قرار التعليم رسم البسمة على محيا المعلمين والمعلمات    الجودة دافع الابتكار والتميز    وزير السياحة يدشن شركة رملة للرحلات السياحية والمنتجعات البرية في حائل    الطقس يهدد الولايات المتحدة    أسبوع واحد نقل الحرب في أوكرانيا إلى التصعيد    تسونامي الخليج يجتاح الهلال    ضبط مواطن في القصيم لترويجه الحشيش وأقراصًا خاضعة لتنظيم التداول الطبي    عن الدراما المسرحية والتجاهل الأكاديمي أتحدث    الاتحاد يتصدر ممتاز الطائرة    الدانة يفقد اللقب القاري    1850 متدربا ومتدربة على المانجا في اليابان    فنانو المدينة يستعرضون أعمالهم في جولتهم بجدة    «حلاه يشدف» أحدث أغاني إبراهيم فضل بالتعاون مع محمد الخولاني    ضيوف خادم الحرمين يتجولون في مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف    أرسنال يعود بطريق الانتصارات في الدوري الإنجليزي بثلاثية في فريق نونو سانتو    "العوسق".. من أكثر أنواع الصقور شيوعًا في المملكة    الحارثي في ذمة الله    دوري روشن: الوحدة يداوي جراحه بفوز هام على التعاون    الانسانية تحتضر    الالتزام بالمواعيد الطبية: مسؤولية مجتمعية تحفظ الصحة وتُحسن الخدمات    انترميلان يقسو على هيلاس فيرونا بخماسية في شوط    الطاقم الطبي يحدد موقف محترف الأهلي من مواجهة العين    ابن وريك يدشن معرض الأمراض المنقولة بالنواقل في مهرجان الدرب    5 مطارات تتصدر تقارير الأداء لشهر أكتوبر 2024    المنتدى السعودي للإعلام يفتح باب التسجيل في جائزته السنوية    يناير المقبل.. انطلاق أعمال منتدى مستقبل العقار في الرياض    الأولى من نوعها.. اتحاد الغرف يعلن تشكيل لجنة للطاقة والبتروكيماويات    ترمب يرشح سكوت بيسنت وزيراً للخزانة    الفنان المصري وائل عوني يكشف كواليس طرده من مهرجان القاهرة السينمائي    معتمر فيتنامي: أسلمت وحقق برنامج خادم الحرمين حلمي    سعود بن نايف يرعى الأحد ملتقى الممارسات الوقفية 2024    التحقيق مع مخرج مصري متهم بسرقة مجوهرات زوجة الفنان خالد يوسف    مصدر أمني يؤكد استهداف قيادي في حزب الله في الغارة الإسرائيلية على بيروت    "الجامعة العربية" اجتماع طارئ لبحث التهديدات الإسرائيلية ضد العراق    بريدة: مؤتمر "قيصر" للجراحة يبحث المستجدات في جراحة الأنف والأذن والحنجرة والحوض والتأهيل بعد البتر    ضبط 19696 مخالفاً لأنظمة الإقامة والعمل وأمن الحدود خلال أسبوع    استمرار هطول الأمطار على معظم مناطق المملكة    مشروع العمليات الجراحية خارج أوقات العمل بمستشفى الملك سلمان يحقق إنجازات نوعية    24 نوفمبر.. قصة نجاح إنسانية برعاية سعودية    موديز ترفع تصنيف المملكة الائتماني عند "Aa3" مع نظرة مستقبلية مستقرة    جمعية البر في جدة تنظم زيارة إلى "منشآت" لتعزيز تمكين المستفيدات    وفاة الملحن محمد رحيم عن عمر 45 عاما    مصر.. القبض على «هاكر» اخترق مؤسسات وباع بياناتها !    حائل: دراسة مشاريع سياحية نوعية بمليار ريال    الأمر بالمعروف في عسير تفعِّل المصلى المتنقل بالواجهة البحرية    بريطانيا: نتنياهو سيواجه الاعتقال إذا دخل المملكة المتحدة    وزير الصناعة والثروة المعدنية في لقاء بهيئة الصحفيين السعوديين بمكة    نيمار: فكرت بالاعتزال بعد إصابتي في الرباط الصليبي    القبض على (4) مخالفين في عسير لتهريبهم (80) كجم "قات"    «الأرصاد»: أمطار غزيرة على منطقة مكة    باص الحرفي يحط في جازان ويشعل ليالي الشتاء    الثقافة البيئية والتنمية المستدامة    وزير الدفاع يستعرض علاقات التعاون مع وزير الدولة بمكتب رئيس وزراء السويد    رئيس مجلس أمناء جامعة الأمير سلطان يوجه باعتماد الجامعة إجازة شهر رمضان للطلبة للثلاثة الأعوام القادمة    إطلاق 26 كائنًا مهددًا بالانقراض في متنزه السودة    محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية تكتشف نوعاً جديداً من الخفافيش في السعودية    أمير الحدود الشمالية يفتتح مركز الدعم والإسناد للدفاع المدني بمحافظة طريف    أمير منطقة تبوك يستقبل سفير جمهورية أوزبكستان لدى المملكة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الأميركية ايما لازاروس شاعرة تمثال الحرية سبقت هيرتزل في الصهيونية !
