تتحرك إيران هذه الأيام لتطبيع علاقاتها مع العراق من أجل موازنة ما تسميه أوساط في طهران "ضغوطاً اقليمية ودولية" تواجهها الجمهورية الاسلامية في هذه المرحلة. ولاحظ مراقبون ان طهران باتت تنهج قواعد معروفة في هذا المجال فتلوّح بالتقارب مع بغداد كلما عاد الحديث اقليمياً وربما دولياً عن أزمة الجزر الثلاث أبو موسى وطنب الصغرى وطنب الكبرى بينها وبين الامارات العربية المتحدة، وكأنها تستخدم هذا التلويح سلاحاً لتخفيف بعض أزماتها. فبعد يوم واحد على خطاب نائب رئيس الوزراء وزير الخارجية الكويتي الشيخ صباح الأحمد في نيويورك الذي تطرق الى موضوع الجزر سارع وزير الخارجية الايراني علي أكبر ولايتي الى عقد لقاء، بدا كأنه خطط له من قبل، مع نظيره العراقي السيد محمد سعيد الصحاف. وكان بعض المصادر المستقلة ذكر ان الصحاف زار إيران سراً قبل ثلاثة أسابيع وعقد اجتماعاً مع ولايتي استمر ساعتين، في منطقة الحدود الايرانية - العراقية. ولم تؤكد طهران أو تنفي النبأ لكنها أكدت ان الوزيرين اجتمعا للمرة الثانية في نيويورك، بعدما كانا التقيا في كراتشي على هامش الاجتماع الوزاري الطارئ لمنظمة المؤتمر الاسلامي قبل أشهر. وعلمت "الوسط" ان وزير الخارجية الايراني ربما زار بغداد وحمل رسالة من الرئيس هاشمي رفسنجاني الى نظيره العراقي صدام حسين. وقالت أوساط ايرانية رسمية ان هذه الزيارة لن تتم قبل ان تحقق المحادثات بين البلدين في شأن المسائل العالقة تقدماً، خصوصاً موضوع الأسرى الايرانيين. وذكرت الأوساط نفسها ان مساعد وزير الخارجية الايراني للشؤون الدولية محمد جواد ظريف سيزور بغداد للبحث مع المسؤولين العراقيين في هذه المسائل، وفي ضوء النتائج يحدد مصير زيارة ولايتي للعاصمة العراقية وموعدها وجدول الأعمال. "التطبيع الأعرج" واستمزجت "الوسط" خبراء ايرانيين وعدداً من صانعي القرار السياسي في طهران رأيهم في تطبيع العلاقات الايرانية - العراقية، وخرجت بحصيلة مواقف لا تؤيد التطبيع المقترح للعلاقات التي لن يكتب لها السير برجلين ما دامت الخلافات الفكرية والسياسية وحتى الاجتماعية بين النظامين حادة، وطبيعة كل منهما متناقضة مع الأخرى. لكن بعض الأوساط، ولا سيما منها المتشددة حيال أي نوع من أنواع التقارب بين ايران ودول الخليج العربية يقترح باستمرار على القيادة الايرانية تطبيع العلاقات مع العراق. ووصفت هذه الأوساط لقاء الوزيرين الايرانيوالعراقي في نيويورك واحتمال زيارة ولايتي بغداد والاجتماع مع صدام حسين ب "الطريق الذي كان يجب ان يسلك من قبل". وقال مصدر في وزارة الخارجية الايرانية ل "الوسط" ان دراسة مفصلة قدمت أخيراً الى المجلس الأعلى للأمن القومي الايراني اقترحت التلويح على الأقل باقتراب التطبيع "الأعرج" الذي يقوم على رجل واحدة، للعلاقات العراقية - الايرانية. وأضاف ان تعبير "التطبيع الأعرج" قد لا يكون دقيقاً"لأن مثل هذا التطبيع لا يقوم حتى على رجل واحدة، فبين ايرانوالعراق الكثير من الاختلافات، ولا يمكن تجاهل ثماني سنوات من العدوان العراقي وآثاره على بلادنا بسهولة". ولكن لماذا الحديث عن تقارب مرتقب بين البلدين؟ أحد مستشاري المجلس الأعلى للأمن القومي الايراني أكد ل "الوسط" ان "اعلان اللقاء بين ولايتي والصحاف والاتفاق بينهما على مواصلة المحادثات لحل المسائل العالقة تم في اليوم الأخير من اسبوع "الدفاع المقدس" الذي تحتفل به ايران كل عام لاحياء ذكرى الحرب العراقية - الايرانية، اذ يحتفل الايرانيون بانتصارهم على العراق... ولكن من دون عودة جميع الأسرى الايرانيين". وأوضح المستشار "ان عائلات الأسرى الباقين في العراق وعددهم بين 5 و8 آلاف تضغط باستمرار على الحكومة لاعادتهم. وان الاعلان هذه الأيام عن قرب التوصل الى اتفاق على قضيتهم يعطي رفسنجاني فرصة المناورة على قطاعات التعبئة وحرس الثورة وإشراكها في مشاريع اعادة البناء والاصلاح الاقتصادي. وكذلك سيسهل الحديث عن التقارب الايراني - العراقي المحاولات لتحسين علاقات ايران مع جيرانها الخليجيين والدول الأخرى". ولذلك تستبعد أوساط رسمية ايرانية وخبراء في الشؤون الايرانية - العراقية وكذلك مصادر المعارضة العراقية الشيعية امكان حصول التقارب بين