ان الفكرة السائدة بأن مهنة الانسان قد تتسبب ببعض اعراض مرض القلب، هي فكرة قديمة جداً، لم تحظ باهتمام الباحثين الجدي سوى حديثاً. اما الحقائق المتوافرة حول هذا الموضوع فما زالت قليلة ومتضاربة. كما انه لا يوجد اطار عمل نظري يمكننا الاعتماد عليه لبناء قواعد ثابتة تساعد على ابتداع الوسائل لاختبار هذا الموضوع ومعالجته. واذا كانت طبيعة المهنة هي حقاً عاملاً مؤثراً في بروز امراض القلب فمن واجبنا ان نعطي اهمية قصوى لاكتشاف ذلك. اذ ان المهن التي تفرض علينا نمط حياة معيناً يمكن تغييرها، وبالتالي تفادي الاصابة بهذا المرض في المستقبل القريب او البعيد. اما اذا كانت هذه المهن تلعب دورها الخطير بالصدفة، متحدة مع بعض العوامل والمؤثرات الأخرى المعروفة بتأثيرها على اداء القلب مهامه الاساسية، فانه من الضروري اكتشاف هذه الحقائق لكي نوجه جهودنا وأبحاثنا الى نواح ايجابية اخرى، وبالتالي نركز على العوامل الاكثر خطورة. ومن المحتمل ان تلعب طبيعة المهنة دورها باحدى طريقتين مترابطتين: الاولى، بكونها تتطلب مجهوداً جسدياً شبيهاً بالتمارين الرياضية التي تحمي ايجابياً من امكانية الاصابة بالجلطة او السكتة او النوبة القلبية، او كونها لا تتطلب مجهوداً جسدياً مما قد يساعد على الاصابة بالمرض. والثانية، بأن اغلب المهن تلقي على عاتق اصحابها مسؤوليات معينة يرافقها ضغط عاطفي وارهاق عصبي يساعدان على بروز امراض انسداد الشريان التاجي وارتفاع ضغط الدم. وكما يلاحظ فان كلا النظريتين تتفقان على ان رجال الاعمال والمحترفين مهددون مهنياً بخطر هذا الوباء، مما يدفعنا للاستنتاج بأن للازدهار الاقتصادي ثمناً باهظاً غالباً ما يدفعه الانسان من صحته. وهذا ما يعتبره المنظرون الاخلاقيون تجسيداً واضحاً لأهمية قانون التعويض او الضمان الصحي. بين المشي والجلوس وأظهرت احدى الدراسات التي اجريت على موظفي البريد والبرق والهاتف في لندن ان نسبة الاصابات بأمراض القلب بين موزعي البريد الذين يعملون مشياً على الاقدام او يستعملون العجلات في تنقلاتهم، هي اقل بنسبة 25 في المئة من اولئك الموظفين الذين يعملون وهم جالسون. الا اننا في هذه الحالة لا يمكننا ان نعزو الاسباب للعامل الجسدي فقط. وفي دراسة أخرى قامت بها المجموعة نفسها من الباحثين، على عمال الباصات في لندن، ظهرت نتائج اكثر اهمية بحيث ان نسبة الاصابات بأمراض القلب والأوعية الدموية بين سائقي الباصات الذين تفرض عليهم القيادة الجلوس، هي ضعف نسبة الاصابات بين الجباة قاطعي التذاكر الذين يعملون وهم واقفون وغالباً ما يصعدون الى الدور العلوي للباصات ذات الطابقين. وهنا لا نستطيع الجزم بأن نسبة الحركة في الوظيفة هي المؤثر الاساسي لهذه الاختلافات في نسبة الاصابة، لأن الباحثين لم يضعوا دراسة مفصلة لقياس المجهود او الطاقة التي صرفها كل من السائقين والجباة. فعلى الرغم من تأدية السائقين لعملهم وهم جالسون، الا انه لا يمكننا مساواتهم بالموظفين الذين يجلسون وراء مكاتبهم ويقومون بعملية الكتابة فقط. اما الاعتراض الاساسي على هذه الدراسة فيكمن في الافتراض الواضح من الباحثين بأن تصنيفهم للرجال حسب نشاطهم البدني يعني انهم متشابهون في النواحي الأخرى. فعلى الرغم من ان سائقي الباصات والجباة