العمال السوريون في لبنان، ظاهرة قديمة متجددة. وهم يتوافدون الى بيروت وسائر المدن اللبنانية ليمارسوا اعمالاً متعددة، على رغم الازمة الاقتصادية وتدني القيمة الشرائية لليرة اللبنانية. في هذا التحقيق تنقل "الوسط" الصورة الجديدة للعمال السوريين في بيروت: اعمالهم وحياتهم اليومية... واسواقهم التي استحدثوها بين ركام المدينة الرياضية. استغرب احد اللبنانيين العائدين الذي طلب من سائق سيارة الاجرة في بيروت ان يوصله الى منطقة الدورة، عندما سأله السائق: اين هي منطقة الدورة؟ سأوصلك اليها فأرجو ان تدلني على الطريق! السائق الذي سأل الراكب عن الطريق، كان سورياً، والسيارة، بالطبع، تحمل لوحة خاصة سوداء لا لوحة عمومية حمراء كما يفرض القانون. ولأول مرة بدأ العمال السوريون يخوضون مختلف مجالات العمل في لبنان بعد ما كان عملهم قبل الحرب يقتصر على مجالين متفاوتين: اما ان يكون السوري من اصحاب الرساميل الهاربة فيعمل مقاولاً كبيراً او يساهم في مصرف او يمول شركات للبناء الخ... واما ان يكون فقيراً فيعمل في الاعمال الشاقة وخصوصاً في قطاع البناء ومجالات الزراعة. ظاهرة انتشار العمال السوريين في لبنان على رغم ازمته الاقتصادية، تلفت النظر اكثر من اي وقت مضى بسبب شمولها مجالات عدة للعمل كقطاع البناء في كافة متطلباته، وقطاع العمال الزراعيين المياومين، وقطاع سائقي سيارات الاجرة السرفيس، وقطاع البائعين المتجولين من خضار وفواكه... تجتذب هذه القطاعات وغيرها من شبيهاتها، العمال السوريين لاسباب شتى، يمكن ترتيبها، بحسب تقلبات الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية في لبنان، على الوجه التالي: ما قبل الحرب 1 - حاجة لبنان، منذ ايام ازدهاره الاقتصادي في زمن ما قبل الحرب، الى ايد عاملة في قطاعات كانت تتدنى اعداد اللبنانيين العاملين والراغبين في العمل فيها والمحتاجين اليها. كان قطاع البناء في رأس هذه القطاعات. لذا غالباً ما كانت مجموعات من العمال السوريين تقيم في اكواخ صغيرة مؤقتة تقام بالقرب من الابنية قيد الانشاء لايوائهم في انحاء المدن اللبنانية وضواحيها. وكان البعض من هؤلاء العمال يستبقى، بعد الفراغ من بناء هذه الابنية، للعمل فيها كبوابين يؤدون بعض الخدمات للساكنين، فتقدم لهم غرف صغيرة يقيمون فيها عند مداخل الابنية، فيما كان بعضهم الآخر ينتقل للعمل في ورش اخرى للبناء. اما في قطاعات العمل الاخرى، كالمعامل والمياومة الزراعية والاستخدام في المطاعم... فكان عدد العمال السوريين ضئيلاً بالقياس الى عددهم في قطاع البناء. هذا فيما كان يندر ان تجد سورياً يعمل سائقاً لسيارة اجرة او بائع خضار متجول في لبنان. 2 - تدني مستوى دخل الفرد، الى حد كبير، في سورية، وانخفاض قيمة العملة السورية، عنهما في لبنان الذي كانت تتوافر فيه فرص للعمل يصعب توافرها في سورية. وذلك بسبب اختلاف النظام الاقتصادي واختلاف التركيب الاجتماعي في البلدين. الامر الذي كان يتيح لطالب جامعي سوري ان يأتي الى لبنان في اثناء العطلة الصيفية طلباً للعمل في واحد من القطاعات المذكورة اعلاه، ليعود الى سورية حاملاً من المال مبلغاً يمكنه من تأمين مصاريف سنة دراسية في بلده. 3 - سهولة الانتقال وقرب المسافة بين البلدين المتجاورين. فضلاً عن سهولة اجتياز الحدود السورية - اللبنانية من دون حاجة الى تأشيرات دخول وخروج، ولا الى دفع رسوم جمركية الا في حدود متدنية وتكاد لا تذكر. ثم ان انظمة العمل وقوانينه في لبنان كانت وما تزال مطاطة الى الحد الذي يتيح لغير اللبنانيين، والسوريين منهم بوجه خاص، العمل في القطاعات المذكورة اعلاه من غير حاجة ملحة او ضرورية للحصول على اجازات عمل رسمية من السلطات المختصة. هذه