طهرانوبغداد، إلا "ان المناورة" في هذا المجال تظل قائمة. واللافت في هذا المجال ان طهران التي تلوّح بالتطبيع مع بغداد، عمدت قبل بضعة ايام الى تقديم دعم استثنائي الى المعارضة الشيعية العراقية وسمحت لها ببث تلفزيوني باسم "تلفزيون الانتفاضة" موجه الى داخل العراق. وتفيد هذه الشبكة من التقنية والخبرات الايرانية. بل ان ثمة مذيعين في التلفزيون العراقي المعارض من الايرانيين العرب. وتتولى لجنة خاصة كلفها مرشد الثورة آية الله خامنئي تقويم اوضاع المعارضة الشيعية داخل اطار "المجلس الاعلى للثورة الاسلامية في العراق" مقره طهران. وأكدت اوساط مطلعة ان رئيس "لجنة العراق"، المكلف من قبل خامنئي والذي يحظى بدعم الرئيس رفسنجاني كان مديراً لمكتب رفسنجاني في شؤون العراق اثناء رئاسته البرلمان اوعز الى لجنة تفتيش خاصة باعادة تقويم نشاط المعارضة الشيعية وتعزيز فاعليتها ضد النظام في بغداد. الابواب المفتوحة يأتي كل ذلك من دون ان تتجاهل كل من بغدادوطهران الابواب الاقتصادية والتجارية المفتوحة في الاتجاهين على طول منطقة الحدود الغربية، خصوصاً بين مندلي العراقية وقصر شيرين الايرانية. وتؤكد التقارير ان التعاون في هذا المجال بلغ ذروته عندما اصبحت ايران الجسر الرابط بين اقتصاد العراق وجمهوريات آسيا الوسطى. وبينما تواصل العاصمة الايرانية نفي صحة مثل هذه التقارير، خصوصاً على صعيد النفط اذ "لا يمكن من الناحية الفنية تصدير ايران النفط العراقي عبر صهاريج وشاحنات توصله الى الموانئ الايرانية"، فان ما لا تنكره طهران اطلاقاً هو حصول صفقات لشراء اطنان من الاسمنت العراقي ذي المواصفات العالية لاستخدامه في انشاء السدود. واللافت ان "حرس الثورة" الايراني الذي خاض مع العراق اكثر فصول الحرب شراسة أسس شركات لبناء السدود، وهو الذي يتولى عملية شراء الاسمنت العراقي عبر وسطاء يتردد ان بعضهم من العاملين في صفوف المعارضة العراقية. وذهب بعض التقارير الى ابعد من ذلك عندما ذكر ان شركات عراقية وافقت على ترميم أكبر جسر في خرمشهر يربط المدينةالايرانية بالبصرة على نهر شط العرب الذي كان احد الاسباب الرئيسية في اندلاع الحرب بين البلدين. وجاء في تقرير آخر ان شركة الموانئ العراقية وافقت على القيام بمهمات تطهير الجزء الايراني من شط العرب والذي تفصله عن الجزء العراقي نقطة القعر "التالوك"، من بقايا السفن والقوارب التي غرقت في النهر طوال فترة الحرب. وقال التقرير ان هذه الصفقة التي لم تنفذ بعد تتم في اطار تعاون اقتصادي تجاري لن يخرج ابداً عن قرارات المقاطعة الدولية. وأكدت في هذا السياق صحيفة "طهران تايمز" المقربة من الحكومة في مقالات سابقة ان التعاون الاقتصادي والتجاري بين البلدين تستدعيه اسباب انسانية، وان طهران لا تخرق قرارات المقاطعة المفروضة على العراق. لكن الصحيفة اشارت قبل ايام الى احتمال فشل عملية التطبيع المقترحة للعلاقات الايرانية - العراقية، وقالت ان نتائج المحادثات التي سيجريها مساعد ولايتي للشؤون الدولية محمد جواد ظريف في بغداد ستحدد هل العراقيون راغبون فعلاً في تحسين العلاقات ام انهم يسعون الى القيام بمناورة سياسية جديدة. خلاصة هذا الموقف ان طهران تحاول القاء الموضوع برمته على عاتق بغداد مشيرة الى انها هي التي فتحت ملف العلاقات، وطالبت بتطبيعها، في وقت فوجئت العاصمة الايرانية بتصريحات ادلى بها في بغداد وزير الدفاع العراقي علي حسن المجيد قبل ايام وقال فيها ان العراق لا يحتجز اسرى ايرانيين او كويتيين، ما اثار قلق الاوساط الايرانية الرسمية التي اعتبرت هذه التصريحات بداية غير مشجعة لقيام الوزير ولايتي بزيارته الموعودة لبغداد. الا ان هذه الاوساط بقيت تربط مصير الزيارة بنتائج ما سيقوم به ظريف في العاصمة العراقية في شأن الاسرى الايرانيين. ويذكر ان ايران وسطت في الاشهر الاخيرة بطل العالم السابق للملاكمة محمد علي كلاي الذي قام بجولات مكوكية بين طهرانوبغداد، وحصل على وعد عراقي بالافراج عن بقايا الاسرى الايرانيين سرعان ما تبخر. وقيل في حينها ان كلاي نجح في وساطته لكن العراقيين الذين يعرفون مغزى اللعبة الحاضرة يماطلون في تنفيذ وعدهم لانهم يسعون الى استعادة دورهم في المنطقة.