يمثلون المستوى الاجتماعي والاقتصادي نفسه، الا انهم يختلفون بناحية معينة تظهر من خلال قياس حجم خصر السروال وقياس ملابسهم الرسمية الأخرى، فالسائقون عادة اضخم حجماً من قاطعي التذاكر، وخلال سنوات عملهم يزداد حجم الخصر عند كلا الفريقين بازدياد نسبة الشحوم. ولقد اظهرت الدراسات الشهيرة التي اجريت في بلدة فرانمغهام ان الخلاف في نسبة السمنة بين السائقين والجباة تكفي للتنبؤ بالخلاف الملحوظ في الاصابات بأمراض القلب عندهم. فائدة المجهود الجسدي ويمكننا القول ان هذه الدراسات قد ساعدت في بناء النظرية القائلة بعلاقة الحركة الجسدية في مهن معينة وامكانية الاصابة بأمراض القلب والأوعية الدموية. ولما كانت نسبة العاملين في المهن التي تتطلب مجهوداً جسدياً مستمرة في الانحدار تدريجياً، ونسبة الاصابة بأمراض القلب مستمرة بالتصاعد فان هذه النظرية وأهميتها في المجتمع قد تصبح مسألة اكاديمية، الا انها ساعدت دون شك في تركيز الانتباه الى جانب حيوي وأساسي في دراسة صحة جهاز القلب والأوعية الدموية. ويلاحظ ان نسبة الاصابة بأمراض القلب في معظم انحاء العالم، بين السكان العاملين في الحرف اليدوية الشاقة والمقيمين في المناطق النائية، بالاضافة الى المجموعات السكنية المتكاملة في البلدان الفقيرة، هي نسبة ضئيلة اذا ما قورنت بغيرها. ومن المعلوم ايضاً ان نسبة الكوليسترول في دمهم أقل. ومثال على ذلك سكان ايطالياواليابان ويوغوسلافيا الذين يعملون بجد ونشاط في المهن اليدوية. الا انه حتى في اكثر البلدان فقراً نجد ان نسبة معقولة من السكان تعمل في وظائف خفيفة لا تتطلب مجهوداً جسدياً. وايطالياواليابان ويوغوسلافيا امثلة جيدة على ذلك، حيث ان نسبة العاملين من الكتاب وأصحاب الدكاكين وموظفي الدولة والفنانين تعتبر كبيرة. غير انه من ناحية الاعمار والتقسيم الجنسي للمجموعة السكنية بكاملها فان هذه النسبة ليست سوى جزء بسيط من نسبة الاصابات في الولاياتالمتحدة. اي حوالي الربع في ايطاليا، ولا تزيد عن العشر في اليابان اما في يوغوسلافيا فهي اقل من ذلك بكثير. وقد شملت دراسات اخرى تتعلق بتأثير العوامل المهنية على امراض القلب عمال المزارع، فأظهرت الابحاث ان الاصابة بأمراض القلب تحدث في مرحلة متأخرة من العمر بين العاملين داخل المزارع، مقارنة بالعاملين خارجها. ولقد اوضحت النتائج الصادرة عن دراسة متواصلة للاصابات على مدى خمس سنوات بين 45 ألف حالة منفردة، ان معدل عمر الوفاة بين المزارعين هو ثماني سنوات وربع فوق معدل عمر الوفاة بين العاملين خارج المزارع. … وحسنات الرشاقة وفي الولاياتالمتحدة الاميركية اظهرت دراسات عدة أخرى قام بها الدكتور موريس وفريقه ان الاصابات بامراض القلب والاوعية الدموية هي اقل نسبة بين رشيقي الجسم الذين تتطلب وظائفهم حركات بدنية. ففي دراسة شملت حوالى 120 ألف موظف للسكك الحديدية، لوحظ ان نسبة الاصابات بأمراض القلب بين العاملين في المهام الخفيفة الجامدة داخل المكاتب، هي ضعف نسبة الاصابات بين العاملين في المهام الخارجية وعلى المنصات. ولقد تابع الدكتور موريس وفريقه ابحاثهم في كل من انكلترا واسكتلندا وويلز، وقاموا بجرد شامل لحالات الاصابة بأمراض القلب وحصلوا على المزيد من الدلائل التي تدعم النظرية