يبدأ الرئيس هاشمي رفسنجاني ولايته الثانية للجمهورية الاسلامية الايرانية، وتلك مهمة توقعها وتأهب لها سلفاً، كما تعامل معها المراقبون الغربيون كأمر واقع حتى قبل اعلان النتائج. وكان الشيء اللافت، انه في الوقت الذي افردت الصحافة العالمية حيزاً كبيراً من اهتمامها لمتابعة مسار العملية الانتخابية في دول اخرى من العالم مثل كمبوديا ونيجيريا، فانها بدت اقل احتفالاً بتغطية الاستعدادات الايرانية لانتخابات الرئاسة على نحو لا يتناسب مع محورية دور ايران في محيطها الاقليمي، فلقد كانت النتائج محسومة سلفاً في رأيها. ومن وجهة نظر عربية، فان المراقب لا يملك الا ان يتابع ويهتم ليس بشكل التنافس على مقعد الرئاسة الايرانية ومدى جديته، ولكن بدلالات النتائج وارتباطها بشكل السياسة الخارجية الايرانية حيال المنطقة. وفي هذا الخصوص، يمكن القول ان اعادة انتخاب رفسنجاني ربما سمحت له بتقويم سياسته العربية على مدار السنوات الاربع الماضية، والتفاته في شأنها الى مجموعة من الملاحظات الأساسية التي قد تغير وجهتها. احدى هذه الملاحظات ان اشكالية العلاقة مع العرب ترتبط بكل اشكاليات الجمهورية الاسلامية في الداخل والخارج. الملاحظة الاخرى ان تأزم العلاقة مع العرب وليد نظرة ضيقة لمفهوم الامن القومي الايراني. الملاحظة الثالثة ان اعادة بناء العلاقات العربية - الايرانية ممكنة على نحو ايجابي انطلاقاً من بعض السوابق الناجحة. تقاطع الدائرة العربية مع الدوائر الايرانية عندما نُصّب رفسنجاني رئيساً للبلاد عام 1989 كان عليه ان يواجه تحديات ملحة عدة ورثها عن النظام السابق، هي الازمة الاقتصادية والعداء الغربي والانكشاف الاقليمي. وبعد انقضاء سنوات اربع على هذا التاريخ، فان التحديات الثلاثة ما زالت ماثلة على قائمة اولويات رفسنجاني، ولا يزال ما تحقق لمواجهتها يقل بكثير عن طموحات النظام الايراني. وليس من قبيل المبالغة الادعاء أن جانباً كبيراً من مسؤولية هذا الوضع يعود الى الفشل في الربط بين تطوير علاقات بنّاءة مع العرب وزيادة قدرة النظام الايراني على مواجهة تحدياته الداخلية والخارجية. فمن زاوية اولى، يعد النفط عصب الاقتصاد الايراني والمصدر الرئيسي لعملته الحرة في حدود الامد المنظور. والمسؤولون الايرانيون ومنهم رفسنجاني يلحون بغالبيتهم على اهمية تكثيف عمليات التنقيب عن النفط على نحو يرفع انتاج البلاد الى اربعة ملايين برميل يومياً. واضافة الى ما يحتاج اليه ذلك من اسواق واستثمارات ضخمة يمكن ان يساهم العرب في تهيئتها، فانه يحتاج ايضاً الى مزيد من التنسيق مع السعودية، ودول مجلس التعاون الخليجي الاخرى سواء في اطار منظمة الاوبك او خارجها. ومن زاوية ثانية، فان الموقف الاميركي والغربي عموماً من ايران يتشكل تبعاً لسلوكها في محيطها الاقليمي وبخاصة في ما يتعلق بدورها في دعم الارهاب. فعلى تلك الارضية تدارست الجماعة الاوروبية قبل بضعة ايام قرار حرمان ايران من التكنولوجيا المتقدمة، وهو قرار له انعكاساته الخطيرة على مساعي انماء الاقتصاد الايراني. ومن زاوية اخيرة، فان اضطراب العلاقة مع العرب يرتبط بما يمكن وصفه بالانكشاف الاقليمي لايران، والانكشاف لا يؤخذ هنا في الضرورة بالمعنى العسكري خصوصاً بعد انكسار القوة العراقية، لكنه يؤخذ بالمعنى السياسي من خلال تأليب المعارضة الايرانية في المنفى لفتح جبهات صراع جديدة تستنزف طاقات حكام طهران، وكانت للهجوم الاخير على معامل تكرير النفط في عبادان دلالته في هذا الخصوص. النظرة الايرانية الضيقة الى الامن القومي تقلبت العلاقات