نشر في الحياة يوم 02 - 08 - 2001

ثمة مثقفون عرب لا يعرفون أن صاحبة القصيدة الأربع عشرية، المحفورة على قاعدة تمثال الحرية في نيويورك، هي يهودية. وثمة مثقفون آخرون يعرفون ولا يهتمون، لأننا نعادي الصهيونية وليس اليهودية، فيهللون لها ولتلك "السُّونيتّة" الرائعة. مثالاً لا حصراً، ينقل الأستاذ عبدالله الجفري عن "استاذي ومعلمي الأديب والمؤرخ والمفكر السعودي الكبير" الراحل، محمد حسين زيدان، ما كتبه قبل نحو عشرين عاماً عن الشعر الذي "أنشدته لازارو وفخرت به الولايات المتحدة بالأمس"، وعن الشاعرة التي كتبت: "تعالوا إليّ أيها الجياع العرايا المحطّمين لتشعروا بالحرية... ذلك فخر أميركا". ويذكِّرنا "أبو وجدي" في "نقطة حوار"، يوم الرابع عشر من تموز يوليو الجاري ذكرى سقوط الباستيل الذي عجَّل الاستقلال الأميركي في حدوثه، بقول المفكر الراحل إن الأقلية اليهودية راحت "تطغى على الأكثرية، تُشوِّه الحرية في النفس الأميركية، لأنها لم تعد دعوة الشاعرة، بل كانت السخرية من الشاعرة يمارسها اليهود في فلسطين ... كأنهم بذلك قد أطفأوا الشعلة ودمروا القصيدة على تمثال الحرية" "الحياة"، 14/7/2001.
لفتت انتباهي في ما أملاه "الزيدان" نقطتان: كيفية تعريب اسم أسرة الشاعرة الأميركية، وكيفية ترجمة بضع كلمات من قصيدتها - وقد تكونان نقلاً عن آخرين. فالتعريب الصحيح للاسم Lazarus، حتى لذوي الثقافة الفرنسية، هو لازاروس بالسِّين، وليس "لازارو" كما جاء مرتين - مما ينفي احتمال سقوط الحرف الأخير سهواً أو طباعة. وهو هكذا لأنه من اللاتينية القديمة، وفي العبرية "أليعازر"، أي "يُعين الله". وقد ورد اسماً لشخصين في "العهد الجديد"، أحدهما "رجل فقير... تغطي جسمه القروح" لوقا 16: 20 - كُتب "لِعازر"، مع حاشية توازيه ب"أليعازر". ويجد القارئ في الانكليزية كلمة Lazar ومعناها "شحاذ مقرَّح مصاب بمرض مقزِّز"، وكلمة Lazarus بمعنى "مريض، وبخاصة شحاذ مجذوم"، ومن هاتين الكلمتين: Lazaretto، مستشفى للمصابين بأمراض مُعدية.
