يحيي الفنان الباكستاني نصرت فاتح علي خان بين 24 و26 تشرين الاول اكتوبر الجاري، ثلاث حفلات استثنائية على خشبة "تياتر دو لا فيل"، مسرح المدينةالباريسي. والمناسبة فرصة للتعريف بأشهر المغنين "القوالين" الذي لا تزال موسيقاه مجهولة في العالم العربي. يشهد نصرت فاتح علي خان وهو من أشهر المغنين القوالين في الباكستان، نجاحا عالمياً مذهلاً، لا سيما ان معظم جمهوره مكون من الشباب الاوروبي او الياباني المشبع بموسيقى الروك اند رول. ومن أبرز المعجبين به المغني البريطاني بيتر غابرييل الذي سجل اسطوانات عدة لنصرت فاتح علي خان في شركته "ريل وورلد" في لندن، ولجأ ايضا الى استخدام صوت نصرت في بعض مؤلفاته الموسيقية. كما ان لنصرت جمهوره الكبير في اليابان، حيث سجل ايضاً اسطوانتين، اضافة الى تسجيلات اخرى في فرنسا والباكستان. وبات الصراع للحصول على بطاقة دخول قبل كل حفلة موسيقية مشهداً اعتيادياً، خاصة في باريس، فنصرت فاتح علي خان يعتبر في الغرب "فاتحاً" بل ان الصحافة تترجم اسمه حرفياً الى الفرنسية. وبعد أيام يقف نصرت فاتح علي خان للمرة الخامسة على خشبة "تياتر دو لافيل" مسرح المدينة في باريس لاحياء ثلاث امسيات ينتظرها بفارغ الصبر الجمهور الفرنسي الذي اكتشف هذا الفنان الباكستاني منذ العام 5819. نصرت فاتح علي خان فنان "قوالي" وهو نوع من الغناء ولد في ولاية البنجاب في شمال الهند، في القرن الثاني عشر ففي هذه المرحلة التي شهدت غزو المغول، هربت مجموعة من العلماء والمتصوفين والفنانين البارعين خوفاً من بطش المغول، ولجأت الى المدن الكبيرة في البنجاب. الغناء القوالي اذاً، شاهد على مرحلة غاب عنها الاستقرار، لكنها كانت غنية ثقافياً. فمع انتشار الاسلام توحد التراثان الفارسي والهندي الكلاسيكي، أو على الأقل كان هناك انسجام كبير وتقارب بيّن بينهما. والقصائد "القوالي" مكتوبة باللغتين الفارسية والأوردو، وهي تغنى اليوم في قرى الباكستان وشمال الهند في الاعياد او المناسبات الاخرى. وهذا النوع من الغناء متوارث وله سلالات معروفة. نصرت فاتح علي خان هو ابن "الاستاذ" فاتح علي خان ولد في 13 تشرين الاول اكتوبر 1948 في مدينة فيصل آباد. وخلال النزهات المسائية مع والده، كان هذا الأخير يلقنه اصول الموسيقى والغناء، دون ان يدري احد من محيطهما بذلك. عندما توفي والده عام 1964، كان نصرت يستعد لدراسة الهندسة وفقاً لرغبة أبيه. لكنه رأى والده في الحلم يطالبه بأن يغني، فغنى، وكان لا يزال يغني عندما استيقظ. ولم يعد لديه أدنى شك بالطريق التي ينبغي عليه ان يسلكها… استطاع نصرت فاتح علي خان في غنائه ان يحظى باجماع جمهور مكون من الناس البسطاء والقرويين، وكبار الموسيقيين في الغرب، جمهور آت من عوالم مختلفة، ومن آفاق ثقافية وموسيقية متناقضة كالروك او الجاز او حتى الكلاسيكية. كلما ظهر على الخشبة بوقاره وجسده الضخم، محاطاً بموسيقييه ومغنيه العشرة، تنتاب القاعة رعشة ويسودها صمت وخشوع. وعندما يجلس أرضاً ويبدأ الغناء، ترافقه آلتان فقط هما الهارمونيوم والطبلة، اضافة الى التصفيق الايقاعي بالأيدي والكورس الصغير، يدخل الجمهور في حالة "سماع" سرعان ما تتحول الى حال انتشاء. تبدأ الحفلة دائماً بالپ"حمد" والپ"نعث"، ثم تنتقل الى الپ"مناقبات"، كي تستقر بعد ذلك عند "الغزل". قالقوالي ولد كي يغني الحب. وربما كانت فرادة نصرت فاتح علي خان، وقوة فنه، ناتجتين من تلاقي الأطراف في موسيقاه. اذ تمتزج لديه الموسيقى الشعبية بقصائد للغزل والحب الالهي من المستوى الرفيع. يجمع فنه بين التأمل وبين الحان وايقاعات مذهلة. انه يمزج بين تراث غنائي تقليدي لم يتغير منذ قرون، وارتجالات صوتية مبتكرة. ولعل أجمل اللحظات في غناء نصرت، هي عندما يمضي بعيداً في ارتجالاته هذه، وبدلاً من الكلمات، يردد اسماء النوطات الهندية: سا، را، غا… وهو بارع في الانتقال من لحظة صاخبة الى هدوء مفاجئ، ومن طبقات صوتية عالية يهبط فجأة الى طبقات عريضة وخفيضة. هل للمشاهد أن يتساءل بعدها، لماذا لقب نصرت فاتح علي خان في بلاده بپ"شاهنشاه قوالي"؟…