قرأت باهتمام في العدد 58 من مجلة "الوسط" الحلقة الاولى من مقابلة طويلة مع الشاعر اللبناني سعيد عقل، وانتابني الذعر من حجم الاهتمام الذي ارتأيتم إيلاءه لهذا الشاعر. فقررت، كقارئة متابعة لمجلتكم، وباعتباري كاتبة أنا الاخرى، أن أعبر فوق صفحاتكم عن رد فعلي، آملة التوصل الى إيضاح أسباب وخلفيات ذعري واستهجاني. بالنسبة الى جيلي، الذي بلغ سن الرشد في بداية الحرب الاهلية اللبنانية، لم يكن هناك مفر من اقتران اسم سعيد عقل بالمواقف الايديولوجية التي اتخذها خلال تلك الحرب، مما جرّده بنظر الكثيرين من مصداقيته كرجل ثقافة وإبداع. فالعار الذي كلل جبينه يوماً كأديب رائد، منفتح ومتسامح، اختفى للأسف تحت طبقة سميكة من الحقد والبغض الديني. فكيف ننسى ان سعيد عقل راح "ينكر عروبة لبنان"، ونادى "بالغاء اللغة العربية"، وعبّر عن "احتقاره للاسلام والمسلمين"، واختار معسكر التطرف؟ كيف ننسى أنه أصبح "الأب الروحي" لجماعة "حراس الارز" التي ارتكبت أشنع الجرائم؟ في اعتقادي أن كل ذلك أخرج اسم سعيد عقل من سجل التاريخ. وكان حريّاً بمجلتكم أن تضع سعيد عقل في سياقه السياسي والايديولوجي الحقيقي. كان يفترض ب "الوسط" أن تقدم نظرة نقدية للموضوع، مسلطة الضوء لقرّائها على الوجه غير المشرّف من تاريخه، بدلاً من الاكتفاء بتكريم الأديب دون السياسي، ومن الاحتفال بنتاجه الشعري واستعراض ذكرياته القديمة السابقة لنار الحرب الشرسة، متجاهلين الامس القريب وذكرياته السوداء. أليس من التعارض مع الامانة أن ندعي الإهتمام بالقيمة الادبية للرجل، وبالجانب المشرق من حياته دون الوجوه الاخرى؟ يستحيل برأيي فصل الادب عن السياسة في مسيرة أي مبدع. فعزرا باوند، رغم أهميته كشاعر، لحقه موقفه المحبذ للنازية كوصمة عار، ولا يمكن اليوم لأي باحث جامعي أو صحافي وقارىء عادي أن يتناول نتاجه الادبي دون أن يأخذ مواقفه السياسية بعين الإعتبار. دعونا نأخذ مثلاً آخر: رادوفان كارادزيك، المرشد الروحي للصرب في البوسنة. كارادزيك، مثله مثل سعيد عقل، شاعر معروف وله نظريات شاذة حول التاريخ، كما أنه معروف بالزهوّ بوسامته، وبالاعتداد بالنفس، وبحساسيته المفرطة. فهل مجلتكم على استعداد لان تكرس الحيز نفسه لتمجيده؟ حين قامت قناة تلفزيونية بريطانية، هي ال "بي.بي.سي"، مؤخراً بتقديم برنامج مخصص لشعر كارادزيك، انهالت عليها شكاوى المشاهدين من كل حدب وصوب، وكان أغلبهم من اليهود. فاليهود أكثر دراية من المسلمين بالخطر الذي يمثله القيام بتزيين صور المجرمين... إن المسلمين ما زالوا غير مدركين لما تنطوي عليه الكلمات والصور، البريئة في الظاهر، من مدلولات وتأثيرات غير مباشرة على حياتهم. كما أن ذاكرتهم ضعيفة، ويتحلون بفضيلة التسامح أكثر مما ينبغي. أيعقل مثلاً أن تقوم مطبوعة يهودية باطراء شاعر معادٍ للسامية، مهما بلغت موهبته؟ موسيقى فاغنر ما زالت ممنوعة في اسرائيل لانه كان موسيقار هتلر المفضل! قد ينطوي مثل هذا الموقف على رد فعل متطرف، وعلى عنصرية مضادة، وأنا لا أدعو الى تبنيه بالضرورة. لكنني أحاول كقارئة عربية، وكمسلمة، أن أفهم خلفيات "تسامحكم" الى هذا الحد، وغياب أي موقف نقدي من المادة التي تنشرونها. وبأية حال، فأنا أرى أن مثل هذا التمجيد لشخصية الشاعر، نزعة جاهلية تخطاها الزمن. فالشعراء ليسوا إلا بشراً، يعانون في أحيان كثيرة من التشويش، ويقعون في فخ التضليل مثلنا جميعاً. وبصفتي إبنة أخ أحد هؤلاء الشعراء نزار قباني، والزوجة السابقة لآخر محمود درويش، فانني أعتبر أن نزعة تمجيد الشعراء وإضفاء طابع الرومانسية على سيرتهم وحياتهم، نزعة مراهِقة، تنطوي على الكثير من التبسيط والإختزال. فكيف بالاحرى حين يتعلق الامر بشاعر مثل سعيد عقل، يمثل عالماً مضى -لحسن الحظ!- الى غير رجعة، عالماً من الإطناب والادعاءات الثقافية الجوفاء التي لا تخفي في باطنها سوى الغرور المزري، والتعصب الاعمى؟