اذا كان الجنود هم عادة وقود الحروب، فان أطفال يوغوسلافيا سابقاً وبخاصة في البوسنة - الهرسك هم الثمن الاغلى للحرب الضروس الجارية على اراضيهم منذ اكثر من عام، حيث تحولت حياتهم الى جحيم دائم بعدما فقدوا منازلهم واهاليهم وقراهم وصاروا لاجئين لا يبغون سوى السلام والامن. التحقيق الآتي التي اشترت "الوسط" حقوق نشره بالعربية من وكالة "وورلد نيوز لينك" يروي قصة هؤلاء الاطفال الضائعين في المكان والزمان. ونتائج الحرب على حياتهم حاضراً ومستقبلاً. لن ينسى "جاسمين"، ابن السنوات العشر الآتي من مدينة "بانجا لوكا" في البوسنة، ابداً ذلك اليوم الذي حطمت فيه الحرب عالمه الصغير: فقد سقطت قنبلة يدوية بالقرب من مرآب منزله وأصابت والده وعمه بجراح بالغة على الظهر، كما أصابت ابني عمه إصابة أليمة على الصدر والوجه. اما هو، الذي حماه المرآب الى حد ما، فقد أصيب اصابة أقل خطورة في رجله: ورمته قوة الانفجار على الارض ليجد نفسه وجهاً لوجه امام والده المحتضر، وعمه وابنيه حيث أدرك انهم يشارفون على الموت... ويقول بروفسور "ماغني راودالين"، خبير طب الاطفال النفسي النروجي المتخصص في الآثار النفسية للحروب الذي يعمل الآن في المناطق التي كانت تسمى يوغوسلافيا، ان "جاسمين" يتذكر انه كان يرغب في ان يموت فوراً... وإن الهزة النفسية التي أصابته جعلت لديه توقعات بالغة السلبية حيال المستقبل". وحتى بعد انقضاء عام كامل على مشاهدة "جاسمين" لأربعة من افراد عائلته وهم يموتون، فما زال شبح المأساة يلاحقه. وهو ما زال يؤكد لعاملي منظمات الاغاثة انه لا يحمل كبير أمل في ان يبلغ سن الرشد. عمق المأساة إن الآلام النفسية التي احدثها التقاتل الضاري والوحشية منذ اكثر من عام في المناطق التي كانت تسمى يوغوسلافيا هي اعمق غوراً لدى الاطفال من آثار العنف البدني والاصابات التي عاناها الآلاف منهم. ويحاول بروفسور "راودالين" الذي يعمل مع منظمة اليونيسيف مساعدة الضحايا من الاطفال البالغ عددهم حوالى مليون ونصف المليون والذين عصفت بهم تجربة الحرب في كرواتيا والبوسنة - الهرسك وسلوفينيا والصرب. ويؤكد "ان ارقام الضحايا من الاطفال سترتفع مع استمرار الحرب. وكل الاطفال الذين التقينا بهم شهدوا عمليات القصف واطلاق النيران، وثلثاهم مروا بتجارب اعتقدوا خلالها انهم يعيشون آخر لحظات حياتهم، كما ان نصفهم سبق لهم مشاهدة الجثث والاجسام التي شوّهها القتال، وفي معظم الحالات كانت تلك الجثث والاجسام المشوهة تعود الى عائلات الاطفال والاقارب". ويصف عاملو منظمات الاغاثة الدولية، الذين شهدوا من قبل فظائع وبشاعات حروب أخرى في العالم، النزاع البلقاني باعتباره أكثر تلك التجارب بربرية ومدعاة للاصابة بالصدمات. فالضرر النفساني والعقلي الذي أصاب الاطفال الذين عاشوا تلك المأساة سيظل باقياً لسنوات وسنوات. وتقول "بريجيت دوشيسين" التي عادت لتوها من هناك بعد شهرين قضتهما تعمل مع اليونيسيف: "لقد رأيت اطفالاً بترت ايديهم وأرجلهم بسبب المتفجرات، وتحدثت مع بعض العاملين في منظمات الاغاثة الذين لديهم تجارب بشأن الحروب في مختلف انحاء