كان مفهوم النقد الادبي التطبيقي لدينا - الى عهد قريب - انه صلة بين المبدع والمتلقي، وقراءة ذكية واعية لقارئ متمرس موهوب، يحلل النص ويكشف عن فنه وقيمه الجمالية. وقد يكشف النقد من خلال التحليل والمقارنة، عن مستوى النص وقيمته ووضعه بالنسبة الى نصوص اخرى لمبدعه او لغيره من المعاصرين او السابقين. وكان قيام الصلة التي يعقدها الناقد بين المبدع والمتلقي، يقتضي ان يكون بين الناقد والقارئ قدر مشترك من الفهم لأسلوب النقد وما قد يتضمنه من مصطلحات ومفردات وأساليب، مهما كان مقدار تأثر الناقد العربي احياناً ببعض نظريات النقد الغربي ومصطلحاته، او التفاته الى نصوص ادبية غير عربية يقيس انطلاقاً منها النص العربي. وكان الناقد العربي يقتبس بعض الآراء من تلك النظريات ويشير الى تلك النصوص بفكر متميز واسلوب عربي مبين، دون ان يحتذيها احتذاء حرفياً او كاملاً بكل مصطلحاتها وأساليبها الاجنبية في التعبير. وعرف نقدنا الحديث طائفة من كبار النقاد ودارسي الادب، كان لهم - بهذا المنهج - اثر بعيد في حياتنا الادبية، سواء في نقدهم نصوص الادب العربي القديم، او في مواكبتهم تيارات الادب العربي الحديث واتجاهاته وتياراته الجديدة في الشعر، وفنونه المستحدثة في القصة القصيرة والرواية والمسرح. وكان لهؤلاء النقاد مشاركات قيمة في الاضافة الى النظريات الغربية، او تعديل بعضها، او ترجمة مصطلحاتها ترجمة توافق روح اللغة العربية وايقاعها وطرق الاشتقاق فيها. ولم يكن شرطاً ان تكون الترجمة في كل الاحوال كلمة نظير كلمة، بل كان الناقد يجد احياناً بحسه اللغوي والادبي الدقيق، ان "العبارة" ينبغي ان تقوم مقام "اللفظ" الواحد الذي يتعذر وجود نظير مناسب له في اللغة العربية. وبهذا المنهج المتكامل الجوانب، الذي يجمع بين التأثر اللازم والمشروع بنظريات النقد الغربي وتطبيقه، والحرص على قدر معقول من الاستقلال والتفرد، استطاع اكثر من جيل من هؤلاء النقاد ان يقدم النصوص الادبية الى عامة القراء، وان يشيد بالمواهب الطالعة ويبشر بالمذاهب الجديدة، ويعقد اواصر ثابتة بين النقد والابداع والقراء. واذا كان هؤلاء النقاد لم يهتدوا الى نظريات شاملة في النقد، او الى مناهج كاملة في تحليل النصوص فانهم - بما كان في تأثرهم من مرونة واعتدال - لم يفقدوا حريتهم ولا قدرتهم على النظر الى المستقبل في نصوص عربية قد تخالف في طبيعتها نصوصاً اجنبية، دارت حولها النظرية الغربية ومناهجها في النقد التطبيقي. وظل الناقد العربي قادراً - كلما اقتضى الامر - ان يبتكر بنفسه مصطلحات عربية، قد تستوحي احياناً بعض مصطلحات النقد العربي القديم، او تجيء تعريفاً لظواهر واتجاهات جديدة في نصوص الادب العربي الحديث. وبهذا احتفظ الناقد بشخصيته واسلوبه الذي يُعرف به عند القارئ في اطار واسع يضم تيار النقد العام. اما في ايامنا هذه، فقد تجاوز تأثر النقاد العرب ببعض نظريات النقد الغربي ومناهجه في التطبيق الحد المقبول. وانتهى الامر بهؤلاء الى التماهي الكامل مع هذا الاخير في المنهج والمصطلح والاسلوب. وتجاهل هؤلاء النقاد الفروق بين النصوص الغربية التي يدور حولها النقد الغربي، والنصوص العربية التي يتجه اليها النقد بالتحليل والتأويل. وأصبحت عطاءات اصحاب النظرية الواحدة - كالبنيوية والاسلوبية - "نمطاً" مكرراً لا تكاد تتميز في ما بينها على مستوى الاسلوب والمصطلحات. وفقد الناقد "شخصيته" التي لا ينبغي ان تغيب عن العمل النقدي فالنقد - مهما خضع لمناهج النقد العلمي - لا بد ان ينطوي على شيء من طبيعة الابداع والتفرد. لكن ناقدنا الحديث يُقبل على النص منذ البداية ليحلله، ويكشف عن رموزه في "طمأنينة حرفية" بالغة، وكأنما يقدم "تحليلاً معملياً" لمادة جامدة، في حين يمثل النص الادبي صورة فنية للحياة بقضاياها ومتناقضاتها ونماذجها، وبقدرتها على اثارة الاهتمام او المتعة او الدهشة. ومن حق النص ان يظل له - عند القارئ والناقد على السواء - ما في الحياة من قدرة على التأثىر، ولن يتاح مثل هذا الحق الا اذا قام النقد على مرحلتين: يكون الناقد في اولاهما قارئاً متمرساً ذكياً، دون اصرار مسبق على الدراسة والتحليل. وفي الثانية، يحاول الناقد ان يوضح ويعلل ما تركته القراءة في فكره ووجدانه من اثر. وإذا كان نقادنا، من الاجيال الاولى، حرصوا