أسماؤها مرادفة للدمار والمآسي، وأبنيتها المتصدعة والمهدمة تشهد على عنف البشر وجنون حروبهم. خمس مدن في آسيا وأفريقيا وأوروبا شوّه القصف معالمها، وتناثرت حجارة بيوتها وصروحها كأحجار دومينو عبث بها طفل نزق. انغكور، بيروت، حلبجة، مقديشو، ساراييفو… السبحة تكر، وسيناريو الرعب يتكرر، والعالم يتفرج من دون ملل. فهل تجد مدن الخراب من يعمرها؟ أنغكور الاثرية يطلقون على مدينة انغكور الاثرية، في شمال غربي كمبوديا، اسم "مدينة الألف معبد". لكن معابدها وأبنيتها صارت شبه اطلال بسبب الحروب المتعاقبة، وما نجا من القصف ولصوص الآثار يكاد يندثر بسبب الاهمال وعوامل التعرية الطبيعية وزحف الغابات. كانت انغكور بين القرنين التاسع والخامس عشر ميلادي عاصمة امبراطورية الخمير الكمبودية التي تعتبر اكبر الامبراطوريات وأرقاها وأكثرها ازدهاراً في تاريخ جنوب شرقي آسيا. وترك ملوكها صروحاً اثرية اشهرها معبد انغكورفات الذي بناه الملك سوريا فارنام الثاني في القرن الثاني عشر، ومعبد انغكور ثوم الذي شيده الملك جايافارنام السابع في منتصف القرن نفسه. واستغرق بناء المدينة نحو 300 سنة، وعكس تصميمها المعماري مبادئ الديانات البوذية والهندية وأسس علم الفلك الهندي القديم، اذ شيدت حول معبد هرمي مركزي يمثل جبل ميرو الذي تتحدث عنه الكتابات الفلكية الهندية. ولا تستخدم شبكة الخزانات والاقنية والخنادق المائية فيها للري والشرب فحسب بل ترمز الى المحيط الضخم الذي يقع في وسطه جبل ميرو الكوني! وخلال القرن السادس عشر أدت هجمات جيوش الممالك التايلندية الى هجرة سكان انغكور. ولم تستعد المدينة شيئاً من عزها القديم الا ابان الحكم الاستعماري الفرنسي في القرن التاسع عشر، عندما بدأت تثير اهتمام الباحثين وعلماء الآثار. وعمل عدد منهم تحت اشراف "المدرسة الفرنسية للشرق الاقصى" على ترميم ابنيتها الرائعة. وبعد استقلال كمبوديا في العام 1953، حاولت الحكومة احياء المدينة وتراثها، فأنشأت مدارس للموسيقى والرقص تعتمد على الملاحم المصورة والمنقوشة على جدران معابد انغكور. لكن النزاعات المسلحة التي شهدتها البلاد خلال السنوات الاربع والعشرين الماضية بما فيها التدخل العسكري الاميركي والحرب الاهلية خرّبت المدينة من جديد. وما زالت انغكور تنتظر وعود منظمة "يونيسيف" بترميمها بعد عودة الديموقراطية اخيراً الى كمبوديا. بيروت مدينة الآبار ومن الشرق الاقصى الى الشرق الادنى، مدينة أخرى تروي حكاية اقتتال أهلها في حروب الآخرين، فبيروت التي كانت تعتبر من اجمل العواصم العربية بدأت اليوم تلتقط انفاسها وتمسح عن وجهها آثار حرائق خلفتها 16 سنة من الحروب. ورد ذكر بيروت في كتابات مصرية تعود الى الألف الثاني قبل الميلاد، لكنها لم تشتهر الا بعدما صارت مستعمرة رومانية اسمها كولونيا جوليا اوغستا فيلكس بيريتوس في العام 14 قبل الميلاد. وبنيت بيروت القديمة في واد بين تلتي الاشرفية والمصيطبة.. وذاع صيت مدرسة الحقوق فيها بين القرنين الثالث والسادس ميلادي. وتعرضت المدينة الرومانية لهزات ارضية عدة ودمرها زلزال أعقبه اعصار بحري هائل في العام 551، لكنها عُمرت لاحقاً على رغم انها لم تصبح ذات اهمية تجارية الا في القرن العاشر. ومرت الحملات الصليبية وجيوش صلاح الدين الايوبي والمماليك على بيروت، وحكمها العثمانيون، وفي عهد الامراء الشهابيين في القرن الماضي تقلصت الى شبه بلدة عدد سكانها ستة آلاف شخص. ومع بدء الثورة الصناعية في اوروبا عادت بيروت الى الازدهار، وتأسست فيها جامعات ومدارس ومطابع، ما جعلها رائدة