القائلة بأن العمال الذين يقومون بمهام تتطلب مجهوداً جسدياً هم اقل اصابة بأمراض القلب من غيرهم. ولقد شمل البحث خمسة آلاف حالة من المصابين بأمراض القلب والاوعية الدموية، واستند في تصنيفهم على اساس اعتبار عمل المدرسين خفيفاً وعمل موظفي البريد حيوياً وعمل الكادحين من العمال ثقيلاً. ولوحظ ان اصحاب الحرف الحيوية والثقيلة هم اقل اصابة وأقل تأثراً بأمراض القلب من اصحاب الحرف الخفيفة. اما الدراسة الكلاسيكية فهي تلك التي قام بها العلماء في هارفارد وقرروا خلالها مقارنة سبعمئة مواطن من بوسطن ذوي اصل ايرلندي مع امثال لهم مقيمين في ايرلندا وتتراوح اعمارهم ما بين الثلاثين والستين عاماً. ولقد اظهرت النتائج ان نسبة المصابين بأمراض القلب من الايرلنديين المقيمين في بوسطن هي ضعف نسبة المصابين من امثالهم في ايرلندا. وعلى الرغم من ان الآخرين كانوا يستهلكون من البيض والزبدة والشحوم اكثر من اولئك معدل 400 سعرة حرارية يومياً الا ان نسبة الكوليسترول عندهم كانت اقل، كما ان اوزانهم كانت اقل بنسبة عشرة في المئة. ومغزى ذلك ان المجموعة الموجودة في ايرلندا كانت تقوم بحركات جسدية اكثر من المجموعة الموجودة في بوسطن. وزيادة في الاهمية فقد اظهرت هذه الدراسة ان النشاط البدني يقلل من مستوى الكوليسترول في الدم ويساعد على حرق الحراريات الجسدية الاضافية. حتى الاطباء معرضون! اما امثلة الدور الآخر الذي تلعبه طبيعة المهنة فتتجلى بالدراسة التي قام بها الدكتور روسيك في مدينة نيويورك والتي شملت فئة من مرضى القلب الشبان، حيث وجد ان 91 من هؤلاء الرجال كانوا يشغرون وظيفتين في آن ويعملون اكثر من 60 ساعة في الاسبوع وينتابهم خوف غير عادي وعدم شعور بالاطمئنان او القناعة، بالاضافة الى انعدام الراحة النفسية والشعور بعدم صلاحيتهم للأعمال التي يقومون بها. ولقد دفعت هذه النتائج الدكتور روسيك الى ارسال استفتاء لاكثر من 12 ألف من الرجال المحترفين الذين يعملون في 14 مجموعة من المهن المختلفة. ولقد شمل البحث اطباء الصحة وجراحي الاسنان والمحامين في القطاعين العام والخاص. وعند مقارنة نسبة انتشار امراض القلب في مختلف هذه الوظائف، لوحظ ان اصابتها لاطباء الصحة العامة هي اكثر بثلاث مرات من اصابتها لزملائهم الاختصاصيين الآخرين، كأطباء الجلد وأطباء العيون وغيرهم ممن ينظمون ساعات عملهم بطريقة ملائمة ودون مجابهة اي ضغط او ارهاق، نظراً لطبيعة اختصاصهم. كما لوحظ ان المحامين الذي يرافعون في المحاكم هم اكثر اصابة بهذه الامراض من المدعين العامين والقضاة الذين تعتبر ممارساتهم اقل ارهاقاً. غير ان تقسيم الوظائف والمهن حسب نسبة الارهاق العصبي او الاجهاد الملازم لها، ليس بالمسألة السهلة. ويبدو انه كلما ارتفع مركز العامل في بيئة عمله ازدادت نسبة الاجهاد والارهاق. ولقد قام الدكتور هنكل ومساعدوه بدراسة على 270 ألف رجل يعملون في وظائف مختلفة، ولهم مستويات وانجازات وثقافات مختلفة. ولكن البحث فشل في اثبات ما اذا كان الرجال ذوو المسؤوليات الكبيرة هم اكثر عرضة لأخطار الاصابة بأمراض القلب من زملائهم ذوي المسؤوليات الصغيرة. وفي الحقيقة اظهرت الابحاث ان الرجال المثقفين جامعياً والرجال الناجحين في تحقيق اهدافهم هم اقل اصابة بأمراض القلب