صدرت في المغرب خلال الفترة الاخيرة، مجموعة من الدراسات النقدية والكتابات النظرية والترجمات، تساهم في تسليط الضوء على الراهن الادبي في المغرب، حيث يحتل النقد موقع الصدارة. في ما يلي قراءة سريعة لآخر العناوين الصادرة، واستعراض لبعض سمات ومشاغل حركة نقدية هي بين الابرز في المختبر الثقافي العربي الحديث. تعرف الحركة النقدية في المغرب ازدهاراً ملحوظاً بلغ أوجه خلال عقد الثمانينات، وتخطّى - على أكثر من صعيد - الحركة الابداعية نفسها في القطر المذكور. وعبّرت دور النشر المغربية، والدوريات العامة والمتخصّصة، والكليات الجامعية، عن اهتمام متزايد بمختلف المناهج والاتجاهات التي يقوم عليها النقد الحديث، كما نشطت حركة ترجمة واسعة لابرز النصوص الممثلة لهذا النقد، خلال النصف الثاني من القرن. ومع الثمانينات، برزت أو راجت أسماء وتجارب مغربية أضافت الى النقد العربي، ساعية الى تأسيس نص نقدي يواكب الكتابة الابداعية وينظّر لها. وبين اعادة اكتشاف التراث العربي ونقده ودراسته على ضوء المناهج الحديثة عبد الفتاح كيليطو مثلاً، وقراءة الابداع المعاصر محمد بنيس، محمد براده...، راح مشروع "ولوج الحداثة" يبدو ممكناً، بل ضرورياً، على ضوء الاسئلة المطروحة، والاجتهادات والنظريات والمدارس. تفتح هذا المشروع في المغرب تحديداً ليس من قبيل المصادفة. فالمغرب العربي قائم أساساً عند مفترق الطرق بين روافد ثقافية عدّة، تربطه بالانتاج الادبي والفكري العربي المشرقي تحديداً علاقة اطلاع ومواكبة وحوار دائم، وهو يطل من موقعه التاريخي على الثقافة الغربية التي يخوض أكثر من مثقف ومبدع مغاربي في معمعتها منذ عقود. فهل يصح ما توصل اليه بعض النقاد، بشيء من السرعة ربما، من أن الاسبقية في مجالات النقد هي اليوم للمغرب العربي، بينما تبقى للمشرق الصدارة على مستوى الانتاج الادبي؟ لعل في القاء نظرة شاملة على آخر الاصدارات المغربية المتعلقة بالنقد، بعضاً من جواب... حداثة خجولة! أطلت على القراء، في الايام الاخيرة، اصدارات جديدة تكرس هذا الاهتمام المغربي الخاص بالادوات والمناهج النقدية، وارتباطها بالادب والتراث العربيين. ضمن منشورات "دار توبقال" صدر كتابان، أحدهما للدكتور أمجد الطرابلسي وعنوانه "نقد الشعر عند العرب حتّى القرن الخامس للهجرة"، والثاني لعبد الجليل ناظم وهو بعنوان "نقد الشعر في المغرب الحديث". ويعكس كلا المؤلَّفين، ملامح من خطاب نقدي يقف عند نقطة التقاطع بين مجمل الاشكالات والاسئلة التي عاشتها أجيال كاملة في الثقافة المغربية والعربية. فها هو الطرابلسي يرى مثلاً أن نقد الشعر عند الغرب، تطوّر من "الاتباعية" الى الحداثة التي مثلها ابن رشيق، ولكنها ظلت "حداثة خجولة، ومحدودة بعدم الخروج عن الاسئلة الاساسية التي يستوحي النقد العربي القديم اجابته عنها من أصوله التقليدية الثابتة". هكذا يرى المؤلف أن القرون الخمسة الاولى للهجرة، وتحديداً أول قرنين، ولّدت مواضيعَ عدّة لا تزال أساسية بالنسبة الى الثقافة المعاصرة، وطرحت قضايا ما زالت راهنة لم تجد حلاً نهائياً الى اليوم... لا غرابة اذاً، إذا وجدنا صدى تلك المواضيع والقضايا في أعمال نقاد المغرب الحديث. يتجلّى هذا الحضور، وتلك الاستمرارية، في مناقشة ابن قتيبة لقضية الشكل الفني وأولويته على المضمون... هذه المناقشة التي نجد أصداءها عند عبد العلي الوزّاني في المغرب الحديث. فالاخير توصّل، شأنه شأن المعلم الاول، الى أن المضمون والصياغة الشكلية عنصران لا يقل أحدهما أهمية عن الآخر في القصيدة الشعرية. ولو تأملنا نظرة القدماء الى الاهداف التي يتوخّاها القول الشعري، لوجدنا أنفسنا أمام اشكالية معاصرة هي قضية "الصدق والخيال" التي يتطرق اليها عبد الجليل ناظم في كتابه "نقد الشعر في المغرب العربي الحديث". فبينما "استعمل النقاد المغاربة مقياس الصدق الى جانب