العربية - الايرانية في ظل رفسنجاني من نقيض الى نقيض ففصمت عُرى وثيقة كانت تربط ايران ببعض دول المنطقة، ونسجت وشائج من عدم مع البعض الآخر، وذلك يرجع الى ان ايران افتقدت في سياستها العربية الى رؤية استراتيجية شاملة، وانطلقت في المقابل من نظرة ضيقة ميزتها خصائص عدة يقود كل منها الى الآخر: 1 - التناقض وعدم الوضوح: تتحدث ايران رفسنجاني بأكثر من لغة وتمضي في اكثر من طريق على نحو يصور سياستها كأنها مجموعة من ردود الافعال القصيرة الامد والعفوية، ولا ينتظمها اطار واحد. ويعزو بعضهم ذلك الى صراع المصالح بين رفسنجاني وخصومه السياسيين في الداخل، على اساس انه كلما كان رفسنجاني يقوم بمبادرة طيبة حيال المنطقة العربية، كان خصومه يزايدون عليه ويدفعونه وظهره الى الحائط الى الانقلاب على مبادرته او تخريبها. لكن ثمة اتجاهاً آخر لا يرى بوضوح تلك الثنائية على المسرح السياسي الايراني، ويجد قيادة النظام، على حد تعبير رمضاني، اشبه ما تكون بدراجة ذات مقعدين لكل من رفسنجاني وخامنئي، في اشارة الى مسؤوليتهما المشتركة عن كل ما يتخذ من قرارات مهمة. وبغض النظر عن التأويل فان النتيجة بالنسبة الينا نحن العرب تظل واحدة وهي اننا لا نعرف اين نصنف ايران او كيف نتعامل معها؟ ولقد مثل الشهران الماضيان نموذجين واضحين لتلك الازدواجية في التعامل والتحرك في الاتجاه ونقيضه في آن، وذلك ان جولة علي اكبر ولايتي لتنقية الاجواء مع دول مجلس التعاون الخليجي سبقها ولحقها ما افرغها من مضمونها او كاد. فلقد استبقت ايران زيارة ولايتي للامارات باصدار قانون يمد مياهها الاقليمية الى مسافة اثني عشر ميلاً بحرياً بهدف استيعاب الجزر الاماراتية الثلاث. بينما تفاوض ولايتي في ابو ظبي على اعادة فتح ملفات الجزر. وفي السعودية كان ولايتي يتفاهم على تمتين العلاقات الثنائية بين البلدين ويشيد بدور المملكة في انجاح موسم الحج، فيما بادرت عاصمته بافتعال ازمة حول منع الحجاج الايرانيين من التظاهر، وهي الازمة ذاتها التي كان من تداعياتها قطع العلاقات الديبلوماسية بين البلدين عام 1988. اما مع العراق، فجرى انتهاك مجاله الجوي المرة تلو المرة لضرب قواعد الاكراد ومواقع منظمة "مجاهدين خلق". وعلى رغم ذلك، فان هذا لم يمنع ايران من اطلاق مجموعات من الاسرى العراقيين على سبيل "اثبات حسن النية". وبطبيعة الحال، يمكن رفسنجاني بعد ان يستقر به المقام في فترة رئاسته الثانية ان يقيل ولايتي ويجعله كبش فداء لسياسته العربية غير الموفقة. وبالفعل يشير بعض التقارير الى مثل هذا الاحتمال، لكنه في كل الاحوال لن يكون كافياً لاصلاح الخلل الهيكلي في السياسة الايرانية. 2 - التعويض والاحلال: لما كانت العلاقات العربية - الايرانية لا تستقر على حال، فان ايران عندما كانت تخسر طرفاً عربياً ما، تبادر بتعزيز علاقتها مع طرف عربي آخر موازن له. حدث ذلك مع مصر مع اختلاف موقف الدولتين بشدة على قضية امن الخليج بعد تحسن طفيف في علاقتهما، اذ ركزت طهران على الدور التعويضي الذي يمكن ان يقوم به السودان. وشهد العامان الماضيان حركة دائبة بين البلدين لوفود اقتصادية واخرى عسكرية للبحث في سبل التعاون المشترك. كما تكرر المسلك نفسه مع الجزائر مطلع العام الماضي، اذ شرعت ايران في توثيق علاقتها مع المغرب ورفضت تمكين المجاهدين المغاربة الذين اجلتهم باكستان من التمركز في اراضيها. 