أما الترجمة، أو إعادة الصوغ Paraphrase، أكانت للأديب السعودي محمد حسين زيدان أم لغيره، فتُوحي بأن الأصل "مسيحي"، أو متأثِّر بالمسيحية أكثر بكثير مما تسمح شاعرة يهودية لنفسها بالاقتراب منه، وخصوصاً أنها كانت في تلك الفترة ناقمة على المسيحيين الروس، كما يتبين لاحقاً، وربما على المسيحيين أجمعين. ففي النص الأصلي، تقول اميركا بلسان سيدة الحرية، أو "أُمِّ المنفيين" ذات "الشفتين الصامتتين": Give Me...، "أعطوني متعبيكم وفقراءكم، وجماهيركم التواقة الى التنفُّس بحرية...، أنا الرافعة شعلتي قرب البوابة الذهبية". وثمة فارق كبير، في اعتقادي، بين صيغة "اعطوني" أو "هاتوني" ما عندكم، كما تأتي من بلاد ما كانت لتعظُم بمثل تلك السرعة لولا المهاجرين واللاجئين، ومن شاعرة تريد من وطنها فتح أبوابه لأبناء "عنصرها" المضطهدين في أوروبا المسيحية، وبين دعوة المحبة من يسوع الناصري الى البشرية جمعاء، البادئة بالكلمات الثلاث Come Unto Me...: "تعالوا إليّ يا جميع المتعبين والرازحين تحت أثقالكم وأنا أريحكم... فأنا وديع متواضع القلب.. وحِمْلي خفيف" متّى 11: 28-29.
خلفية أدبية وتاريخية
يُخيل إليّ أن قلّة قليلة جداً، حتى من المثقفين العرب الذين يعرفون أن "آيما لازاروس" يهودية، تدرك مدى ما فعلته هذه الشاعرة في إلهاب مشاعر اليهود لإقامة "وطن" لهم في فلسطين: "لن يكون أيّ منا حراً، الى أن نصبح كلنا أحراراً". وبحسب المراجع اليهودية المعاصرة، نجحت لازاروس في دورها المزدوج كمتحدِّثة باسم الجالية اليهودية في الولايات المتحدة و"نسبية مضطرمة" لتلك الجالية، وكانت "رائدة مهمة للحركة الصهيونية" تدعو الى إنشاء "وطن قومي" لليهود قبل "ثلاثة عشر عاماً من بدء هيرتزل في استعمال تعبير الصهيونية". وكما كتبت عنها هنرييتا زولد Szold في مجلة "أميركان هيبرو" "العبراني الأميركي"، انها... "زرعت بيدها البذور التي ستحوِّل قبرها الى بستان".
كان جدّاها لأبيها من اليهود الألمان الأشكيناز الذين هاجروا الى "العالم الجديد"، حيث ولد ابنهما الأول أليعازر وصار حاخاماً وأبرز المراجع عن الطقوس الدينية السِّفاردية في النصف الأول من القرن التاسع عشر. وتزوج والدها، موسى، وهو الإبن الثاني لتلك الأسرة، من آستير نايثان". التي كانت من أسرة سفاردية "ارستقراطية"، وجمع ثروة كبرى من صناعة تكرير السكر. وأمّن موسى وآستير لبناتهما الست تعليماً خاصاً رفيع المستوى، كان التركيز فيه على الآداب واللغات. وفي حين كان أجداد آيما وأقرباؤها الورعون ناشطين في الكنيس الإسباني - البرتغالي للسِّفارديم، فإن أسرتها المباشرة كانت "محظورة" في صفوف "اللازاروسيين" وزمرتهم، لأنها لم تكن "ملتزمة دينياً". فقد عمل موسى لازاروس جاداً على وضع أسرته في مجتمع أثرى أثرياء المسيحيين - لم يؤمِّن لبناته أي "تعليم عبري"، وحصَر الحياة الدينية اليهودية لأسرته ببعض مظاهر المناسبات التي تتطلبها الشكليات و"آداب السلوك".
كانت عمليات التمييز الواضحة ضد اليهود "نادرة" حتى منتصف السبعينات من القرن التاسع عشر، لكن الأمور تغيّرت بدءاً من عام 1877، مع حدث حظي باهتمام واسع النطاق في الصحافة وأوساط مجتمع "النخبة". فقد رفض فندق "غراند يونيون" الفخم استقبال أحد أثرياء اليهود الألمان المحدثين نوفو ريش، المدعو جوزف ساليغمان. وأعلن صاحب الفندق، القاضي هنري هيلتون، انه لا يعترض اطلاقاً على النخبة السفاردية التي تعيش - مثل أسرة آيما لازاروس - في أميركا منذ ما قبل الثورة، لأن أفراد تلك النخبة كانوا "العبرانيين الحقيقيين"... الرفيعي المستوى. لكن "اليهود الساليغمانيين" من المهاجرين الألمان "القذرين والجشعين"، كما وصفهم هيلتون، غير مقبولين. وتفيد المصادر اليهودية الاميركية التي اطلعت عليها بأن تلك الحادثة كانت نذيراً بالتغيير، إذ بدأت معاداة اليهود تجتاح أوروبا. ومع تصاعد نسبة الهجرة ليهود شرق أوروبا، ازداد جو التساهل الديني الأميركي تناقصاً.