العالم فأكدوا ان ما يشهدونه في البلقان هو الاسوأ من نوعه والاشد فظاعة، وانه يمثّل بالنسبة للاطفال وضعاً خطيراً تماماً". تأثير الحرب ويقول خبراء الطب النفساني ان الاطفال الذين يشهدون تجربة الحرب عن كثب يسرع بهم العمر ويعانون الكوابيس ويفقدون المقدرة على التواصل وعلى ممارسة بعض النشاطات المتصلة بالطفولة مثل اللعب. وغالباً ما يبتسمون أو يشاركون في الاخذ والرد كما ان معظمهم يعانون من الاحساس بعدم الامان ولا يعدون خططاً لأي مستقبل. وعلى حد ما تقوله "إيديث سيمونز" خبيرة اليونيسيف التي ظلت تعمل هناك طيلة الاشهر الخمسة الاخيرة فان "معظم الاطفال العاديين عادة ما يشيرون الى المستقبل بعبارات مثل "عندما ابلغ سن الرشد" أو "عندما تحين اعياد آخر السنة" أما اطفال لحرب البلقانية فلا يتفوهون بمثل تلك العبارات فقد أحدثت الحرب صدمة مروعة لنسيجهم النفساني". وتضيف "ايديث سيمونز"، خلال محادثة هاتفية من زغرب: "إن بعض الاطفال يعتقد بأنه سيفقد عقله بسبب الحرب. وهو لا يستطيع انتزاع تجربة الحرب من ذاكرته كما يعاني من النوم التشنجي المتقطع وقد يصبح بعضه اكثر عدوانية مما كان عليه. فهؤلاء الاطفال شاهدوا بعيونهم بشراً يُقتلون ونساء يُغتصبن كما رأوا منازلهم تحترق وكان عليهم اخلاؤها والهرب منها". قصة كرواتية "ميلينا" طفلة كرواتية في العاشرة من عمرها، كانت بصحبة جدتها في المنزل حينما اكتسح الجنود الصرب قريتها. وكانت أسرتها انتقلت لتوها من منزلها القديم الى آخر جديد. وكانت الام تعمل كاتبة في احد المصارف في مكتبها، اما الأب فقد كان على الجبهة. وتقول "ميلينا" لعاملي منظمات الاغاثة مزهوة: "كان لنا بيتان، وكنت احب مداومة المدرسة كثيراً حيث انني كنت احدى التلميذات النبيهات، أما الآن فلم أعد اذكر شيئاً". وفي مخيم اللاجئين الذي اصبح بيتاً يضمها مع الآخرين روت "ميلينا" لعاملي منظمات الاغاثة كيف قام الصرب بطردها وطرد جدتها من المنزل، وكيف سرقوا كل ذي قيمة ثم اشعلوا النيران في البيتين، القديم والجديد. وقد علمت "ميلينا" في وقت لاحق ان والدها مات مقتولاً على الجبهة، وان احد اعمامها جرى شنقه فيما تم قتل ابنيه بالرشاشات وهما يحاولان الهرب. ويقول الاطباء ان ما يضاعف من الوطأة النفسية للحرب لدى الاطفال ان القتلة والمعتدين هم اصدقاء سابقون وجيران. وكان من شأن حالات الغدر والخيانة التي اصبحت جزءاً مألوفاً من الحياة اليومية، ان حطمت إيمان الاطفال بوشائج الصداقة وثقتهم بالبشر. ويلاحظ بروفسور "راودالين" ان اولئك الاطفال "فقدوا كل ثقة في صدور تصرفات مسؤولة من البالغين". قصة من ساراييفو وتروي "ايديث سيمونز" حالة "ادينا"، وهي فتاة في الرابعة عشرة قابلتها في "ساراييفو" وعاشت في قبو تضيئه شمعة واحدة طيلة اشهر سبعة. ولقد اجابت على اسئلة "ايديث" برزانة وضبط نفس عندما كانت تتحدث عن الصعوبات التي تعانيها وعن قلقها ازاء المستقبل. بيد انها قالت فجأة: "كان لي ذات يوم كلب يدعى بيلا" ثم انفجرت بالبكاء. وخلال اسئلة وجهت اليها في وقت لاحق تأكد ان احد الجيران امسك بكلب "إدينا" - الذي تحبه