مقياس الطبع لتقييم النص الشعري، لم يشترط القدماء في الشعر أن يكون صادقاً، أو متضمّناً لالتزام أخلاقي معين، بل أكدوا على قيمته الفنية" ولم يكن همّ "الاستعلاء القومي" غائباً عند العرب في القرون الاولى للهجرة. فالبعض رفض الوافد والدخيل وتخوّف منه، متغافلاً عن الاضافات التي حملها الى الشعر العربي. ونسب ابن المعتز مثلاً للقدماء كل ظاهرة جديدة، أو قد تبدو كذلك، محاولاً بذلك "اغلاق الباب في وجه الشعوبية والدعاوي الاجنبية". هذا الرفض تطوّر الى موضوع مواجهة بين القدماء والمحدثين، فكانت التهمة الموجهة الى رواد الحداثة هي "اغترابهم عن التراث العربي، واستيحاءهم أشكالاً وأجناساً نابعة من حضارات أخرى". تودوروف وبارت وأمثالهما وفي المغرب عرف الخطاب النقدي، حسب عبد الجليل ناظم، هذا الصراع، فكان الرفض والقبول محورين أساسيّين في خطاب، راح يرفض تدريجياً "أن يكون مجرّد صدى سلبياً للنقاش المطروح في المغرب العربي". وربما كان هذا الرفض، أحد العوامل التي شجّعت الانفتاح على مدارس النقد الادبي والانتاج الفكري والادبي في الغرب. يتجلّى هذا الانفتاح مثلاً في دراسة لسعيد الفاسي بعنوان "اللغة والخطاب الادبي" منشورات "المركز الثقافي العربي"، تعكس الاثر الذي تركته أعمال تزيفان تودوروف ورولان بارت وأمثالهما على النقد المغربي، عبر ادخال مفاهيم وأدوات نظرية تدور حول المعنى والاسلوبية والشعرية والبلاغة. فقد تأثر مثقفو المغرب وجزء من نقاده بشكل واضح بتودوروف وشغله على خصائص اللغة، تأثرهم بالاجتهادات النظرية التي تتعامل مع الكتابة كفن تعبير "جمعي". أما رولان بارت، فترك بصماته على الحركة النقدية المغاربية، بما لا يترك مجالاً للشك. يتوقف المؤلف عند نظرة بارت الى البلاغة ك "مؤسسة اجتماعية، ورابط يوحّد بين أشكال اللغة وبين المجتمعات، هذا الرابط الذي يكون غالباً أوثق من رابط الايديولوجيا". ويمضي سعيد الفاسي في بسط النظرية البارتية: "إن امتلاك فن التحدث وفقاً لقوانين معينة، هو من مظاهر استهلاك السلطة الاجتماعية، ووسيلة من وسائل استخدامها كما عبر رولان بارت". والسلطة الاجتماعية التي تمنحها اللغة، سعت تيارات نقدية حديثة في الغرب الى تفكيكها وخلخلتها ونثر المعاني التي تنطوي عليها، بحيث لا تعود مستقرة على وحدة عضوية أو نواة تجمعها. هذا المشروع النقدي، الذي يحتل فيه جاك دريدا موقع المواجهة بامتياز، يبدو هو الآخر من الاهتمامات المباشرة التي تشغل الحركة الثقافية في المغرب. اذ لا تكاد تمرّ فترة الا وتطالعنا ترجمة جديدة لنصوص من تأليف هذا المفكر الفرنسي. من آخر الاصدارات في الرباط ترجمة "الدال والاستدلال" منشورات "المركز الثقافي العربي" و"مواقع - حوارات" "دار توبقال" الذي ترجمه وقدمه فريد الزاهي. يقدم الزاهي أعمال دريدا على أنها مدفوعة بهاجس مشترك، هو "تجاوز مبدأ الوحدة وظاهرة تطابق الوعي مع مقولاته. فاذا كانت الفلسفة من أفلاطون الى هيغل هي فلسفة حضور، فان سؤال دريدا الجوهري هو دائماً وباستمرار كيف نبدّد الحضور؟ أية استراتيجية نتبعها حتّى ندفع اللغة الى قول ما لم تتعود قوله، فنفتح بذلك الكلمة ونجعلها تهمس بالآخر؟..." تبدأ تساؤلات دريدا دائماً من موقع الهامش أو مما يعتبر كذلك، لا ليعيده عبر عملية التحليل الى موقع المركز... بل ليجعل منه موقعاً ممكناً للكتابة وفضاءً فعلياً للنص الابداعي. فهل أن الاهتمام العربي بمشروع دريدا الثقافي والفكري، يعكس رغبة لاواعية في تجاوز "ثنائية: استنساخ الحداثة الغربية - العودة الى الماضي"؟ هذا التجاوز الذي لا مفر من أن تخوضه المغامرة النقدية الساعية الى اختراق "نص مثقل بالميتافيزيقيا، محكوم بقواعد صارمة ولا يكاد يتبدل مع مرور الزمن". ويبقى سؤال أخير: هل دخلت الحركة النقدية المغربية من مرحلة التجميع والنقل والاكتشاف، الى مرحلة الاستيعاب والابتكار؟