لا تزال تحافظ على روحها ولمسة أصالتها التي لا تخطئها العين على اعتبار ان السلطنة تتميز بالتنوع من حيث البيئة الطبيعية والسكان وانماط الحياة ومواد البناء ما يفسر الأثر القوي الذي يخلفه المعمار العماني التقليدي في نفس الانسان كما ان التنوع لا يعبر عن فقدان الوحدة الا ظاهرياً ذلك ان المباني إجمالاً تكشف عن شخصية تتميز بالانتقاء والإبداع يسندها في ذلك تراث معماري محلي يتميز بقوته وعراقته وربما وجد المرء خصوصاً على السواحل الدليل البيِّن على وجود تأثيرات أجنبية في المعمار نتجت من اتصال بحارة عمان بالامم الاخرى طوال التاريخ غير ان التراث المعماري العماني قد استوعب هذه التأثيرات تماماً على نحو يجعلها منسجمة مع سماته الاصلية المحلية. ويبحث باولوكوستا في المعمار العماني راصداً ما يمكن أن يؤثر فيه من الخارج من الغزاة بخاصة البرتغاليين الذين قيل إن كان لهم تأثير في معمارية القلاع والحصون، الا أن يشير المؤلف الى أن التأمل في المباني التي تعد أفصح تعبير عن الاحتلال الاجنبي كالقلاع التي تحرس الخلجان في كل من مسقط ومطرح ومعاقل الاخرى على الساحل يكشف حقيقة غياب أي تاثير برتغالي في تقنيات البناء وزخرفته وسماته المعمارية والدليل الواضح الوحيد الذي يستطيع به المرء أن يربط ربطاً غير مباشر بين المباني العمانية والوجود البرتغالي في مياه الخيلج هو أن القلاع بنيت على نحو ينسجم مع جديد من الحروب تم استيراده من اوروبا في القرن السادس عشر وهو نمط يقوم على استخدام النارية والمدفعية وما يستلزم جدران ذات الاركان الدائرية والاسيجة العالية وبرجين دائريين متقاطرين تتطلبهما النيران الدفاعية المتقاطعة، مؤكداً أن هذه السمات المعمارية أدمجت في مخزن البنّائين العمانيين واستخدمت لإبراز سمة الرفعة والمنزلة الاجتماعية في مساكن علية القوم أكثر منها لدواعي الحرب الحقيقية وظلت المباني الدينية في طبيعة الحال بمنأى عن هذا التأثير الخارجي. يقسم مالكوم المباني الدينية العمانية الى نوعين أساسيين هما المساجد المحافظة التي تشبه بعضها بعضاً في الداخل الأباضي والمساجد الانتقائية التوليفية المتنوعة على الساحل الذي يتميز بتعدد ثقافاته الا ان المساجد التقليدية العمانية ظلت قروناً على رغم هذا كما هي، من دون أن تتعرض لأي تغيير حتى في أدق تفاصيلها. ولهذا فإان مؤرخ الفن سيجد في المعمار الديني أكثر مظاهر تراث البناء المحلي وقيمها الجمالية الخاصة مستمدة من التاريخ الفريد الذي تتفرد به السلطنة وشعبها. ويرى مالكوم ان المساجد التقليدية تتميز في داخل السلطنة ببساطتها الشديدة وهي لا تعكس المبادئ الدينية عند الذين بنوا هذه المساجد او الذين بنيت من اجلهم فحسب بل انها تعكس كذلك البيئة المادية والانسانية الخاصة التي تنتمي اليها هذه المساجد عندما انتشر المذهب الأباضي في القرن الاول الهجري السابع الميلادي من جنوبالعراق الى كثير من مناطق العالم الاسلامي بما فيها مكةالمكرمة والمدينة المنورة ونتيجة الاحداث العديدة في تاريخ الامبراطورية الاسلامية والضغط الناشئ عن الصراع بين قوة الخلافة والقوى الاقليمية فقد خسر المذهب الاباضي كثيراً من قوته التي اكتسبها في بداية امره الا انه ظل على رغم ذلك المذهب الرئيس لسكان داخل عمان وحضرموت وكثير من قبائل شمال افريقيا من ليبيا الى المغرب. الا ان عمان هي المكان الوحيد الذي شهد نجاح الاباضية في التحول الى قوة