كثيراً. ولوى عنقه امام ناظريها ثم شرع يهشم جمجمته بالضرب به على الجدار. وتضيف، ايديث: "ان العديد من الاطفال فقدوا حيواناتهم الاليفة العزيزة لديهم، كما فقدوا بيوتهم ذاتها. وهم يشيرون الى "اليوم الذي دمروا فيه بيتنا"، فالبيت لدى الطفل هو كل شيء، انه مكمن الحب والحماية والملاذ". لقد أرغم الآلاف من الاطفال على العيش في الأقبية لشهور طويلة كما ظلوا يعانون من المضايقات التي لا تنقطع. والعديد من الفتيات والامهات جرى اغتصابهن قبل اعادتهن الى اقاربهن المفجوعين الذين لا حول لهم ولا قوة. وتقول "بريجيت دوشبيسني"، خبيرة اخرى تعمل في اليونيسيف، "ما زلت اذكر طفلاً من البوسنة عمره نحو ثماني سنوات كان شاهد أمه وهي تحت الاغتصاب الجماعي". وغالباً ما يكون الاطفال الذين يشهدون مثل تلك الفظاعات قليلي الحديث وعازفين عن الكلام حولها. لذا عمد خبراء اليونيسيف على تشجيع هؤلاء الى التنفيس عن احزانهم بواسطة رسم ما يشاؤون. وتقول بريجيت: "لقد ظللنا نجمع الرسومات، ونخضعها للتحليل لنقف على ردود أفعال الاطفال، الذين كانت رسوماتهم تثير الرعب اذ انها تكشف عما واجهوه". أطفال البوسنة وأطفال البوسنة هم أكثر من عانى، حيث ان القتال تركز خلال الاشهر الاخيرة في تلك المنطقة، وبالنظر الى أن سياسة الصرب المسماة "التطهير العرقي" جرى تطبيقها هناك بوحشية وضراوة على السكان المسلمين. بيد انه وعلى حد ما تقوله بريجيت: "فان الرسومات مهما كانت تحكي الحكاية ذاتها، فهناك في حالات عديدة بيوت تحترق وطرفان يتقاتلان وبينهما طفل يقول شيئاً مثل "الرجاء مساعدتي". ومعظم الاطفال رسم بيتاً أو آخر في صور مما يعكس الأهمية التي يعلّقها على حقيقة انه لم تعد لديه بيوت يعود اليها، وفق ما يقول علماء النفس". وتضيف بريجيت: "رأيت أطفالاً تمّ تزويدهم بجميع الالوان التي يمكن تصورها لكنهم لم يستخدموا منها سوى اللون الاسود". وكذلك جرى تشجيع صغار اللاجئين على كتابة المقالات والرسائل الى الشخصيات التي يشاؤون مراسلتها فاختار معظمهم بابا الفاتيكان والرئيس الاميركي جورج بوش والرئيس المنتخب بيل كلينتون. وكانت كل تلك الرسائل تحوي استرحامات يدمى لها القلب تنادي بايقاف المذابح وحمامات الدم. وقد كتب احدهم قائلاً "لو كنت رئيساً للجمهورية لمنعت استخدام كلمة حرب في بلدي". مهمة اليونيسيف الصعبة ويقوم مسؤولو اليونيسيف في ما كانت تسمى يوغوسلافيا، هذه الايام يعرض بعض تلك الرسومات في "بلغراد" "وزغرب". ويحمل المعرض اسم "حينما اغمض عيني، أحلم بالسلام" وهي كلمات تفوه بها طفل لاجئ من أطفال البوسنة تهدف الى تأكيد أن الاطفال يدفعون افدح الثمن في تلك الحرب. وتحاول اليونيسيف ايضاً ترتيب عقد لقاءات نصح وإرشاد مع اولئك الاطفال، إلا ان حجم المشكلة فضلاً عن استحالة الوصول الى معظم الاطفال بسبب الحرب تجعل تلك المهمة بالغة الصعوبة. ولقد كان من شأن وقف موقت لاطلاق النار جاء بمبادرة من اليونيسيف في تشرين الثاني نوفمبر الماضي بغرض ايصال بعض البطانيات والمواد الغذائية والادوية والملابس ان نجح في تخفيف بعض الصعوبات المادية لنحو مئتي