كانت كل صديقات لازاروس وأصدقائها تقريباً من المسيحيين، ومع ذلك كان الجميع ينظرون - ويشيرون - اليها على أنها... "اليهودية". فحتى في فترة "التساهل"، والمظاهر المهذبة التي ظلت سائدة في مجتمع الأثرياء وعلى رغم جهود والدها، وخلفيتها السفاردية النخبوية، ظلت مشاعر "الغربة" قائمة، كما كتبت في إحدى رسائلها: "أدرك تمام الإدراك ان هذا الازدراء وهذه الكراهية هما الأساس للاتجاه العام في السلوك الاجتماعي نحونا...".
في عام 1866، نشر لها والدها كتاباً بعنوان "قصائد وترجمات" 270 صفحة يضم ثلاثين قصيدة لها وأربعاً وأربعين قصيدة مترجمة عن الألمانية هاينريخ هاين والفرنسية فيكتور هيغو، أعدّتها بين عاميها الرابع عشر والسادس عشر. وباستثناء عبارتين توراتيتين صدّرت بهما قصيدتين لتوحي بالفكرة العامة، فإن المقطوعات الشعرية الأربع والسبعين كانت خالية كلياً من أي محتويات أو روح يهودية. في عامها الثامن عشر 1867، كتبت مجموعتها الثانية، التي نُشرت عام 1871 مهداة الى مرشدها وناصحها، الشاعر الاميركي رالف وولدو آميرسون 1803 - 1882، وفيها أول قصيدة تدور حول موضوع يهودي: "داخل الكنيس اليهودي في نيوبورت". ويتبين من ثانية الرباعيات في هذه القصيدة ان الدين اليهودي "لم يحرك روحها ولم يُرض قلبها"، كما جاء في ترجمة موثقة لحياتها. فهي لم تجد في ذلك المعبد "أي علامات للحياة" إذ حتى "الصلوات نفسها"، المنقوشة على جدرانه، مكتوبة "بلغة ميتة"، ونور "الشعلة السرمدية" المزدوجان في النص الأصلي منهوك القوى - تستعمل لازاروس هنا، مثلما في قصيدة تمثال الحرية، كلمة Lamp، ومعناها المصباح، وربما: مصدر إشعاع فكري أو روحي.
اقترح عليها صديقها الشاعر والناقد ادموند ستادمن Stedman التحوّل الى "التراث اليهودي كمصدر للإلهام"، فأجابته - كما كتب لاحقاً - إنها فخورة بدمائها ونسَبها، غير ان "المثل العليا العبرية لا تستهويها". وعندما ناشدها الحاخام غوستاف غوتايل كتابة بضعة تراتيل دينية لكتاب يعمل على إعداده، كان ردها واضحاً: "يسرّني أن أساعدك قدر استصطاعتي، مع أن مساعدتي لن تكون كبيرة. سأبقى دائماً مخلصة لعِرقي Race، لكنني لا أشعر بأي حماسة دينية في قرارة نفسي".
صهيونية... قبل اختراع الكلمة
كان عام 1881 نقطة التحوّل في مشاعر لازاروس من اللامبالاة يهودياً الى الحماسة "القومية" المتشددة في الدفاع عن "محنة شعبها". ففي تلك السنة، اغتيل القيصر الروسي ألكساندر الثاني واتُّهم اليهود بارتكاب الجريمة تنفي المراجع الغربية أن يكون اليهود وراء اغتياله، لكنها تُقر بوجود... شريك يهودي واحد لمنفِّذ العملية. راجع، مثالاً لا حصراً، موسوعة البريتانيكا. وحدثت على أثر ذلك أعمال شغب في مئتي مدينة وبلدة روسية ضد اليهود وممتلكاتهم، قُتل فيها الكثيروين وسُمِّيت "مذابح منتظمة" Pogroms - ثبت لاحقاً أنه لم تكن للحكومة يد فيها، "مع ان سياستها المعادية للسامية شجعت عليها". وكان رد فعل لازاروس الأولي أن تهرع الى ملاقاة المتدفقين على أميركا من الناجين المروَّعين، لمساعدتهم.