من اولئك الاقل ثقافة والاقل نجاحاً. ولكن ذلك يعتمد بدرجة كبيرة على شخصية الانسان ذاته. … وأصحاب الدخل المحدود وفي بحث آخر لوحظ ان الاصابات الاولية بأمراض القلب تقع غالباً بين اصحاب الدخل المحدود بينما ينخفض وقوعها بين متقاضي الرواتب العالية. وقد يعود السبب في ذلك الى ان اصحاب الدخل المرتفع يصلون الى القمة لحسن ادراكهم ولقدرتهم على معالجة الارهاق بمختلف انواعه وبطرقهم الخاصة. اما في دراسة حديثة اخرى فقد وجد الباحثون ان الرجال من ذوي الشأن المذكورين في كتاب Who's Who in America يعيشون سنين اطول من الرجال غير المذكورين في لوائح هذا الكتاب، مما يتناقض والعرف القائل بأن الاندفاع بلا رحمة لأولئك المشاهير، من اجل الوصول الى مراكزهم المرموقة في مرحلة الاربعين من العمر، يؤدي الى تدهور صحتهم في مرحلة الخمسين. وعلى الرغم من ان الرجال المدرجين في لوائح ذلك الكتاب عاشوا حياة اطول من زملائهم غير المدرجين، فقد ظهرت بينهم اختلافات واسعة في ما يتعلق بنسبة الوفيات حسب اختصاص كل منهم. فالعلماء كانت لهم اقل نسبة للوفيات، بينما شكل المراسلون والصحفيون والكتاب والمؤلفون والنقاد اعلى نسبة للوفيات. اما رجال الدين والمدرسون والعسكريون فكانت لهم نسبة اقل من المعدل، بينما الاطباء والجراحون ورجال الدولة حازوا على نسبة للوفيات تفوق المعدل العام، اما مدراء الاعمال والقضاة والمحامون والمهندسون والفنانون والنحاتون فكانت نسبة الوفيات بينهم معتدلة. ان الانتقال السريع للناس من مراكز عملهم السابقة الى مراكز عمل وأساليب حياة جديدة، يولد نوعاً من الضغط النفسي الذي قد يكون مؤشراً للاصابة بأمراض القلب. وفي دراسة للمعهد الوطني للقلب "شمال داكوتا"، شملت بعض المصابين بأمراض القلب وغيرهم ممن يتمتعون بصحة جيدة وتناولت وظائف هؤلاء الرجال ووظائف آبائهم والتغييرات المهنية التي صادفتهم اثناء انتقالهم من مكان الى آخر، دلت النتائج على ان المجموعة الاقل عرضة للخطر كانت بين عمال المزارع والعمال الآخرين الذين لم يغيروا طبيعة او نوعية او مكان عملهم. اما المجموعة الاكثر عرضة للخطر والتي شكلت ستة اضعاف نسبة الاصابات الموجودة في المجموعة الاولى، فكانت بين العمال الذين اضطروا الى تغيير اماكن وطبيعة مهنهم. فما هو مدى تأثير نوعية العمل على العوامل البيئية الأخرى التي تتسبب في بروز امراض القلب والأوعية الدموية؟ تأثير العمل على مستوى الكوليسترول طُلب من مئة من مشاة البحرية الاميركية في ولاية شمال كارولاينا يقومون بتدريبات عسكرية قاسية ان يتناولوا عمداً وجبات طعام غنية ومشبعة بالشحميات بمعدل 4500 سعرة حرارية يومياً. وبعد مضي فترة تناهز الستة اشهر من العمل الشاق المتواصل والاكل الثقيل، لوحظ ان وزنهم ومستوى الكوليسترول او الشحم في دمهم لم يتغيرا. وبمعونة بعض طلبة الطلب وبعض المتطوعين الآخرين، قام الدكتور مان في هارفارد بدراسة حول العلاقة بين وجبات الطعام والتمارين الرياضية، وذلك باطعام المتطوعين ضعف نسبة السعرات الحرارية المستهلكة يومياً اثناء قيامهم بالتمارين الثقيلة. ولوحظ انه بمتابعة المتطوعين لمجهودهم الجسدي لم يطرأ أي تغيير على اوزانهم او مستوى الشحم في دمهم، ولكن عند توقفهم عن العمل والاستمرار