الصحافة والمسرح في العالم العربي في ذلك الحين، اذ قدم فيها مارون النقاش مسرحية "البخيل" لموليير في العام 1848، ومع نهاية القرن الماضي كان عدد سكانها يصل الى حوالي 120 ألف نسمة. شهدت بيروت أيامها الذهبية بين اوائل الخمسينات ومنتصف السبعينات من هذا القرن، فكانت ملاذ المثقفين العرب والرأي الحر، ومركزاً سياحياً واقتصادياً رئيسياً في المنطقة. ولكن انفجار الحرب في 13 نيسان ابريل 1975 والاجتياح الاسرائيلي للبنان في العام 1982 دمرا أجمل ما فيها فتهدمت فنادقها ومنازلها وتحول وسطها التجاري الشهير باسواقه القديمة الى ابنية مبقورة تركت الحرائق بصماتها السوداء فوق جدرانها المتداعية، وصار "خط التماس" جرحاً ناغراً في خاصرتها. وبيروت التي كان ليلها يتوهج بآلاف النجوم، أدمن أهلها تقنين الكهرباء. اما آبارها التي سميت على اسمها بيروت تعني الآبار بالكنعانية فلا تكفي سكانها البالغ عددهم نحو مليون نسمة. ويضطر اهلها الى شراء المياه وتخزينها على امل ان يتم اصلاح شبكة المياه التي نخرتها الحرب وعطلتها السرقات. وتقدر تكاليف اعمار العاصمة اللبنانية وضواحيها ببلايين الدولارات، وهي لا تزال ترتاح على سفح جبل لبنان تترقب تنفيذ الخطط التي ستعيد اليها جمالها وعافيتها. حلبجة المسممة العافية حالة يصعب على حلبجة العودة اليها لأنها لم تدمر فحسب بل اجبرت على تجرع السم كذلك. حلبجة الحزينة اقرب الى البلدة منها الى المدينة، ولكن خسارتها اكبر منها، اذ تعرضت في 16 و17 آذار مارس 1988 الى هجوم بالاسلحة الكيماوية شنه الجيش العراقي وأدى الى مقتل نحو خمسة آلاف من سكانها وجرح آلاف آخرين بحجة دخول مقاتلي المعارضة الكردية اليها. وعلى رغم ان السلطات العراقية نفت قيامها بهذا الهجوم واتهمت ايران به، فالحقيقة تبقى ان حلبجة الكردية دفعت الثمن غالياً. اليوم عاد بعض سكان المدينة اليها، وبينهم من اعاد بناء بيته. لكن غالبية اهل حلبجة لا يملكون المال الكافي لاعمار مدينتهم. وستبقى حلبجة حزينة ومسممة حتى اشعار آخر. والمدن الحزينة ليست من اختصاص آسيا وحدها. اذ تروي افريقيا حكايا مدن عدة فيها شهدت ويلات المجاعة والحروب، ولعل قصة مدينة مقديشو اقربها عهداً واكثرها ايلاماً. مقديشو البخور والذهب تعد مقديشو الصومالية من بين اوائل المستوطنات العربية على شاطئ افريقيا الشرقي، ويعود تاريخها الى القرن العاشر ميلادي. وخلال القرن الثالث عشر، صارت اهم مدينة تجارية ساحلية في المنطقة، وامها مهاجرون من الخليج العربي واليمن بعدما اشتهرت بتجارة البخور والذهب. وعندما زار الرحالة العربي ابن بطوطة المنطقة في القرن الرابع عشر، وصف مقديشو بأنها بلدة كبيرة تعج بالتجار الاغنياء وفيها نظام قضائي متطور. وخلال القرن السادس عشر ضعف مركز مقديشو التجاري الاقليمي، لكنها اقامت علاقات تجارية مع البرتغاليين وائمة مسقط قبل وقوعها تحت سيطرة سلطان زنجبار عام 1871. واستأجر الايطاليون مرفأ مقديشو في العام 1892 ثم اشتروه في العام 1905 تحت ضغط بريطانيا التي انشأت محمية في زنجبار. وصارت مقديشو عاصمة الصومال الايطالي قبل ان تعلن عاصمة لدولة الصومال المستقلة في العام 1960. كانت بيوت مقديشو ومساجدها ذات الطراز الاسلامي تتناغم مع الطراز المعماري الحديث لجامعتها ومستشفاها. وضمت المدينة مدارس للشريعة الاسلامية وكليات للصحة العامة والتدريب المهني، ودوراً للمعلمين، اضافة الى مدرسة للطب البيطري. وفيها متحف وطني كان قصراً لسلطان زنجبار السابق. وبعد توسيع مرفأ مقديشو في اواخر الستينات، صار اهلها