أشعر بالحزن حين أتوقع ما سيظهر للعيان في مأساة البوسنة - الهرسك. والواقع انني توقعت مع كثيرين آخرين ما حصل. اذ ان انعدام ارادة الغرب هو الذي اضرم نيران العنف. فتلك المدن التي يسمونها ملاذات آمنة للمسلمين ويا له من اصطلاح مغلوط خسيس: ملاذات آمنة بدأت تتعرض للهجوم من جديد. وهكذا كانت النتيجة ان المزيد من الابرياء تعرضوا للذبح. وليس هناك من الاسباب ما يدعوني الى الاعتقاد بأن القتال سينتهي قريباً، لان الصرب لن يخسروا شيئاً اذا واصلوا الضغط الى ان يحققوا "النصر" النهائي الكامل. وها نحن نرى اللورد اوين مبعوث المجموعة الاوروبية يعترف بذلك. اذ انه اقتنع الآن بأن خطته لاحلال السلام في البوسنة ماتت ولم تعد سوى حبر على ورق. وهو يعلق بتهكم على الاقتراحات التي طرحتها صربيا وكرواتيا لتقسيم البوسنة على اساس عرقي فيقول: انه لن يكون هناك "كثير من الشرف" في اي تسوية سلمية. ويا له من تصريح بشع لا يصور شيئاً من الحقيقة. فكما قالت صحيفة "الغارديان" اللندنية: "ان العالم دنّس الانسانية والسلام ولوثهما في البوسنة. اذ ان التخلي عن المبادئ والسياسات والالتزامات بلغ حداً من الشمولية أدى الى شل عملية اصدار الاحكام. انها قصة خسيسة ودنيئة من بدايتها وحتى نهايتها". ان من الصعب على المرء ان يتوقع ظهور اي شيء جيد من هذه الكارثة الرهيبة المفجعة، مع ان هناك نقاشاً في بعض الدوائر، ولكن غير الحكومية مع الاسف، لما يمكن فعله لكي تصبح الاممالمتحدة اكثر فعالية، وما اذا كان في الوسع إعادة بعض المعنى لمفهوم النظام العالمي الجديد. فالسؤال الاساسي هو: هل ان المشكلات التي دفعتنا الى الوضع المزري الراهن ترتبط بالكيانات والمؤسسات ام انها مشكلات شخصية تتعلق بنوعية قادة العالم الحاليين؟ المؤرخ المعروف نورمان ستون من جامعة اوكسفور يعتقد ان المشكلات مزيج من النوعين. ففي معرض تنديده بالقيادة الحالية في العالم الغربي يقول ستون: "ان العالم مليء بأساتذة التصريحات الذين لا سحر في شخصياتهم اطلاقاًَ، فضلاً عن انهم يبعثون على الضجر". ويمضي في وصف اولئك القادة بأنهم "مجموعة من المحدودي القدرات". ويقارن بين الزعماء الحاليين والزعماء العمالقة السابقين وبعد نظرهم، من أمثال روزفلت وديغول وتشيرشل وبسمارك. لكن ستون يعتقد، في الوقت نفسه، ان ازمة القيادة العالمية الآن تتصل ايضاً بالكيانات والمؤسسات. ولهذا يهاجم الاجهزة البيروقراطية التي نشأت وتعاظمت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945، لانها تجعل من الصعب، كما يقول، على اي شخص ان يتدخل بصورة خلاقة وابداعية عند حدوث ازمة ما. وهناك اصوات اخرى تحظى باحترام واسع لكنها ليست على هذه الدرجة من السلبية في نظرتها. مثلاً اقترح برايان اوركهارت، الامين العام المساعد السابق للامم المتحدة، في مقالة نشرتها مطبوعة تصدر في نيويورك، ان يكون للامم المتحدة قوة عسكرية دائمة تتألف من آلاف عدة من الجنود المتطوعين وان تخضع هذه القوة للتعليمات اليومية المباشرة من الامين العام للامم المتحدة ومن مجلس الامن. ويقول اوركهارت ان مثل هذه القوة يمكن توسيعها على الفور لاستخدامها في حل المشكلات الاقليمية البسيطة مثل الاضطراب الراهن في الصومال. لكن هذه القوة لن تكون بديلاً للقيادة العالمية الفعالة وانما ستوفر آلية تسمح بالاحاطة بالمشكلة واحتوائها في وقت مبكر وبصورة فعالة. وعلق الديبلوماسي البريطاني المرموق صديق العرب انطوني بارسونز على هذا الاقتراح والظروف التي أدت الى ظهوره. وهو يشاطرني مشاعر الاحباط التي طالما اعربت