بتناولهم للوجبات الحرارية، لوحظ ان اوزانهم ومستوى الشحم لديهم قد ارتفعا بنسبة عالية. وفي دراسة أخرى اعطي بعض طلبة الطب 45 غراماً من الشحم يومياً في وجباتهم، ولكن بزيادة تمارينهم الجسدية لم يطرأ اي ازدياد على مستوى الكوليسترول في الدم. وفي جامعة ولاية "كنت" قام الدكتور لورنس غولدنغ بدراسة شملت 42 رجلاً تتراوح أعمارهم ما بين 29 و63 سنة، وجميعهم يعملون في وظائف جامدة، وطلب منهم تخصيص ساعة في اليوم لتغطية برنامج مكثف للياقة البدنية على مدى خمس مرات في الاسبوع لفترة لا تتجاوز التسعة اشهر. ولقد أدى ذلك الى انخفاض نسبة الكوليسترول في دمهم. اما الطبيبان ماير من هارفارد وجيزل في باسل فقد اكتشفا مثالا رائعا عن تأثير الحركة على نسبة الكوليسترول في الدم عندما فحصا سكان قرية بلاتندورف الواقعة في واد جنوب منطقة جبال الألب السويسرية والمعروف عن سكان هذه القرية انهم غالبيتهم من المزارعين. وتمتد مزارعهم على منحدرات ترتفع ما بين 1200 و2400 متر عن سطح البحر. ولما كانت القرية ذاتها تبعد بضعة اميال عن اقرب طريق عام، فان سكانها يقصدونها مشيراً على الأقدام، حاملين الشعير والحنطة والخشب والحليب وبعض ادوات البناء على اكتافهم وفوق ظهورهم. اما البعض فيحملون اوزاناً تزيد عن الستين كيلوغراماً. بينما تحمل النساء أوزاناً تقارب الاربعين كيلوغراماً ذهاباً واياباً باتجاه الممرات الجبلية. وعلى الرغم من ان سكان القرية يستهلكون من المواد الدهنية والحراريات ما نسبته ثلاثون في المئة فوق النسبة المستهلكة من سكان "باسل"، الا ان مستوى الكوليسترول في دمهم كان أقل، كما ان نسبة اصابتهم بأمراض القلب والأوعية الدموية بدت أضعف وأكثر ضآلة. وهذا ما دفع الباحثين للاعتقاد بأن النشاط الجسدي للقرويين هو السبب الرئيسي في انخفاض نسبة اصاباتهم بتلك الامراض. تأثيره على الاجهاد والارهاق العصبي يلعب الاجهاد العاطفي والعقلي دوراً بالغ الاهمية في بروز أمراض القلب. ويبدو ان لا وسيلة للهرب من القلق والارهاق العصبي في مجتمعاتنا المتحضرة. فنحن تحت رحمة البيئة ومصائبها، ونوعية العمل او الوظيفة تفرض علينا ضغطا معينا لتحقيق المزيد من الانجازات، بالاضافة الى الحيرة والانزعاج اللذين تجلبهما علينا وسائل النقل والحرص المتواصل على ثقافة ابنائنا والمحافظة على الترابط الصحي للعلاقات داخل الأسرة الواحدة. وبالرغم من معرفتنا لتأثيرات الارهاق العصبي الخطيرة والمؤذية لصحتنا، فاننا لا نستطيع ان نرغم انفسنا على الاسترخاء، لأن اعصابنا المتشابكة لا تستجيب الى الأوامر المعطاة لها، بينما نراها تستجيب لمفعول بعض المخدرات، الا انه من الصعب اعتبار تخدير العقل الطريقة المثلى لمحاربة الارهاق العصبي، نظرا للضرر الذي يسببه. وقد حان الوقت لندرك ان الطريقة لراحة العقل لا تكون براحة الجسد، وانما على العكس تماما. فالحركة الجسدية العنيفة او القوية هي خير علاج للارهاق العصبي والعاطفي، لأنه من الصعب جدا، ان لم يكن من المستحيل، ان يبقى الانسان مضغوطا اثناء قيامه بحركات جسدية قوية، كلعب التنس او الغولف او المشي الطويل وما شابه وهناك ادلة فيزيولوجية تدعم ذلك، فأثناء الاجهاد العصبي او العاطفي تقوم الغدد الدرقية الواقعة فوق الكلى بافراز المزيد