يصدرون الموز والجلود والماشية. وكان فيها اكبر مصنع لتعليب الاسماك في المنطقة، اضافة الى مصانع الالبان والنسيج والسكاكر والمرطبات ومستحضرات التجميل ومعامل تكرير السكر وحلج القطن. وكان عدد سكانها قبل اندلاع الحرب الاهلية في منتصف العام 1990 نحو 800 الف نسمة. وبعد اطاحة الرئيس الصومالي محمد سياد بري نشب صراع دموي على السلطة بين القبائل الصومالية في مقديشو وانتشر في جميع اقاليم البلاد. وتركز الصراع بين "زعيم المؤتمر الصومالي الموحد" محمد فارح عيديد الذي ينتمي الى فرع هبر جدر - سعد من قبيلة هوية والرئيس الصومالي الموقت رجل الاعمال علي مهدي محمد الذي ينتمي الى فرع ابغال من القبيلة نفسها. وأدى القتال الضاري الى تفاقم المجاعة وانتشار السرقات. وتهدمت معظم اسواق مقديشو التجارية، وتحول سوق "بكارة" للخضار الى سوق للسلاح، ودمر المصرف المركزي والمسرح الوطني فيها. وصارت المدينة ثكنة عسكرية يجوب شوارعها المسلحون. وبعد تدخل الاممالمتحدة اكتظت سماء مقديشو بالطائرات المروحية التابعة للقوات الاميركية وغيرها من قوات حفظ السلام في بلد ما زال سلامه بعيد المنال. وفصول الرواية في مقديشو لم تكتمل بعد، وللحديث عنها، كما يبدو، تتمة... وهناك رواية تراجيدية اخرى مسرحها اوروبا لم يسدل الستار عليها كذلك، وتدور احداثها الرئيسية في مدينة ساراييفو، عاصمة البوسنة والهرسك. ساراييفو مدينة الصراعات تقع ساراييفو في وادي نهر ميلجاكا الضيق على سفح جبل تريبيفيك البوسني، وهي، بعد اسطنبول التركية، اكثر المدن الأوروبية اتساماً بالطابع الاسلامي. استوطن الرومان والقوطيون والسلافيون ساراييفو، واحتلها الاتراك في اواخر القرن الخامس عشر وحولوها الى مركز تجاري وثقافي مهم. وتركوا آثارهم في بيوتها الخشبية ذات التصميم البديع وفي السوق القديم المعروف باسم باشرشيا. وفي ساراييفو عدد كبير من المساجد اشهرها مسجد "غازي حرصف بيه" الذي شيد في العام 1530، ومسجد علي باشا الذي بوشر بناؤه في العام 1560. كذلك ترك الاتراك حمامات شعبية اثرية في المدينة. ومن بين الصروح الشهيرة للمدينة برج الساعة المعروف باسم "سحت كولا" الذي يعود بناؤه الى القرن السادس عشر، ومتحفا "ملادا" و"الثورة"، ومتحف يهودي يحتوي تراث اليهود السفارديم الذين اسسوا حي سيفوتاني الخاص بهم في المدينة. وتاريخ ساراييفو حافل بالصراعات والحروب، اذ احرقها امير سافوي، اوجيني، في العام 1697 وشهدت تمرداً دموياً ضد الاتراك في العام 1851. وبعد ضم البوسنة والهرسك الى الامبراطورية البروسية في العام 1908 نشأت حركة مقاومة في ساراييفو، واغتال احد اعضائها ولي عهد النمسا الارشيدوق فرانسيس فرديناند وزوجته، ما ادى الى اندلاع الحرب العالمية الأولى. كذلك خاض سكان المدينة معارك طاحنة ضد الالمان في الحرب العالمية الثانية. وخلال الخمسينات، اعيد بناء ساراييفو على رغم ان سكانها حافظوا على طابعها القديم، خصوصاً في اسواق الحرف القديمة، وأشهرها النقش على النحاس وصناعة السجاد اليدوية. واستضافت المدينة الألعاب الأولمبية الشتوية في العام 1984. وبعد اندلاع الحرب في البوسنة والهرسك في اوائل العام 1991، تعرضت ساراييفو الى عمليات قصف وتدمير متعمدة، فدمر مبنى البرلمان، وبنايتان حديثتان كلف تشييدهما ملايين الدولارات، والمكتبة الأثرية التي تضم آلاف المخطوطات والكتب القديمة والنادرة، ومتحفها الوطني. وصار سكانها ضحايا القناصة ورماة المدفعية الذين لا يميزون بين ضحاياهم. ولا تزال ساراييفو محاصرة حتى الآن، والعالم يتفرج من دون ملل.