على ان يصوغوا آراءهم في اساليب قادرة على الوصول الى عقول عامة القراء، فان على الجيل المعاصر ان يكون اكثر حرصاً على قارئ النص الادبي في هذه الايام. فالنصوص التي درسها نقادنا الاوائل كانت لا تزال تجري على نسق مألوف، يجعل فهمها وتذوقها حسب معايير شائعة سائدة امراً ميسوراً. اما الناقد المعاصر فيدرس نصوصاً تكثر فيها محاولات التجديد والتجريب، وتغلب عليها الاشكال الفنية غير المألوفة في الشعر والقصة والمسرح. وتفرض طبيعة هذه النصوص، ان يبذل الناقد جهداً واعياً في تفتيح نظر القارئ على مقوماتها الجديدة، وذلك من خلال اسلوب واضح قدر الامكان لا يجاري النصوص في طابعها التجريبي وما قد تتضمن من غموض او طرق جديدة في استعمال اللغة او بناء العبارة. اما حين يصبح المبدع والناقد نمطاً واحداً على السواء، يباري احدهما الآخر في الابتعاد عن المتلقي وقدرته على التذوق والادراك، فان الابداع ينحصر في دائرة ضيقة من القراء، ويتخلى النقد التطبيقي عن غايته الاولى في اقامة صلة وثيقة بين المبدع والمتلقي. وحين ينتهي اي نشاط انساني الى "النمطية" والنماذج المكررة، ينصرف عنه الناس اذ لا يجدون فيه ما يحرك عقولهم او يوقظ وجدانهم او يمتعهم بما يحمل الجديد، ومن قدرة على اثارة التطلع والدهشة. فاذا صادف القارئ في كل سطر من النص النقدي مصطلحاً او اكثر، قد تُرجم ترجمة متعجلة او حرفية واختلفت ترجمته من ناقد الى آخر... واذا تحول ما ينبغي ان يكون اضاءة للنص واحاطة بكل جوانبه وبيان انتسابه ومستواه، الى احصاءات ورموز ورصد لبعض التراكيب اللغوية فحسب، فان القارئ يشعر بغربة وحيرة امام النقد، ويحس بأن الناقد لم يعد يتوجه اليه هو، مقدماً تلك القراءة الواعية المضيئة، بل بات يخاطب غيره من النقاد المتخصصين الذين يدرسون اصول تلك المناهج النقدية وطرق تطبيقها، كما يتحدث الطبيب الى الطبيب، والمعماري الى المعماري دون ان يعنيه شيء من فهم المريض او صاحب البناء. وقارئ الرواية العادي - مثلاً - يتوقع من الناقد ان يبسط القول بأسلوب مرسل مفهوم، عن "قضية" الرواية وأشخاصها وبنائها الفني وانتسابها الى اتجاه بعينه، وغير ذلك من مقومات العمل الروائي. ولن يغنيه عن ذلك كله ان يلتفت الناقد الى "محور" لغوي اسلوبي يدور حوله، متجاهلاً كل تلك العناصر الموضوعية والفنية مهما بلغت نظرته في اطارها الضيق من بصيرة او ذكاء. ولن يجدي القارئ ان يكون النقاد العرب نسخاً مكررة عن نقاد الغرب. كما لا يجدي ادبنا ان يكون احتذاء كاملاً على مذاهب الادب الغربي، بل ان مثل هذا الاحتذاء المستمر يضعنا في حال "استقبال" دائم يعطل بالتدريج قدرتنا على الابداع والابتكار، في انتظار ما قد يفد الينا من وجوه التجديد في النقد او الادب الغربي. طالما تساءلنا لماذا لم يبلغ ادبنا - في جملته - ما ننشد له من مستوى عالمي. والحق ان ذلك لا يعود الى نقص في المستوى بقدر ما يعود الى غياب الطابع القومي او المحلي المميز فقد يغفر القارئ الغربي بعض الهفات الفنية في رواية عربية، لكنه لن يغفر ابداً غياب الاصالة عن هذه الرواية، او غياب اي من العناصر التي تكسب كل عمل ابداعي كيانه المتميز. ان الناس يركنون في كثير من الاحيان الى النمط المتكرر، بحكم الالفة والعادة، اذ ان عملية ادراكه لا تتطلب جهداً يذكر... ولكن نسبة كبيرة من القراء ايضاً، باتت تضيق بهذه الانماط - وبخاصة ما اتصل منها بالذوق والوجدان كالأدب والفن. فما زال الكثيرون منا يجذبهم في المدن العصرية ذات الشوارع والبنايات النمطية، مشهد طريق ضيق صاعد او متعرج، او منزل صغير ذي عمارة و"شخصية" متميزة. وقد يكون من وراء هذا الاعجاب بعض الحنين الرومانسي الى البساطة والحياة الفطرية، لكن وراءه ايضاً، تمرداً واحتجاجاً على "نمطية" شوارع المدينة ومبانيها، وأسلوب الحياة المتكرر فيها. فليقرأ نقادنا المعاصرون ما شاؤوا، وما ينبغي لهم ان يقرأوه، من نظريات النقد الغربي ومصطلحاته، فذلك ما يجب على كل ناقد بصير ان يفعله. لكن عليهم بعد ذلك ان يتمثلوا ما قرأوا، لا ان يستعبدوا فكرهم لتلك النظريات، عليهم ان يضيفوا الى تلك النظريات، او يعدلوا منها بما يناسب طبيعة النص العربي وقدرة قرائه. ولعلهم اذ يفعلون، ينتهون - هم انفسهم - الى ابتداع نظريات جديدة واسلوب جديد خاص بهم في التطبيق.