العوامل والظروف مجتمعة، اضافة الى غيرها، كانت قائمة في ما قبل اندلاع الحرب في لبنان عام 1975. لكن اندلاع الحرب في ذلك العام وتوسعها وانتشارها وما نجم عنها من ارتسام حدود وخطوط تماس بين المناطق اللبنانية ومن خطف على الهوية، ادى الى توقف تدفق العمال السوريين الى لبنان، فضلاً عن عودة من كان يعمل منهم ويقيم في لبنان الى بلده، تحت الحاح الخوف من الخطف والقتل على الهوية اللذين ذهب ضحيتهما كثرة من العمال السوريين، اسوة بالفلسطينيين واللبنانيين. ظروف مختلفة مع توقف الحرب في لبنان منذ ما يقارب السنتين بدأ من جديد وعلى نحو متدرج تدفق السوريين الى لبنان طلباً للعمل، لكن في شروط وظروف مختلفة عما سبق، فلبنان عصفت به حرب طويلة مدمرة قوضت اركان بنيته السياسية والعمرانية والاقتصادية والديموغرافية والاجتماعية، ولم يعد هو لبنان الستينات والسبعينات الناهض والمزدهر على كافة الصعد والمجالات. فلا فرص العمل التي كانت متوافرة فيه بكثرة قائمة ومتوافرة على الحال الذي كانت عليه، ولا عناصر الاختلاف والفروق الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي كانت قائمة آنذاك بينه وبين سورية ما تزال على حالها. الا ان هذا الاختلاف لم يفض في الحقيقة والواقع الى زوال حاجة السوريين الى طلب العمل في لبنان، على الرغم من تقدم الحياة الاقتصادية والاجتماعية وتطورها في العقدين الاخيرين في سورية وتراجع هذه الحياة على نحو مأسوي في لبنان عن الحال الذي كانت عليه قبل الحرب. ويكفي على هذا الصعيد ذكر واقعة انهيار قيمة العملة اللبنانية المدوي والى الحد الذي جعل الليرة السورية الواحدة تساوي 20 ليرة لبنانية، فيما كانت حتى سنة 1985 لا تساوي اكثر من نصف ليرة لبنانية. فما هي الظروف والشروط الراهنة لعمل السوريين في لبنان؟ 1 - على الرغم من الانهيار الاقتصادي الذي يعيشه لبنان، وعلى الرغم من الخراب الذي اصاب مرافقه كافة، من غير ان يلوح في الافق حتى الآن نشاط ملحوظ في اعادة الاعمار والبناء، فان السوريين يتوافدون باعداد كبيرة الى لبنان طلباً للعمل اينما يجدون الى ذلك سبيلاً: اعمال البناء، بيع "التيكوتاك" واوراق الحظ على انواعها، وبيع الخضار والفواكه، سيارات الاجرة التاكسي. وهم يزاحمون فقراء اللبنانيين على هذه الاعمال الصغيرة. 2 - سهولة الدخول الى لبنان، فباستطاعة السوري ان يجتاز الحدود اللبنانية - السورية حاملاً فقط بطاقة هويته الشخصية، ولا حاجة له الى تأشيرة دخول، شأنه في ذلك شأن اللبناني الذاهب الى سورية. وفي الظروف الراهنة يألف السوري المجيء الى لبنان طلباً للعمل والتحصيل، وكأنه ينتقل في داخل بلده، بين مدينة ومدينة. ثم انه بعد وصوله الى بيروت او الى غيرها من المدن اللبنانية، لا يجد نفسه في حاجة الى الحصول على اجازة عمل واقامة، اذ ليس في لبنان الآن هيئات وادارات فاعلة تنظم عمل غير اللبنانيين واقامتهم في لبنان. الامر الذي يجعل القادمين الى لبنان بشكل عام مطلقي الحرية واليد عملاً واقامة في البلد، بحسب رغباتهم واهوائهم وتدبيرهم. 3 - على الرغم من تدني الدخل وانهيار قيمة العملة في لبنان، ما يزال الدخل الذي يحصله العامل السوري، في اي قطاع من القطاعات اللبنانية المذكورة اعلاه، يفوق باضعاف الدخل الذي يحصله هذا العامل في سورية. فأجر العامل يومياً في لبنان يتراوح بين 15 و20 دولاراً. وهذا مبلغ يستحيل على العامل السوري تحصيله في بلده في نصف شهر او في ايام عشرة، على الاقل. ثم ان العامل السوري الوافد للعمل في لبنان يستطيع ان يوفر من اجر عمله المبلغ الاكبر، لانه ليس في حاجة الا الى مصاريف ضرورية، لا تتجاوز مصروف غذائه اليومي. فهو شخص مفرد، لا حاجة له لا للسكن ولا للمصاريف