بدأت في تلك السنة، وهي في عامها الثاني والثلاثين، في قراءة "أدبيات شعبها" ودراسة اللغة العبرية، وزيادة ارتباطها باليهود. وعندما نشرت "ذي سانتشوري مغازين" مجلة القرن مقالاً يسوِّغ "المذابح المنتظمة"، بدفاعه عن الحكومة القيصرية وإلقاء اللوم على "الضحايا"، ردّت لازاروس بدفاع مضاد، "مشبوب العاطفة"، عن اليهودية واليهود الروس. وكان عنوان المقال، الذي نشرته المجلة في عدد أيار مايو 1882، "المسيحية الروسية ضد اليهودية العصرية" - وقد تعني الكلمة الوسطية Versus: "في مقابل" أو "بإزاء". في ذلك العام أيضاً، نشرت لازاروس ديواناً عنوانه "أغاني ساميٍّ: الرقصة حتى الموت، وقصائد أخرى"، يتضمن أشعاراً يهودية حماسية وترجمة أشعار عبرية من القرون الوسطى سولومون ابن غابيرول، ويهودا هاليفي، وموشيه ابن عزرا. والقطعة الرئيسية هي دراما من خمسة فصول شعرية تعيد، "بعاطفة ملتهبة"، رواية قصة يهودية من القرن الرابع عشر للميلاد في "الشهادة والبطولة" - والهدف منها هو الرد على الاتهامات التي وُجِّهت الى اليهود بتسميم الآبار والتسبُّب تالياً بالطاعون الدَّبليّ والرئوي، أو "الموت الأسود"، الذي اجتاح وسط أوروبا وغربها 1347 - 1351م وأودى بحياة ما يقرب من خمسة وعشرين مليون انسان، أي نحو ثلث العدد الإجمالي للسكان. وفي تلك "التراجيديا"، يحضّ البطل اليهودي إخوانه الذين "اختاروا الشهادة" على ألاّ يخشوا من أن "تموتوا غير منتقم لكم"، لأن الحق "حقُّنا" والقوة "قوَّتنا" وهما "هبة من السماء". فاليهودي، في هذه القصيدة، يحمل "شريعة الله، وشعلته، وميثاقه، وعهده" - وحيثما يبرز في العصور "كاهن يهودي، أو شاعر يهودي، أو مغنٍّ يهودي، أو قدِّيس يهودي"، فإنه سوف... يُنير الظلمة ويبدِّد الكآبة. ودوماً، سوف "يُثأر للشهداء"! وهذه القصيدة بالذات مهداة الى روح صديقتها ماري آن آفنز 1819 - 1880، الروائية البريطانية اللامعة التي كتبت بالاسم المستعار "جورج أليوت"، والتي كانت - بحسب كلمة الإهداء - أبرز الأدباء والفنانين العاملين في تلك الأيام من أجل "إنعاش روح القومية اليهودية وتعظيمها"، وخصوصاً في روايتها "دانيال ديروندا" 1876، التي كانت "مصدر إلهام" للشاعرة الأميركية في تكوين مفهومها ل"أمة يهودية جديدة". واللافت للانتباه أن "جورج أليوت" كان القراء يظنون "انه" كاهن أو ربما... زوجة كاهن كانت في صغرها من الانجيليين التبشيريين، لكنها تخلّت لاحقاً عن "مسيحيتها التقليدية". كما ان "الأب الروحي" الأول أدبياً للازاروس، رالف وولدو آمرسون 1803-1882، كان في شبابه قساً في كنيسة "الموحدين" يونيتارين، الذين يقولون بالتوحيد ويرفضون التثليث. لكن وفاة زوجته عام 1831 أحزنته كثيراً وزعزعت إيمانه، فاستقال في العام التالي وصار من... المشككين. ولا أدري إن كان لهذا "الانقلاب" على الايمان المسيحي، في حياة "أليوت" وآمرسون على السواء، أي دور رئيسي في كونهما أبرز الصديقين والراعيين الأدبيين للشاعرة اليهودية!