3 - التركيز على المحتوى العسكري الضيق لمفهوم الامن، وذلك كنتيجة لعجز ايران عن خلق شبكة من المصالح السياسية والاقتصادية الراسخة مع دول المنطقة، على نحو اشعرها دوماً بفقدان المناعة. وكان الرئيس رفسنجاني ذكر في حديثه الاخير الى مجلة "تايم" ان بلاده "لا تنوي ان تصبح قوة عسكرية كبيرة في المنطقة". ووصف الاسلحة النووية بأنها "لا تشكل اهتمام احد"، وتلك تصريحات تذكرنا بأخرى ادلى بها في بداية عهده ونفى فيها عزم بلاده على ان تصبح "شرطي المنطقة" او ان تجعل جيرانها "يشعرون بعدم الامان". وعلى رغم ذلك، فان ايران منذ قبولها قرار وقف اطلاق النار ماضية في تكديس السلاح وتحديثه. وباليقين، يوجد قدر من التشويه لحقيقة القدرات العسكرية الايرانية الحالية، وما نعلم بخصوصها اقل بكثير مما نجهل. وعلى سبيل المثال، هناك بعض المصادر الذي قدر حجم الانفاق العسكري الايراني في العام الماضي وحده بنحو 14 بليون دولار، وهو رقم بالغ الضخامة يزيد 15 مرة عما كان مخصصاً لانعاش اقتصاد البلاد. كما ان هناك من يشير الى حيازة ايران 4 رؤوس نووية، والى وجود عدد من علماء الذرة من الجمهوريات السوفياتية السابقة يعملون لديها. وكذلك هناك من يتحدث عن اتصالات سرية مع اسرائيل لاعادة تسليح ايران. تلك نماذج لبعض معلومات تحتمل التأويل، لكن الثابت هو ان ايران تتعاون مع الصين لبناء مفاعل نووي، وانها تبني قدرتها الكيماوية وتركز على الصواريخ البعيدة المدى والغواصات والقاذفات، وجميعها اسلحة يمكن ان تحمل رؤوساً نووية. وتستطيع ايران ان تبرر سعة انفاقها على الاغراض العسكرية على رغم ازمتها الاقتصادية بخوفها من احتمالات انتشار الفوضى على حدودها مع ورثة الاتحاد السوفياتي السابق، لكنها لا تستطيع ان تنفي هواجس جيرانها العرب ولا تمنع اجراءاتهم الوقائية. العلاقة السورية - الايرانية : محاولة للتقويم اذا كان الشق الأول من التحليل يجعل تحسين العلاقة مع العرب مفتاحاً لتهدئة كثير من المشاكل الايرانية، فان الشق الثاني منه يوضح صعوبة ذلك في ظل السياسات الحالية. وهنا يثور السؤال هل يعني ذلك انه ستجري قولبة العلاقات العربية - الايرانية لمدة اربعة اعوام اخرى في قالب من الصراع او في القليل من التوتر؟ الاجابة يمكن ان تكون بالنفي اذا ادركت ايران ان حجم ما يجمع بينها وبين العرب يفوق بكثير حجم ما يفرق. ومن هذه الزاوية فان العلاقة السورية - الايرانية تمثل نموذجاً صحياً لما يمكن ان تكون عليه العلاقات العربية - الايرانية. فلقد استقامت تلك العلاقة الثنائية الوطيدة غداة الثورة الاسلامية، لشعور ايران بأنها تؤدي لها حاجة اساسية. وعلى حد تعبير يوسي أولمرت فان ايران في تلك المرحلة كانت تحتاج الى حجر تعبر من فوقه "المستنقع القذر" الذي كان يحيط بها من كل جانب، وقد وجدت في سورية ضالتها المنشودة، لذلك فانها سرعان ما اسكتت اصوات معارضي تحالفها مع سورية، بل مضت خطوة ابعد بمهاجمة الاخوان المسلمين في سورية ووصفتهم بأنهم "عصابات تنفذ مؤامرة كمب ديفيد". وكانت سورية بدورها تعاني ازمة داخلية واقليمية ودولية، وكانت تحتاج الى حليف قوي مثل ايران يملك القدرة على مساعدتها. وعلى رغم تصادم مصالح ايران مع مصالح سورية بداءة في لبنان ثم في شأن "اعلان دمشق" ومحادثات السلام، فلقد اثبتت طهران قدرتها على تطويع الخلافات الايديولوجية لحساب المصالح السياسية. ان ما يجمع بين ايران وسورية هو جزء مما يجمع بينها وبين العرب، وهذا يعني انه في كل الاحوال يمكن تغليب عناصر الوفاق على عناصر الصراع، وانه في تلك الحدود يمكن ان يكون نموذج العلاقة مع سورية نمطاً للعلاقات الايرانية مع سائر دول المنطقة. * استاذ العلوم السياسية المساعد في كلية الاقتصاد - جامعة القاهرة.