في خطوة هي الأولى من نوعها منذ العام 1975، وتشكل مؤشراً اقتصادياً ايجابياً، بدأت مجموعة من المصارف اللبنانية فتح الباب أمام "القروض الشخصية" لعملائها لتمويل بعض النشاطات الاستهلاكية، مثل شراء السلع المعمرة، والسيارات، والمساكن الخاصة، وحتى أقساط المدارس. وطبقاً لمصادر جمعية المصارف في لبنان، فان المبادرة بدأت منذ بضعة اشهر، مع مجيء الهيئة الجديدة لحاكمية مصرف لبنان برئاسة الحاكم الجديد السيد رياض سلامه، في اطار سياسة تستهدف تحسين النشاط الاستهلاكي في البلاد، عن طريق توفير مزيد من السيولة لضخها في السوق. وبالفعل، أقر مصرف لبنان خطة جديدة تقوم على تخفيض نسبة الاكتتاب الالزامي للمصارف بسندات الخزينة من 60 الى 50 في المئة، على ان تقوم المصارف التي ستستفيد من التخفيض بتخصيص نسبة 10 في المئة لضخها في السوق عبر ما يسمى القروض الشخصية لعملائها. وتقدر المبالغ التي سيتم تحريرها عن طريق تخفيض نسبة الاكتتاب الالزامي، بحوالي 350 بليار ليرة 200 مليون دولار تتوزعها المصارف، كل بنسبة حجم اكتتاباته بسندات الخزينة التي تصدرها الحكومة. ومن المعروف، ان المصارف العاملة في لبنان ملزمة بموجب التعاميم الصادرة عن السلطات النقدية، بالاكتتاب بسندات الخزينة بنسبة 60 في المئة من اجمالي الودائع لديها بالعملة المحلية. وكانت هذه الاجراءات صدرت في اطار السعي للحد من المضاربات ضد الليرة في النصف الثاني من الثمانينات، عندما بدأت اسعار العملة المحلية الانهيار تجاه العملات الاجنبية، واتهم عدد غير قليل من المصارف في حينه، بالمساهمة في "ضرب" سعر صرف الليرة عن طريق المشاركة في عمليات المضاربة، والافادة من فائض السيولة لديها لتوظيفه في عمليات مصرفية وهمية. واحتجت المصارف في حينه على ما سمته النسبة المرتفعة للاكتتاب الالزامي، الا ان الاولوية المطلقة التي حددتها السلطات النقدية، تركزت على ما سمي "حماية النقد الوطني"، واستمرت هذه الاولوية قائمة، في الوقت الذي بدأ الاكتتاب بسندات الخزينة، القناة الرئيسية المتاحة امام المصارف لتوظيف اموالها، في ظل المخاطر التي يمكن ان تنتج عن الدخول في توظيفات اخرى اكثر تعرضاً للمخاطر. ومع ترسخ الاستقرار النقدي في بيروت، والاعلان عن ضرورة زيادة الاعتماد على الليرة في التعاملات التجارية للحد من تفاقم ظاهرة "الدولرة" في السوق، طرح موضوع تحرير جزء من الاكتتاب الالزامي بسندات الخزينة، وعقدت اجتماعات دورية بين مصرف لبنان وجمعية المصارف للاتفاق على صيغة محددة، تسمح بتحرير جزء من الودائع بالليرة لتوظيفها خارج سندات الخزينة، لكن من دون ان تؤدي هذه الصيغة الى فتح الباب امام احتمال عودة المضاربات. وبعد مفاوضات استمرت اكثر من 5 أشهر، تمكن الطرفان من الاتفاق على تخفيض نسبة الاكتتاب الالزامي من 60 الى 50 في المئة، وبدأ بعض المصارف الترويج لبرامج محددة للقروض الشخصية، ثم زاد عدد المصارف بصورة تدريجية من مصرفين في المرحلة الاولى في تموز يوليو الماضي، الى 