عنها في هذه الزاوية، وهي ان جميع الآمال التي ارتفعت مع انهيار الاتحاد السوفياتي تبددت بسرعة. ويعتقد بارسونز ان هذا كان امراً محتماً وان الآمال التي ارتفعت بايجاد نظام عالمي جديد عقب التدخل الناجح في حرب تحرير الكويت من خلال عاصفة الصحراء، تعود الى اربعة اسباب اساسية: اولا - عدوان واضح لا لبس فيه اتفق الجميع على انه عدوان. ثانيا- مصلحة حيوية معرضة للخطر هي النفط. ثالثا- وضوح الوضع العسكري وخلوه من التعقيدات. رابعاً-اموال متوافرة لشن الحرب ومتابعتها. ويقول بارسونز: "لو لم تتوافر هذه الشروط لما كان في الوسع القيام بعملية عاصفة الصحراء". وهو يلمح ايضاً الى ان عدم توافر تلك الشروط بالنسبة الى يوغوسلافيا السابقة ساعد على عدم اتخاذ اية اجراءات فعالة. فالوضع العسكري في يوغوسلافيا السابقة معقد، كما ان الاسباب التي أدت اليه غير واضحة تماماً. يضاف الى ذلك انه ليس هناك مصالح حيوية للغرب معرضة للخطر، باستثناء الجانب الانساني، واخيراً ليس هناك اية مخصصات مالية. من هذا المنطلق يؤيد بارسونز اقتراح برايان اوركهارت ويرى انه طريقة فعالة لمعالجة الحروب الاهلية الدائرة الآن في انحاء مختلفة من العالم، التي تصل الى حوالي ثلاثين حرباً، ولمنع خروج هذه الحروب عن السيطرة لتصبح بالتالي خطراً حقيقياً على الاستقرار الاقليمي والعالمي. ويحاجج بارسونز بالقول: "ان التدخل الفعال في مرحلة مبكرة من الصراع سىوفر النفقات الهائلة التي ينطوي عليها تدخل الاممالمتحدة في وقت متأخر. ومن دون وجود مثل هذه القوة ستظل الاممالمتحدة، في رأيي، أداة مفيدة، ولكنها ستكون ثانوية الاهمية في الكثير من صراعات اليوم وفي عالم الغد". فهل هو مصيب في ما يقوله؟ ربما كان مصيباً الى حد ما. فمثل هذا الاقتراح لن يجدي بالتأكيد في معالجة مشكلات على غرار البوسنة. ولكنه اقتراح يستحق المتابعة، شرط ان ينال تأييد الدول المهمة، وشرط توفير الجنود المطلوبين والمال اللازم. وعلينا ان نذكر ان دفع الاموال المطلوبة امر غير مضمون. اذ تشير آخر المعلومات الى ان الولاياتالمتحدة مثلاً لا تزال مدينة للامم المتحدة بأكثر من 250 مليون دولار، بينما تريد المنظمة الدولية من روسيا اكثر من 150 مليون دولار، ومن المانيا اكثر من 60 مليون دولار. ان البوسنة تمثل ضربة شنيعة لصدقية الاممالمتحدة، على رغم شجاعة جنود المنظمة الدولية في يوغوسلافيا السابقة وعلى رغم كل ما اظهروه من احتراف. لكننا لم نتح الفرصة لاولئك الجنود لكي يؤثروا في سير الاحداث على الارض، لان التفويض الذي يعملون بموجبه جبان وهو حرمهم من اي فرصة للتدخل الفعال. فهم كثيراً ما وقفوا يتفرجون بينما كان الابرياء يتعرضون للذبح والقتل، مما جعل اولئك الجنود اشبه برهائن، كما ان تقاعس الغرب عن اتخاذ اي اجراء عسكري ضد قوات الصرب اصبح لوماً لقوات الاممالمتحدة، بدعوى ان الغرب لا يستطيع التدخل العسكري لكي لا يعرض تلك القوات للخطر. لكن اقتراح انشاء قوة للامم المتحدة تحت اشراف مجلس امن واثق من سلطته بمقتضى ميثاق المنظمة الدولية سيعطي الاممالمتحدة الفرصة لاستعادة زمام المبادرة في بعض الصراعات الاقليمية الراهنة. اما في الوقت الراهن فكل ما نحتاج اليه هو الامل في عدم تردي العالم الى صراعات وفوضى اقليمية لا نهاية لها. لكن هذا الاقتراح ليس بديلاً لظهور قيادة عالمية حازمة وحكيمة ودعمها بالقوة اللازمة اذا لزم الامر. فعلينا جميعاً ان ندرك انه حان الوقت منذ زمن طويل لكي نعيد التفكير بكل جدية في ما حدث. * نائب عن حزب المحافظين البريطاني ووزير سابق.