أخاله صحيحاً ذلك الانطباع العام الذي يخرج به القارئ والمشاهد - هذه الأيام - للصحف وأجهزة الاعلام في أوروبا وأميركا بأن هناك قوى تعمد الى تصوير الاسلام كعقيدة، والعروبة كقومية، وكأنهما اصبحا مترادفين للارهاب الدموي واغتيال الحضارة الانسانية على امتداد العالم كله، وان المصدر الذي ينطلق منه هذا "العدو الوحشي الجديد للبشرية" ينتمي الى منطقة الشرق الاوسط ببلدانه العربية والاسلامية. وحين ألقت سلطات الامن الاميركية القبض على محمد سلامة والأربعة الآخرين بتهمة تفجير المركز التجاري الدولي في نيويورك، وعلى رغم انها لم تقدم أدلة جدية على الاتهام، والتحقيقات ما زالت تتسكع في ظلمات المجهول، والقضية برمتها لم ُتعرض على المحكمة فانه تم وضع الاسلام والمسلمين، العروبة والعرب، مع المتهمين الخمسة في قفص الاتهام. نعم... هذا صحيح كله. غير اننا لا نكون موضوعيين ونفقد مصداقيتنا في نقد وتعرية هذا التسطيح والتزييف في الاعلام الغربي، اذا لم نتنبه ونقرّ - بشجاعة - بأن هناك حقاً استخداماً للعنف السياسي الذي بلغ حد الارهاب الفردي والجماعي في بلداننا العربية والاسلامية، خصوصاً في مواجهاتنا بعضنا لبعض اسلامياً، وطائفياً، منذ اندلاع الحرب الاهلية المفجعة في لبنان والقتل البارد على الهوية في السبعينات، حتى اشتعال حرب الجنون بين الميليشيات الاسلامية في افغانستان، بعد تحررها من الاحتلال السوفياتي في التسعينات، مروراً بالارهاب والعنف والعنف المضاد، باسم الاسلام او باسم العلمانية والديموقراطية في الجزائر وتونس ومصر والسودان وايران. بتعبير آخر ان "اعمالنا الارهابية" في الوطن العربي وفي العالم الاسلامي، هي التي تغذي طاحونة الاعلام الغربي "بالمادة الدعائية" التي تفجر سخط الانسان العادي في اي مكان من عالمنا، ضد عقيدتنا وتوقيتنا وانساننا وقضايانا، وتحشد الرأي العام العالمي لعزلنا وحصارنا، باعتبار اننا بتنا "وباء العصر" الذي يهدد عملية بناء النظام الدولي الجديد، وان ما يسمونه "الاصولية الاسلامية" هي "قوام العدو" للتقدم والديموقراطية والاخاء البشري والسلام في هذه الفترة الانتقالية القلقة التي تفصل القرن العشرين عن القرن الحادي والعشرين. لا نريد في هذا المقال، ان ندخل في جدل حول مفهوم الغرب للاصولية الاسلامية ومفهومنا. ولا نريد، ايضاً، ان نمتد بالجدل حول الفروق بين الارهاب وبين حركة التحرير المسلحة ضد الاستعمار. ولا نريد - اخيراً وليس آخراً - ان ندفع بالجدل قدماً لنسجل السكوت او الشلل الذاتي العمدي للغرب، اعلامياً وسياسياً، على ارهاب ما يمكن ان ُيسمى بالاصولية المسيحية الصربية ضد المسلمين في البوسنة والهرسك، او ما يمكن - ايضاً - ان يسمى بالاصولية اليهودية الاسرائيلية ضد المسلمين والمسيحيين من ابناء الشعب الفلسطيني العربي. هذا الموقف الغربي، الغريب والشاذ، لا يعطي اهتماماً كبيراً لشعب البوسنة والهرسك على رغم انه في النهاية جزء من اوروبا، وهو ايضاً لا يهتم بالمسيحيين الفلسطينيين على رغم انه يرفع لواء الدفاع عن حقوق وحريات الاقليات المسيحية في بلدان الشرق الاوسط العربية والاسلامية. وقبل هذا كله لا يفوتنا ان نذكّر بحقيقة وردت في تقارير الادارة الاميركية عن الارهاب في العالم عام 1991، وهي ان عمليات الارهاب في الشرق الاوسط لا تتجاوز 37 في المئة من مجموع الاعمال الارهابية التي ُرصدت في العالم خلال تلك السنة. الأصولية اليهودية والمسيحية حسناً... اذا كان هذا كله ليس موضوعنا في هذا المقال، فما هو الموضوع اذن؟ ماذا نعني بذلك؟ نعني ان علينا، بادئ ذي بدء، ان نعي حقيقة ان الشرق الاوسط، وبالذات هذا المثلث من الارض الذي يتكون من مصر وفلسطين والجزيرة العربية، هو مهبط الاديان السماوية الثلاثة الكبرى في عالمنا المعاصر: اليهودية والمسيحية والاسلام، وبالتالي فانه ليس شاذاً ان توجد جنباً الى جنب، بل وظلت تتعايش معاً بدرجة او باخرى الاصوليات اليهودية والمسيحية والاسلامية، وتصبح جزءاً لا يتجزأ من النسيج الحضاري لهذه المنطقة من العالم. صحيح حدثت، بين آن وآخر، صدامات بين هذه الاصوليات الثلاث ولكن كان يتم استيعابها في جو من التسامح والتصالح، طالما ظل الامر في ايدي اهل المنطقة وشعوبها من دون تدخل أجنبي. متى تفجرت هذه الاصوليات بعنف وضراوة عمياء ضد بعضها البعض؟ التاريخ يقول لنا ان هذا بدأ مع التدخل الاجنبي من خلال ما سمي الحروب الصليبية الوافدة بعدوانها العسكري الذي رفع رايات المسيحية، وهي الحروب التي تصدى لها المواطنون المسيحيون جنباً الى جنب مع المواطنين المسلمين دفاعاً عن استقلال الاوطان. وتواصلت المحاولات ايضاً مع الغزو الاستعماري للامبراطورية العثمانية التي رفعت آلتها الحربية راية الاسلام. ثم هبّت على المنطقة عواصف الاستعمار الاوروبي الغربي، بألوانه وجنسياته وأساليبه الوحشية المختلفة والمتصارعة من اجل استغلال الثروات الوطنية، ومنذ ذلك الوقت طُبق التكتيك الاستعماري الشهير "فرق تسد"، فراح يقرب اليهود تارة على حساب المسيحيين والمسلمين، ليعود فيميز المسيحيين على حساب المسلمين واليهود، وهكذا دواليك. ودخل التداول في القاموس السياسي والاجتماعي الاوروبي مصطلحان عنصريان شهيران: "العربي القذر" و"المسلم المتخلف". ومع تصاعد حركة التحرر الوطني ضد الاستعمار تبلورت قوى سياسية وطنية متعددة، كان من بينها - للمرة الاولى في التاريخ الحديث في المنطقة - تنظيم سياسي باسم "الاخوان المسلمين" وذلك في اواخر العشرينات، وكانت مصر - وقتذاك - يحكمها شعار ثورة 1919 "الدين لله والوطن للجميع". وجاء زرع اسرائيل بالقوة وبدعم اوروبا والولاياتالمتحدة الاميركية في اسرائيل، وتبلورت في خضم الصراع العربي - الاسرائيلي اصولية يهودية تمارس الارهاب تحت راية الصهيونية، ابتداء من "عصابة شتيرن" في الاربعينات حتى جماعة غوش ايمونيم في التسعينات، وراحت السياسة الاسرائيلية بالتآمر او بالعدوان تؤجج، لصالح ما تعتبره امنها وسط المحيط العربي، الحرب الضروس بين الاصوليات المسيحية والاسلامية، كما حدث في لبنان. ومع قيام ما بات يعرف بعد انتصار حركات التحرر في المنطقة باسم النظم الوطنية التقدمية، راحت هذه النظم تهمل وأحياناً تستبعد - عملياً - الاسلام كعنصر اساسي من المكونات الروحية والحضارية للامة العربية ببلدانها المتعددة، وحدثت صدامات مع جماعة الاخوان المسلمين التي خرجت من عباءاتها تنظيمات العنف السياسي الاسلامي التي اخذت تمارس الارهاب ليس ضد الدولة والمجتمع وحسب بل ايضاً ضد الاخوان المسلمين، كذلك بين بعضها البعض، وفي الوقت نفسه ضد الاحتلال الاسرائيلي والاستغلال الغربي وما نسميه "قوى الاستكبار العالمي" التي تستنزف ثروات المسلمين وتقيد حقوقهم وحرياتهم. أية معالجة؟ وأخذ هذا الحريق يزداد التهاباً مع تفجر الثورة الاسلامية الخمينية في ايران وحركة المجاهدين ضد الاحتلال السوفياتي لأفغانستان. وساعد على ذلك استمرار انحياز الولاياتالمتحدة لاسرائيل ضد العرب، فضلاً عن غياب الديموقراطية وفاعلية القوى السياسية المختلفة في عدد من الدول والعصف بحقوق الانسان وتفاقم الازمات الاقتصادية والاجتماعية وشيوع الفقر وانكسار المشروع القومي التحرري التنموي بصياغاته المختلفة. وكان الفراغ الموحش. ولأنه بقدر ما يتقدم الغرب واسرائيل بقدر ما تتخلف وتنحط احوال العرب والمسلمين، فان الحركات الاسلامية ذات النهج العنيف، الطوباوي في تقديري، اعلنت، على رغم محدوديتها، الجهاد ضد كل ما تعتبره - وفقاً لتأويلاتها الخاصة - عدواً للاسلام في الداخل والخارج، حتى بلغت قلب نيويورك، اذا صحت الاتهامات الموجهة الى محمد سلامة وزملائه، وبالتالي اكتسبت بصورة محسوسة، أبعادها العالمية. نعم هناك في ما يسمى الاصولية الاسلامية جماعات ارهابية. ولكن ماذا عن جماعات الارهاب في الاصولية اليهودية الاسرائيلية والاصولية المسيحية ايرلندا، وما كان يسمى يوغوسلافيا على سبيل المثال؟. الخطر او العدو - اذن - حتى في المفهوم الغربي لا يمكن في ضوء وقائع التاريخ والواقع الراهن ان يقتصر على "الارهاب الاسلامي" وحده. وعلى رغم تعقيدات الظاهرة وتصاعد خطورتها فان مفاتيح استيعابها ومعالجتها واضحة وبسيطة، ولعلنا هنا نشير الى أربعة مفاتيح منها: سرعة الوصول الى تسوية سياسية سلمية عادلة للصراع العربي - الاسرائيلي بانهاء الاحتلال واقامة الدولة الفلسطينية المستقلة بعاصمتها القدس العربية. سرعة وقف العدوان الصربي على شعب البوسنة والهرسك بقوة المجتمع الدولي العسكرية والسياسية. اعتماد خطة تنمية اقتصادية اجتماعية عالمية من خلال الاممالمتحدة لصالح بلدان العالم الثالث التي استنزف قواها وطاقتها الاستعمار الغربي والشركات العملاقة المتعددة الجنسية. التحول الصحي في البلدان العربية والاسلامية كل حسب ظروفه، الى الديموقراطية وحقوق الانسان. أين يمكن العثور على هذه المفاتيح؟ هي باختصار طوع ارادتنا كشعوب ومواطنين في المنطقة اذا أردنا انقاذ انفسنا. وهي مسؤولية اوروبا واميركا في الوقت نفسه وبالدرجة ذاتها اذا شاءت، بعقل مفتوح، ان تتصالح حضارياً مع العالم الذي طال استغلالها وانهاكها له، وتحمي الانسانية من اندلاع ما يمكن ان نطلق عليه اسم "الحرب المقدسة" بين الاصوليات الاسلامية والمسيحية واليهودية في اواخر القرن العشرين، والتي باتت في حساب الاحتمالات قدرة جماعاتها - نتيجة فوضى المتغيرات الدولية - على استخدام أسلحة الدمار الشامل وليس الاسلحة التقليدية وحسب. * كاتب ومفكر سياسي مصري.