8 مصارف في الوقت الحاضر، على أن يصل الى حوالي 20 مصرفاً قبل نهاية العام الجاري. وتقول مصادر مصرفية في بيروت، ان اكثرية المصارف ترى نفسها ملزمة بتوفير الخدمات الجديدة لعملائها، اقله للمحافظة على حصتها من السوق، ان لم يكن لزيادة هذه الحصة في سوق مرشحة لتشهد مرحلة جديدة من المنافسة القوية مع دخول مصارف اجنبية الى لبنان، مع ما يستتبع ذلك من سلة اوسع من الخدمات التي تقدمها هذه المصارف، نظراً الى امكاناتها الكبيرة جداً، قياساً الى الامكانات المتوافرة للمصارف المحلية، وهي امكانات محدودة جداً، سواء على صعيد نوعية الخدمات، او على صعيد اكلاف التشغيل، وهي مشكلة كبيرة بالنسبة الى ما يزيد على 60 في المئة من المصارف الوطنية التي يشكو معظمها من ارتفاع اكلاف الخدمات. وثمة سبب آخر لدخول مزيد من المصارف في سوق القروض الشخصية، هو حاجتها الى قنوات جديدة للتوظيف خارج اطار سندات الخزينة. وتتوزع القروض الشخصية التي باشرت المصارف منحها لعملائها على سلة لا زالت محدودة نسبياً من بنود الاستهلاك، اذ تقتصر على منح القروض المخصصة لتمويل شراء الأثاث المنزلي والسيارات الجديدة من الوكلاء، الى جانب السلع المعمرة، وحتى المساكن، فيما طرح بعض المصارف القيام بعمليات تمويل الاقساط المدرسية. وتصل مدة القروض الشخصية الى 18 شهراً في الغالب، والى 36 شهراً في بعض الحالات، مثل القروض المخصصة لشراء المساكن الخاصة، فيما تتراوح معدلات الفوائد بين 16 و21 في المئة، وهي معدلات قريبة من معدلات الفوائد المعمول بها في سندات الخزينة. وهل تنجح سياسة "القروض الشخصية" في تحقيق الاهداف الاقتصادية التي يسعى اليها مصرف لبنان، وفي طليعتها تنشيط الاستهلاك، من دون المس باستقرار سوق القطع؟ تجمع تقديرات مصرفية متطابقة على اعتبار مبلغ 350 بليار ليرة 200 مليون دولار الذي سيتوزع على قروض صغيرة كافياً لتسريع الدورة الاقتصادية. كما تجمع التقديرات المصرفية ايضاً على محدودية تأثير مثل هذه السيولة التي سيتم ضخها في السوق على استقرار سوق القطع المحلية، نظراً الى التحسن الاقتصادي العام من جهة، والاستقرار العام في البلاد، اضافة الى ارتفاع الاحتياط الذي يملكه مصرف لبنان، والذي بات يزيد حالياً عن 200،1 بليار دولار، وهو احتياط كاف في ظل الظروف العامة الحالية في البلاد لمواجهة اية محاولة للمضاربات يمكن ان تقوم بها مراكز مالية. الا ان ثمة تساؤلات تطرحها جهات مصرفية عاملة في بيروت عن مدى قدرة السوق على تحمل معدلات فوائد تصل الى 21 و22 في المئة، خصوصاً ان معظم العملاء الذين يتوقع ان يلجأوا الى مثل هذه القروض، هم من الفئة المتوسطة وما دون، الامر الذي يجعل من اعتماد مثل هذه الفوائد عملية مرهقة للدائنين الذين سيجدون انفسهم في مواجهة سداد اعباء الدين. وثمة اشارة اخرى يطرحها بعض المصرفيين تتعلق باستمرار التخوف من التعامل بالليرة لاعتبارات تتعلق بحاجة سوق القطع المحلية الى مزيد من ترسيخ الثقة باستقرار بعيد المدى.