لم تنجح القمم الفرنسية - الألمانية ولا تحذيرات نائب رئيس المفوضية الاوروبية فان مييرن في احتواء التناقضات التي تعصف بمشروع البناء الاوروبي، لا سيما الاتحاد الاقتصادي والنقدي، كما اقرته معاهدة ماستريخت. فالاتفاق الذي توصل اليه وزراء الاقتصاد والمال في المجموعة الاوروبية، مطلع آب اغسطس الماضي لم ينقذ الا ظاهرياً نظام النقد الاوروبي، الذي تأسس عام 1979. ففي فرنسا، ثم في بلجيكا، وبدرجة اقل في المانيا، ارتفعت أصوات تطالب بادخال اصلاحات جذرية على نظام النقد الراهن وفك الارتباط بين المارك والعملات الاخرى، حتى يمكن خفض معدلات الفوائد وانعاش الدورة الاقتصادية، بعد فترة متواصلة من الركود والصعود المدهش في معدلات البطالة. من جهة اخرى، فإن اعلان المستشار الالماني هيلموت كول تأجيل الدخول في المرحلة الثالثة من الاتحاد الاقتصادي والنقدي تأسيس العملة الموحدة والبنك المركزي المشترك لمدة "عام أو عامين"، لن يؤثر على تماسك المشروع الاوروبي، طرح اكثر من علامة استفهام في اكثر من عاصمة اوروبية، ثم جاء التوتر "العابر" الفرنسي - الألماني، ليثير المزيد من الشكوك، ويركز حملة الاوساط النقدية على الدور "السلبي" الذي يلعبه البندسبنك في زعزعة الاتفاق الصعب المنال المؤسس في ماستريخت. الخلاف الفرنسي - الألماني لا يتعلق فقط بالجوانب النقدية، ولكن حول هذه الجوانب، تركزت اهتمامات الاوساط الاوروبية، خصوصاً في بروكسيل. وخلافاً لردود الفعل الاولى، التي اعقبت لقاء بالادور - كول في بون، لم تظهر في بروكسيل علامات تفاؤل حول مبادرات المانية - فرنسية مشتركة، وتركزت التعليقات والتساؤلات حول "نقاط الفراغ" التي لم يحسمها اللقاء، او التي تتطلب مزيداً من الاعداد على مستوى المجموعة ككل قبل التوصل الى اتفاقات شاملة او نهائية. ثلاثة اسئلة اساسية على الاقل، لم يجب عليها لقاء رئيس الوزراء الفرنسي مع المستشار الالماني: الى متى العودة المتدرجة الى آلية نظام النقد الاوروبي لما كانت عليه قبل اول آب اغسطس ؟، اية مبادرة فرنسية - المانية لصياغة تقارب اوروبي في السياسات الاقتصادية والتجارية؟. ثم ماذا عن مقر "المعهد النقدي الاوروبي" الممهد للبنك المركزي الموحد الذي ترجح اوساط بروكسيل انه فرانكفورت، والمفترض ان تأخذ القمة الاستثنائية في اواخر تشرين الاول اكتوبر قراراً بشأنه اثناء انعقادها في العاصمة البلجيكية "احتفالاً" بالتصديق الجماعي على معاهدة ماستريخت؟ ان نظرة سريعة على جدول اعمال النشاط الاوروبي خلال شهري ايلول سبتمبر الجاري وتشرين الاول اكتوبر المقبل تكفي لاعطاء فكرة عن حجم القضايا المطروحة وضرورة حلها خلال فترة زمنية قصيرة. المسألة النقدية مثلاً، ستناقش اكثر من مرة، على مستوى المفوضية ووزراء الخارجية ووزراء الاقتصاد والمال والهيئة النقدية قبل احتمال اتخاذ مقررات على مستوى القمة الاستثنائية. وفي المقابل، لا بد من التوقف عند الدهشة العارمة، امام قرار البندسبنك في 26 آب اغسطس الماضي عدم المساس بمعدلات الفوائد على المارك، علماً ان عدم التدخل المكثف للبنك المركزي الالماني في دعم الفرنك الفرنسي والفرنك البلجيكي والكورون الدانماركي امام موجة المضاربات، لعب الدور المباشر في الاعصار النقدي الثالث وفي اتخاذ قرار انفلاش نظام النقد الاوروبي، مطلع الشهر الماضي. وبالتالي، هل ان ازمة نظام النقد الاوروبي هي فقط ازمة ثقة، ام ان تحديات وتكاليف الوحدة الاوروبية تفرض على البندسبنك اعطاء الاولوية المطلقة للاستقرار النقدي ولجم التضخم… ولو على حساب تفجير النظام ذاته؟ ان الانظار متجهة الآن، لمعرفة اية مبادرة مشتركة سيتخذها الرئيس الفرنسي والمستشار الالماني خلال قمة تشرين الاولاكتوبرالمقبل وقبل ذلك لمعرفة اي اتجاه قد تشير اليه محاولات رئيس المفوضية جاك ديلور في وضع حد للانهيار الراهن. لكن هناك اجماع على اعتبار ان الابقاء على الهامش القائم داخل العملات الاوروبية، لا يمكن ان يستمر الى ما لا نهاية، ليس فقط من اجل انقاذ الاتحاد الاقتصادي والنقدي المقبل، بل كذلك من اجل انجاح السوق الاوروبية الموحدة السوق المفتوحة التي تأسست مطلع عام 1993. ويبدو ان هامش المناورة ضيق اكثر من اي وقت مضى، بفعل تأثير الانكماش الاقتصادي وتفاقم الازمة الاجتماعية، والحل اما ان يكون اوروبياً أو ان لا يكون. ومجدداً تتجه الانظار الى فرانكفورت، لمعرفة اي قرار يتخذه البندسبنك حول خفض معدلات الفوائد، خلال اجتماعه المقبل في التاسع من الشهر الجاري. وفي المقابل، لا يستبعد المراقبون عودة المضاربات ولو بدرجة اقل، لحشر نظام النقد الاوروبي في زاوية القرارات المستحيلة. مرة اخرى، كذلك، بعد فترة تراجع استمرت اسابيع، تعود الى الظهور، نظرية "الاتحاد النقدي المصغر"، المفترض ان يضم المانياوفرنسا ودول البينيلوكس وربما الدانمارك. ولكن، في هذه الحالة، اية صدقية سياسية، تبقى لمعاهدة ماستريخت! انه الانفجار النهائي لنظام النقد الاوروبي، ولكن حيث لم يتوقع المضاربون.