الف طفل هناك. بيد ان عديدين من عاملي وكالات الاغاثة يوجهون نقدهم الى العالم الخارجي بسبب قلة اهتمامه بالاضرار النفسية التي تنزل باولئك الاطفال. وتقول بريجيت: "هؤلاء الاطفال ليس امامهم سبيل للتعامل مع مشكلاتهم وللتعامل مع المشكلات التي سوف تواجههم - دون ريب - مستقبلاً. على الرغم من ذلك فلا أحد يسمع صوتهم". ويقوم مسؤولو اليونيسيف بتنظيم حلقات دراسية في البوسنة - والهرسك لمساعدة المعلمين وموظفي الخدمات الطبية والآباء في التعرف على حالات الاصابات النفسية الناتجة عن الحرب وفي التدرب على كيفية معالجتها. وتقول "ايديث سيمونز" انه "من المهم تماماً أن يعبّر الاطفال عن تجاربهم ومخاوفهم. ذلك هو سر اهمية اختلاطهم بالاطفال الآخرين وسر الدور الذي يمكن أن تلعبه المدرسة. فقد يقرر الاستاذ انه بدلاً من الدروس المعتادة فانه سيخصص أسبوعاً للتحدث حول الحرب حتى يصبح بوسع الاطفال أن يكتبوا ويرسموا ويبكوا معاً، وأن يحاولوا طرد كوابيس الحرب من نسيجهم النفساني، حيث ان المشكلة تتمثل في كبتهم لتلك التجربة". المدارس غير موجودة على انه ليست هنالك مدارس بالنسبة للعديد من الاطفال، وليس هنالك احتمال وجود مدارس لهم في المستقبل القريب. وتروي بريجيت حكاية طفلة صغيرة يتراوح عمرها بين ثلاث وأربع سنوات كانت تختبئ طيلة أشهر ثلاثة في أحد الاقبية. بعد ذلك اتضح أن الطفلة لم تعد تدرك كيفية ادارة مفتاح الضوء الكهربائي على الرغم من أنها كانت تدربت على ذلك قبل اختفائها في القبو الذي لم يكن فيه غير الشموع. وينذر العاملون في منظمات الاغاثة بأن المدنيين في المناطق التي كانت تسمى يوغوسلافيا سوف يواجهون ظروفاً أكثر صعوبة وشراسة بعدما حل فصل الشتاء وبسبب الاوضاع الاقتصادية المتفاقمة. وتقول بريجيت: "خلال الحرب العالمية الثانية كان الجنود والضباط يمثلون 80 في المئة من الضحايا. أما في هذه الحرب فان الامر مختلف تماماً". وحيث أن درجة الحرارة قد هبطت الى ما يبلغ 25 درجة مئوية تحت الصفر في بعض المناطق فان الحاجة صارت ماسة للملابس الشتوية والمواد الغذائية الغنية بالبروتيين. إن العديد من الاطفال المقيمين في مخيمات اللاجئين أو اولئك الذين انضموا الى أقاربهم لا يملكون من الملابس سوى سروال قصير من مادة خفيفة وقميص من مادة مماثلة، وتلك هي الملابس التي كانوا يرتدونها لدى هروبهم من بيوتهم في الصيف الماضي. وتقول بريجيت: "إن أعداداً متزايدة من الناس يجري تسريحها من العمل مما يجعل عسيراً عليهم تماماً ان يوفروا وجبات متوازنة القيمة الغذائية لأطفالهم حتى ان كانوا في منطقة لا تتأثر مباشرة بالقتال". وتلخص بريجيت مأساة الطفولة في يوغوسلافيا السابقة والبوسنة من خلال لوحة رسم طبعت في مخيلتها كان رسمها ولد من ساراييفو في الثالثة عشرة من عمره، بقولها: "يملك ذلك الصبي موهبة فائقة، فقد رسم صورة جميلة لطاه فرنسي ضخم الجثة ومائدة تذخر بالمآكل من لحم وكعك وغيرهما من المأكولات التي لم يرها ذلك الطفل منذ وقت طويل. لكنه غرس سكيناً وسط المائدة المثقلة بالطيبات". * مراسلة وكالة "وورلد نيوز لينك" في روما.