من الهرمونات بحكم وظيفتها، لتحضير الانسان لمواجهة الحالات الطارئة التي يتعرض لها الجسم اما بمحاربتها او بالابتعاد عنها. وهذه اشياء تعرض لها أسلافنا القدماء ولكن في حالات وأوضاع تختلف عن تلك التي نتعرض لها في عصرنا هذا. اذ ان حالاتهم الطارئة كانت في اغلبها جسدية بهدف الدفاع عن النفس، كمواجهة حيوان مفترس. ورد الفعل في مثل هذه الحالات بسيط وسهل ومباشر، اذ عليه يعتمد بقاء الانسان او موته. اما نحن فقد ورثنا الأسلوب نفسه ولكن لمواجهة حالات طارئة تختلف كليا عن أسلافنا. فالغرائز والتعقيدات تنبع من الضغوط والمشاكل التي نادرا ما تسمح لنا بمواجهتها جسديا بطريقة بسيطة ومباشرة. اي اننا نقبع في المشكلة حتى نغلي ونستوي. وبينما استهلك اسلافنا الافرازات الهرمونية لمواجهة الخطر، ترانا عاجزين عن ذلك مما يؤدي الى تجمع الشحميات والمواد الدهنية في دمنا. فالهرمونات تستنفر عادة هذه الدهنيات من مخازن الجسم لتوليد الطاقة الحرارية المطلوبة لمواجهة الخطر. وبما اننا لا نستخدم هذه الدهنيات فان جزءا كبيرا منها يدخل الدورة الدموية، مما يؤدي الى تكدسها في جدران الأوعية الدموية. ونستنتج من ذلك ان قبوعنا في المشكلة حتى الغليان يزيد من الضغط والارهاق العصبي. فالطاقة الحرارية الزائدة تأخذ في الدوران داخلنا، لأنه ليس لها مكان آخر تذهب اليه. وبالحركة الجسدية والتمارين الرياضية المعتدلة نستطيع ان نطلق هذه الطاقة خارج الجسم فنساعد على حرق اي زيادة في مستوى شحم الدم قد تعشش في جدران الأوعية الدموية. التأثير على ارتفاع ضغط الدم ان ارتفاع ضغط الدم هو خطر أساسي يساعد على الاصابة بأمراض القلب والأوعية الدموية. ولقد أظهرت دراسات عديدة اهمية وفائدة التمارين الرياضية واللياقة البدنية في المحافظة على مستوى صحي وعادي لضغط الدم. ومنذ بضع سنوات قام الباحثون بفحص 61 من أبطال الجري والتزلج، تتراوح اعمارهم ما بين 40 و79 سنة ومقارنتهم بمجموعة اخرى من غير الرياضيين، فوجدوا ان معدل ضغط الدم عند غير الرياضيين كان فوق المستوى الصحي، بينما مستوى ضغط الدم عند الرياضيين كان عادياً. وهنالك دراسات عديدة اخرى في انحاء مختلفة من العالم أظهرت ان الممارسة الطويلة للرياضة تساعد في تخفيض ضغط الدم. التأثير على مجرى الدم الاكليلي أو التاجي ان الشريانين التاجيين الكبيرين وفروعهما التي تغذي عضلاات القلب تؤدي وظيفتها هذه بانقسامها الى أوعية صغيرة مساعدة، مشكلة بذلك شبكة كبيرة معقدة لمجرى الدم التاجي. وعندما تحدث الاصابة بمرض القلب، بسبب انسداد احد الأوعية التاجية، يقوم الجهاز التاجي بتوفير أوعية عديدة لنقل الدم الى منطقة القلب المحرومة من الانتعاش بسبب الانسداد الاكليلي. وتسمى هذه الدورة الدموية الجديدة: الدورة المساعدة، وهي عنصر هام للاستشفاء من مرض القلب. اما ظهور هذه الدورة وانفتاحها عمليا فهو وليد الضغط المفاجئ. ولقد دلت الأبحاث والبراهين على ان ممارسة التمارين الرياضية تشكل نوعا من الضغط المدروس الذي قد يؤدي في المدى البعيد الى بناء هذه الدورة الدموية المساعدة. وقامت دراسات عديدة حول هذا الموضوع بما في ذلك التجارب على الحيوانات، فثبت مفعول الحركة الجسدية في بناء الأوعية المساعدة. تلك الأوعية التي قد تمنع الاصابة