سياسية تمزج بين الحكم الدنيوي والديني. ومن حيث نمط البناء فان المسجد الاباضي عموماً هو قاعة مربعة او مستطيلة الشكل بها تجويف محراب في وسط جدار القبلة يقابل المدخل الرئيس، وعادة ما يتقدم هذه القاعة صحن يغطى جزء منه بالسقف احياناً اما من الخارج فليس في مساجد الاباضية اي معالم ذات شأن. ومن المفارقات ان هذه البساطة الشديدة هي التي تميز هذه المساجد بين المباني السكنية ويتكون اكثر انواع المحاريب شيوعاً من تجويف صغير يتوسط لوحة عريضة مجصصة تؤطرها حلى معمارية، ومثل هذا المحراب تجويف ضحل العمق يمكن بيسر بناؤه في سمك الجدار من دون أن يبرز من خارج جدار القبلة ويتم عمداً تجنب أي شيء يدل على المحراب من خارج المبني. ويشير المؤلف الى ان المجتمع الاباضي في داخلية عمان هو عالم متجانس متميز بذاته كما يتجلى في تنظيمه الاجتماعي المتماسك الذي يقوم على التقاليد القبلية القديمة كما انه عالم متميز من الناحية الجغرافية حيث يحصر بين المنطقة الساحلية والصحراء، اما السواحل العمانية خصوصاً ساحل الباطنة وهو اكثر مناطق السلطنة ازدحاماً فانها تحتضن عدداً كبيراً من الجماعات العرقية والدينية فهناك البلوش وهم من السنة الاحناف وجماعة من فارس والهند من الشيعة، والبحارنة من أعالي الخليج، وعلى الجانب الآخر يشير المؤلف الى وجود عدد من اليهود عاشوا في ساحل الباطنة حتى قرن مضى من الزمان وكان مركزهم مدينة صحار، اضافة الى جماعات اقل عدداً في طول الساحل حتى مدينة مسقط اخيراً فإن السكان في المنطقة الجنوبية سابقاً من عمان وهي منطقة ظفار من السنة الشافعية. ويوضح المؤلف مجموعة من الخصائص التي تميز مسجد كل مذهب عن آخر. يقول إن المعمار الأباضي يختلف عن غيره بالبساطة الجمالية الا ان معمار المساجد السنية ينفرد كذلك ببعض الخصائص التي تميزه عن غيره، فإضافة الى المنارة التي تغيب عن المساجد الاباضية فان اهم المعالم المعارية هي المحراب والمنبر اللذان يتم بناؤهما كوحدة واحدة على رغم وجود المنابر الخشبية والمتنقلة. وكان يمكن رؤية احد النماذج على المنابر الخشبية في مسجد الجمعة القديم في الحافة بصلالة. وإضافة الى بساطة المنبر الا انه كان يتميز بكتابة طويلة نقشت فوق الباب الصغير وبأعمدته المنقوشة واللوحات الاساسية التي منحتها النقوش والفتحات المقنطرة نفحة من الحيوية وعموماً فقد كان هذه المنبر نموذجاً غير شائع من المصنوعات الخشبية لا يعثر عليه بسهولة في عمان. الشائع ان يكون المنبر وحده مبنية ملتصقة بالمحراب بوصفها جزءاً من جدار القبلة، والنقطة البؤرية في المسجد يمكن رؤيتها ليس في داخل المسجد فحسب حيث يكون تجويف المحراب عموماً مرتبطاً بمنبر داخل في الجدار من خلال فتحة مقنطرة صغيرة بل أيضاً خارج جدار القبلة على شكل نتوء بارز وهو امر يلزم وجوده من اجل إيواء التجويفين العميقين المتجاورين أي تجويفي المنبر والمحراب. كما يشيع وجود نافذة صغيرة اما في المحراب أو في جدار المنبر أو أكثر ندرة في كليهما. إلا ان ليس من النادر الا يوجد مدخل يفضي الى المنبر الا عبر المحراب ويكون من خلال سلم يوازي جدار القبلة غير ان قد توجد بعض الدرجات وهي ثلاثة في العادة في دخلة المنبر متعامدة مع جدار القبلة: وليس القصد من الدرجات ان تكون للاستخدام الحقيقي بل انها تمثل رمزاً يذكّر بفكرة الارتفاع التي تفترضها كلمة منبر ومن افضل الأمثلة على هذا النوع وحدة المحراب.