الاخرى، اذ باستطاعته العيش والاقامة كيفما اتفق. وهذا ما لا يستطيعه العامل اللبناني المقيم في بلده وبين اهله وعائلته. من الهامش الى المتن ما تقدم يسهل على السوريين من طالبي العمل القدوم الى لبنان من دون مشقات تذكر. ثم ان الفوضى الشائعة في حياة المجتمع اللبناني وغياب نظام جامع للقيم والعيش، والتفكك الذي يسود في علاقات الحياة اليومية، وعلاقات العمل والسكن، كل هذا يتيح للقادمين الى لبنان السباحة في مياه هذه الفوضى والتفكك الاجتماعيين في سهولة ومن دون عقبات او حدود. فباستطاعة جمع من العمال السوريين ان يصل عند العصر الى محلة الجامعة العربية حيث يكثر وجود القوى الامنية السورية، وحيث تكثر كاراجات سيارة الاجرة القادمة من سورية، ويفترش الجمع رصيفاً امام محل مقفل للراحة ولتناول العشاء، ثم للقيلولة والنوم حتى فجر اليوم التالي الذي يبدأ الجمع فيه البحث عن عمل ومكان للاقامة. ومثل الكثرة من المهجرين اللبنانيين سوف يجد العمال السوريون مأوى لهم في الابنية المهجورة وشبه المدمرة في الاحياء واينما يجدون الى ذلك سبيلاً. ففي المباني شبه المدمرة منذ الاجتياح الاسرائيلي للبنان في منطقة الكولا والجامعة العربية، يسكن العمال السوريون في غرف يجهزونها كيفما اتفق لمنامتهم ولشرب الشاي مساء، بعد ايابهم من العمل في انحاء المدينة. انهم الآن يقيمون جماعات جماعات ويشكلون ما يشبه بؤراً صغيرة داخل الاحياء السكنية، فيما كانوا في السابق، ما قبل الحرب، يعيشون في خلفية مشهد الحياة اليومية او على هامشه غير المرئي. المدينة الرياضية... سوق ربما يكون اكبر تجمع للعاملين السوريين في لبنان راهناً هو تجمع بائعي الخضار واللحوم في مباني المدينة الرياضية المدمرة وفي الفسحات الفارغة المتاخمة لها. قبل شهرين او ثلاثة كانت عربات هؤلاء البائعين تقف منذ الصباح وحتى المساء على جانبي الاوتوستراد الممتد بين السفارة الكويتية والكولا مروراً امام المدينة الرياضية. الامر الذي كان ينجم عنه زحمة في السير خانقة لم تستطع قوى الامن اللبنانية معالجة اسبابها، اذ كان العابرون في سياراتهم يوقفون هذه السيارات على جانبي الاوتوستراد لشراء ما يحتاجونه من بائعي العربات. وبعد اخذ ورد ومشاحنات واتصالات تم نقل العربات وبائعيها الى سوق انشئ لهم في فسحة كبيرة امام المدينة الرياضية، بالقرب من سوق للحم توسع حجمه وازدهر العمل فيه، بعد ذلك. هكذا تحولت المدينة الرياضية والفسحات المحيطة بها الى اسواق يقصدها المستهلكون اللبنانيون من مناطق واحياء بعيدة وقريبة بغية الحصول على حاجياتهم بأسعار متدنية. تشبه هذه الاسواق في شكلها وفي تنظيمها وفي القيمين عليها، اسواق التجارة الحدودية القائمة على جانبي الطريق الذي يصل شتورا في البقاع بالحدود اللبنانية - السورية، حيث تجد قطيعاً صغيراً من الماشية يسرح في فسحة قريبة من دكان لبيع الخضار والمعلبات واللحم المشوي. هنا العيش والعمل ضاريان وغارقان في الفوضى والروائح والسوائل وفي الاختلاط الذي لا قاع له. وحين تدخل الى مثل هذه الاسواق يراودك شعور انك تدخل في سديم العالم والاشياء: مئات من شرائح اللحم معلقة بكلاليب ومدلاة في العراء تحت الواح الزنك، فيما الزبائن المتجولون تصطدم اكتافهم وايديهم بشرائح اللحم التي تحوم عليها ارتال الذباب. وبالقرب من دكاكين سوق الخضار تسرح بقرات فوق الاسفلت وباستطاعتها التجول بين الزبائن وبين عربات الخضار، فيما نزلاء جدد في السوق يرفعون اسافين خيمة جديدة للبيع. انها ضراوة ما بعدها ضراوة تتخلل مشاهد الحياة اليومية في لبنان التي تنحدر الى ما لا نهاية، مضيفة الى مشهد الدمار والخراب حيوية فائضة، حيث التجارة الصغيرة والاكل والنوم والعيش في مكان واحد...