بالكستة القلبية في حال تطور نموها. فوجود اوعية غيار كافية ومتوافرة لاستلام مهام نقل الدم في حال انسداد الشريان التاجي يعطي أملاً بعدم انقطاع مجرى الدم الى عضلات القلب مما يمنع اي ضرر او عطل في تلك العضلات وبالتالي يحمي من حدوث السكتة القلبية، كما ان وجود هذه الدورة المساعدة يفسر السبب في ان بعض المصابين بأمراض انسداد الشرايين لا يقاسون من الاصابة بالذبحة الصدرية التي تنتج عن انخفاض نسبة تدفق الدم الى عضلات القلب. فهذه الدورة المساعدة تقوم بنقل الدم وتفتح طرقا جديدة لجريانه في حال استمرار انسداد مجاري الأوعية الأخرى، مما يعوض عضلات القلب عن أي نقص في الانتعاش والحيوية. وقد وجد الباحثون في دراسة "فرامنغهام" ان المصابين بأمراض القلب التاجية من الرجال غير العاملين يحتلون نسبة اعلى للوفيات وخاصة بالسكتة القلبية المفاجئة. وان السبب في حماية المصابين من الرجال النشطين جسدياً يعود الى بروز الاوعية المساعدة. فوائد اخرى للرياضة اما فوائد الرياضة البدنية الاخرى فتكمن في كونها عامل مساعد في ادارة امراض السكري التي تساهم بدورها في تعزيز الاصابة بأمراض القلب، هذا بالاضافة الى دور التمارين الجسدية في زيادة قابلية الدم على التجمد، مع ارتفاع ملحوظ في انتاج "الفايبرينولايسن" ذلك العنصر المساعد على اذابة كتل الدم المتجلطة. ولهاتين العمليتين المضادتين اسباب وجيهة: فالانسان النشيط، اينما كان، معرض للاصابة بجروح ما في حالة وقوع حادث معين اثناء تحركه. وربما ادت تلك الجروح الى نزف الدم. الا ان الانسان النشيط جسدياً يولد في داخله تغييرات بيوكيماوية تساعد على تجمد الدم بسرعة، ما يخفف الى أدنى حد امكانية النزيف حتى الموت. في الوقت نفسه يتولد "الفيبرينولايسن" ليذيب كتلة الدم المتجلطة هذه عندما تنقضي فترة الخطر. هذا بالاضافة الى اذابته اية كتلة دم قديمة سبق ان تجمدت في احد الاوعية الدموية التاجية التي قد تؤدي الى الاصابة بالسكتة القلبية في حال ازدياد حجمها. وقد وجد الباحثون ان مقدرة الانسان على اذابة هذه الكتل الدموية المتجمدة تعتمد بشكل مباشر على قوة ونوعية التمارين البدنية التي يمارسها، فمفعول التمارين المدروسة والقاسية يعادل سبعة اضعاف مفعول التمارين المعتدلة. هذه الحركات الجسدية لا تساعد عضلات القلب فقط، بل تساعد عضلات الجسم ايضاً. كما ان المواظبة على النشاط الجسدي تقوي العضلات وتشدها وتجعل المفاصل اكثر ليونة واكثر انتظاماً، مما يؤدي الى تخفيض الآلام والاوجاع اضف الى ذلك مساهمتها في تصحيح الاشكال الوضعية غير المتناسقة وغير المتجانسة، وتحسين المظهر الفيزيولوجي العام للانسان واستبدال مشاعر الارهاق والتعب بمشاعر اليقظة والنشاط والقوة. وجسم الانسان قادر، في حالات القيام بمجهود كبير، على توليد طاقة تعادل 14 قوة حصانية، بينما تبلغ هذه الطاقة مجرد عشر القوة الحصانية في فترات الراحة. الرياضة في سن السبعين والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو هل ممارسة التمارين الجسدية صالحة وصحيحة في مختلف مراحل العمر؟ والجواب على ذلك يكمن في ان بعض الرجال في السبعين من عمرهم قادرون على استعادة قواهم ووظائف جسدهم الحيوية كما لو كانوا في سن الاربعين، اذا ما قاموا بممارسة برامج مخططة ومدروسة للحركات البدنية. وقد اظهرت الدراسات ان بعض المصابين بأمراض القلب من الذين مارسوا برامج اللياقة البدنية بالتدريج اصبحوا اكثر نشاطاً وحيوية مما كانوا عليه سابقاً. بالاضافة الى تفوقهم الجسدي على زملائهم من العمر نفسه والذين لم يصابوا سابقاً بأمراض القلب وانما امتنعوا عن ممارسة برامج اللياقة البدنية. ولقد ظهرت بوادر التحسن هذه في اعتدال ضغط الدم بنسبة 6 في المئة وانخفاض نسبة الشحميات بمعدل 5 في المئة وارتفاع المقدرة على استيعاب الاوكسيجين بنسبة 9 في المئة وازدياد قوة الذراع بنسبة 7 في المئة. وهبوط درجة الارهاق العصبي بنسبة 14 في المئة. وهنا تجدر الاشارة الى ان اندفاع الرجال، شباباً كانوا ام شيوخاً، بالتدريبات الجسدية القاسية بعد فترة انقطاع طويلة عن القيام بالنشاطات الجسدية لفترة سنوات احياناً يعتبر تهوراً وانتحاراً ان لم يسبقه فحوص طبية شاملة، يتبعها برامج مدروسة للياقة البدنية وذلك ابتداء من التدريبات الخفيفة ومن ثم التدرج والارتقاء بممارسة التدريبات الاكثر شدة. فالتمارين الرياضية قد تؤدي الى حالات خطيرة ان لم يُراع حسن الادراك والاعتدال في ممارستها. فالجري الخفيف مثلاً او الهرولة هي اكثر التمارين شيوعاً وأكثرها تأثيراً على نشاط القلب والرئتين، ولكن اذا ما نُفّذت بطريقة عشوائية غير لائقة فانها تؤدي الى عواقب وخيمة، بما في ذلك فقدان الحياة. وهذا ما اشار اليه الدكتور بوهانون رئيس جمعية الجري الوطنية في واشنطن الذي نصح الاشخاص العديمي الحركة والذين تجاوزوا سن الثلاثين الراغبين في الجري، ان يفحصوا انفسهم قبل المباشرة بذلك النوع من المجهودات الجسدية. وافضل طريقة للبدء هي المشي البطيء لمدة عشرين دقيقة يومياً، ومع الوقت تضاعف هذه العملية الى المشي مرتين لمدة عشرين دقيقة يومياً. واثناء القيام بذلك يجب على الانسان مقاومة الرغبة في الهرولة ويجب اعطاء الجسم الوقت الكافي حتى يتأقلم مع الحالة الجديدة التي يتعرض لها. خطر الرياضة العنيفة ومما يجعل الرياضة البدنية خطيرة في بعض الاحيان الاندفاع الاهوج لبعض مرضى القلب للقيام بالتمارين القاسية والعنيفة دون تحكيم العقل، مما يلقي على عاتق القلب عبئاً كبيراً لا قدرة له على تحمله، وهذا ما يضعف من قدرة الدم على التدفق والجريان من والى عضلات القلب مما يؤدي الى تعطل هذه العضلات ويقود بدوره الى السكتة القلبية. وفي بحث تشريحي للجنود الشباب الذين قتلوا فجأة بالسكتة القلبية خلال قيامهم بمجهودات جسدية مريرة اثناء الحرب العالمية الثانية، وجد الاطباء ان هنالك آثاراً واضحة للامراض داخل الشرايين التاجية. وربما كان بالامكان انقاذ اولئك الجنود لو لم تفرض عليهم ضغوط جسدية مفاجئة، تفوق الى حد بعيد قدرة الاوعية في الجهاز التاجي، مما ادى الى تعطيل عضلات القلب. وربما كان بالامكان انقاذهم ايضاً لو تعرضوا للارهاق الجسدي تدريجياً مما يسمح للدورة الدموية المساعدة بالظهور لمتابعة وظيفة نقل الدم الى عضلات القلب اثناء انسداد الاوعية التاجية الاخرى. ان الموت بسبب التمارين الرياضية لا يسيء الى مفهوم القيام بالنشاط الجسدي ومحاولة تطويره، ولا ينفيه بل يفرض الابتعاد عن الممارسة الخاطئة المبالغ فيها اثناء تنفيذ التمارين.