في أواخر عام 1882 أيضاً وأيضاً، نشرت مجلة "سانتشوري" المذكورة آنفاً مقالة بحثية بعنوان "المشكلة اليهودية"، اتسمت بموقف "صهيوني" واضح جداً، كما تقول ترجمتها المنشورة ضمن مجموعة "كنوز يهودية في مكتبة الكونغرس" الأميركية. ففي أجواء "تندِّد بالمطامح القومية اليهودية لمناقضتها التعبير الأعلى عن اليهودية"، وتُكبَتُ تلك الطموحات مخافة أن يُتَّهم اليهود بالولاء المزدوج، هلّلت لازاروس "للصهيونية التي ناصرت قضيتها رواية جورج اليوت، دانيال ديروندا". فقد رحبت الشاعرة اليهودية الأميركية "بالمستعمرات التي تُزرع في الأراضي المقدسة"، آخذة بمنتهى الجدِّية ما ذكره الكاتب والرحالة البريطاني لورانس أوليفانت عن كون المشكلة اليهودية متمثِّلة في اختيار اليهود بين "انقراض الجنس عبر الزواج في بلدان أكثر تمدُّناً بكثير لتحاول ارتكاب المجازر، وبين الانفصال في جنسية Nationality فتية". واختتمت لازاروس مقالتها مستشهدة بأقوال شاب يهودي روسي عن هذا الموضوع، لأن أقواله "توجز رغبات الأمة وطموحاتها" - إذ قال إن ما يحتاج اليه اليهود هو دمجهم واتحادهم "مرة أخرى كأمة"، ذات "قائد كفوء" و"حكومة مركزية".
خصصت آيما لازاروس بقية حياتها القصيرة توفيت قبل إكمالها التاسعة والثلاثين للرد بقوة على موجة "معاداة السامية" المنتشرة في العالم، من خلال مقالات "نارية" في مجلات "علمانية". وفي الوقت نفسه، كانت تكتب في مجلات ومطبوعات يهودية لحثّ اليهود في كل مكان على اقامة "وطن جديد في فلسطين - ومن أبرز تلك المقالات، سلسلة بعنوان "رسائل دينية الى العبرانيين"، نُشرت في "أميركان هيبرو"، ذات الشعبية الكبرى في أوساط اليهود من الطبقة المتوسطة. وقد زارت أوروبا مرات عدة بين عامي 1883، الذي كتبت فيه قصيدة "التمثال الضخم الجديد" ذي نيو كولوسوس"، و1887، الذي توفيت فيه - وكانت الزيارات لدعم "قضية القومية اليهودية". تجدر الاشارة هنا الى أن هذه القصيدة، التي ربما كان حافزها الأكبر دفاعاً عن "حقوق" اللاجئين والمهاجرين من اليهود الروس، ودعوة الى فتح أبواب الولايات المتحدة لهم، كُتبت خصيصاً لمزاد علني في حملة جمع التبرعات لبناء قاعدة التمثال - وُضعت اللوحة المنقوشة عليها كلمات القصيدة الأربع - عشرية، على قاعدة تمثال الحرية، عام 1903، أي بعد وفاة لازاروس بستة عشر عاماً.
آيما لازاروس شاعرة يهودية كتبت قصيدة يهودية الروح والدوافع لمساعدة "المشردين" اليهود، "المضيَّعين في العاصفة"، و"نبيّةٌ" للصهيونية قبل اختراع الكلمة بثلاث عشرة سنة، دعت الى قيام "عزرا" آخر من جديد "لرفع راية اليهودي" على أرض فلسطين. ولذا، فإن الأقلية الطاغية على الأكثرية لا تسخر من هذه الشاعرة، بل تعظِّمها وتمجِّدها. وآمل، بعد كل هذه المعلومات الموثّقة، ألاّ نشارك نحن بعد الآن في التعظيم والتمجيد. فهي من المتسبِّبين، على نحو مباشر، بكبرى المآسي العربية منذ قرون، وهي المأساة المستمرة لفلسطين، وللعرب أجمعين!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.