كيف تصنع انقلاباً في بغداد؟ كيف يمكن الانتقال، فعلاً، من مرحلة الرئيس صدام حسين الى مرحلة ما بعد صدام حسين؟ السؤال يطرحه الآن، وأكثر من اي وقت مضى، الكثيرون في الشرق الاوسط، ويحلم به عدد من الزعماء والمسؤولين المعنيين مباشرة بتطورات الوضع في العراق. فصدام حسين يثبت كل يوم، بتصرفاته ومواقفه وتحديه قرارات مجلس الامن الدولي التي ادت الى وقف اطلاق النار في حرب الخليج، انه مصدر تهديد وإزعاج وخطر، ليس فقط لأبناء الشعب العراقي المحرومين من حياة طبيعية نتيجة سياسات رئيسهم، بل ايضاً لعدد من دول المنطقة والدول المعنية بالمنطقة. ووفقاً لما قاله لپ"الوسط" مسؤول اميركي مطلع على الملف العراقي: "ليست هناك خطة سهلة للاطاحة بنظام صدام حسين. هناك خيارات واقتراحات وسيناريوهات عدة يتشاور بشأنها حالياً المسؤولون في عدد من دول التحالف ضد العراق وتتعلق بالاطاحة بصدام حسين. وأعتقد انه سيتم اعتماد اكثر من خيار واقتراح لزعزعة النظام العراقي من الداخل وإضعافه تمهيداً لاسقاطه. وأتوقع ان يبدأ تنفيذ هذه الخيارات والاقتراحات قريباً". نعود الى السؤال: كيف تصنع انقلاباً في بغداد؟ "الوسط" تحاول الاجابة عن هذا السؤال في هذا التحقيق الذي اعده راسل وارن هاوي في واشنطن واسماعيل الامين في لندن ومراسلو "الوسط" في باريس وبعض العواصم العربية ويتضمن هذا التحقيق مقابلات مع خبراء اميركيين وغربيين مطلعين على الشؤون العراقية، ومعلومات خاصة حصلت عليها "الوسط". الاعتقاد السائد في الشرق الاوسط ودول التحالف ضد العراق ان تغيير النظام في بغداد وإزاحة صدام حسين عن الحكم شرطان اساسيان لا بد من تحقيقهما لالغاء العقوبات الدولية المفروضة على هذا البلد ورفع الحصار عنه وتقديم الدعم والمساعدة له في مجالات مختلفة. لكن السؤال هو: كيف يمكن القيام بانقلاب في العراق وتغيير النظام؟ ومن الذي يقود عملية التغيير هذه؟ وبمن يجب استبدال صدام حسين؟ طرحنا هذه التساؤلات على ريتشارد هيلمز المدير السابق لوكالة المخابرات المركزية الاميركية والذي كان سفيراً للولايات المتحدة لدى ايران. قال هيلمز لپ"الوسط": "قبل ان نتورط في عملية الاطاحة بصدام يجب علينا ان نكون واثقين ومتأكدين بصورة مطلقة من الشخص الذي سيحل محله. إذ ان الامور يمكن ان تظل على ما كانت عليه مع صدام، او ربما تسوء وتعم الفوضى في البلاد اذا تم اختيار الشخص غير الملائم للحلول محل الرئيس العراقي الحالي". الجيش هو القوة الرئيسية والاساسية في العراق، وهذا ما يدفع المحللين المعنيين بشؤون هذا البلد الى القول ان البديل الوحيد لصدام سيكون إما احد كبار الضباط، او بعثياً مدنياً يكون بمثابة العوبة في أيدي العسكريين الذين ينصّبونه. وفي هذا ما يثير اسئلة عدة عن المحاولات الانقلابية بشكل عام. إذ سبق لي ان غطيت ثلاثة عشر انقلاباً مختلفاً لا يكاد يكون بينها واحد يمكن تطبيقه على الحالة الراهنة في العراق: 1 - في حالة الانقلاب التقليدي المألوف، وهو ما تفضله اميركا اللاتينية، يعطي الانقلابيون للرئيس ما يسميه يوليوس قيصر "جسراً ذهبياً" يتراجع عبره بارتياح وبمال وفير، ويغادر البلاد ليعيش في المنفى في احدى الدول المجاورة، وفي نهاية المطاف يمكنه العودة الى بلاده. مثلما حصل مع الرئيس الجزائري احمد بن بيلا بعدما امضى سنوات في السجن، وعقيلة الرئيس الفيليبيني إيمالدا ماركوس او الرئيس الأوغندي عيدي أمين أو شاه ايران. لكن معظم الذين يتابعون تطورات الوضع في العراق يعتقدون ان من الصعوبة بمكان إغراء الرئيس العراقي ليقتنع بقبول دخول عالم النسيان السياسي. ثم من الذي سيحاول إقناعه بذلك؟ من الذي يجرؤ على التقدم باقتراح كهذا اليه؟ لا احد داخل العراق بكل تأكيد، اذ ان مثل هذا الشخص سيدفع بلا شك حياته ثمن هذه "النصيحة المخلصة". ولكن هناك دولتين على الأقل على استعداد لقبول صدام حسين وهما كوبا التي أيدت النظام العراقي في الأممالمتحدة وقدمت في الماضي ملجأ لروبرت فيسكو مدير الاستثمارات الاميركي صاحب الملايين الذي أدين بتهم الاختلاس" وسويسرا. وهناك دولة ثالثة محتملة ايضاً وهي فرنسا. اما في افريقيا فان الانقلابات تحدث عادة حين يكون هدف الانقلاب خارج البلاد، مما يجعل بقاءه في المنفى امراً تلقائياً. لكن صدام حسين لا يغادر العراق الى اي مكان، ومن غير المحتمل ان يفعل ذلك في المستقبل. 2 - من الأمثلة المختلفة على الانقلابات التقليدية ما حدث في الجزائر عام 1963 أي الاطاحة بالرئيس ووضعه في السجن لضمان عدم تآمره على العودة الى الحكم. وهذا ليس بالأمر المستحيل في الوضع العراقي الراهن. ولكن مدبري مثل هذا الانقلاب سيخشون من انقلاب مضاد للافراج عن السجين. 3 - التقليد العراقي المألوف في الانقلابات منذ عهد عبدالكريم قاسم هو الاغتيال لضمان نجاح الانقلاب، مهما كانت الظروف. الا ان اية محاولة تقودها اميركا لاغتيال الرئيس العراقي بشكل صريح ومكشوف - اذا استثنينا احتمال ان يموت صدام في غارة جوية تشنها الطائرات الاميركية - ستثير ردود فعل مختلفة في عدد من دول المنطقة، ليس بسبب التعلق بصدام - اذ لا احد يريد استمرار الرئيس العراقي في الحكم وحتى الذين كانوا حلفاءه او اصدقاءه في الماضي - لكن لأسباب مبدئية. كما ان معظم المسؤولين في وزارة الخارجية الاميركية والكثيرين من اعضاء الكونغرس والمخططين السياسيين يقولون انه ما لم تكن الدول المجاورة للعراق راغبة في الاطاحة بصدام الى الحد الذي يجعلها تقوم هي نفسها بذلك، فان من غير المعقول ان تتزعم الولاياتالمتحدة هذا الجهد، "لأن طبيعة النظام في العراق أقل اهمية بالنسبة الى واشنطن مما هي بالنسبة الى دول الشرق الأوسط نفسها" على حد قول مسؤول اميركي. ولكن، وكما يعرف كل من يقرأ قصص الجاسوسية وغيرها، فان اذكى الطرق للتدخل بصورة غير قانونية في سياسات بلد آخر هي ترتيب إلقاء اللوم على طرف ثالث - اي ما يعرف باسم اسلوب "الراية المزيفة". ففي رواية شارلس مكاري عن اغتيال الرئيس جون كينيدي، يعتقد القاتل الاميركي انه يتصرف بناء على تعليمات من وكالة المخابرات المركزية الاميركية، بينما هو ينفذ في الواقع، من دون وعي منه، رغبات الطبقة الحاكمة في فيتنام التي تريد الانتقام من اغتيال الرئيس ديام وشقيقه بمساعدة السي.آي.ايه. وهكذا فان السيناريو المحتمل في حالة العراق، ربما يكون على اساس ان تجند حكومة عربية او الحكومة الاسرائيلية احد القتلة الذي يعتقد انه يعمل لحساب الاميركيين، وأن تكون لهجة الشخص الذي يجنّد هذا القاتل اميركية. وعندها سيعطي هذا الشخص للقاتل اسماً اميركياً مستعاراً للعملية ويدفع له مبالغ مالية طائلة، بالدولار. فمثلاً جند الاسرائيليون قبل ان يغيروا على المفاعل النووي العراقي طالباً عراقياً كان يعمل في باريس مع الشركة الفرنسية التي كانت تبني المفاعل. الا ان الطالب العراقي اعتقد آنذاك انه يتعامل مع رجل اعمال بريطاني عرض عليه المال في مقابل الحصول على تفاصيل برنامج المفاعل العراقي لكي تستطيع بريطانيا ضمان الحصول على بعض العقود المتصلة به. ولكن ليس من الاكيد ان اسرائيل تريد الآن الاطاحة بصدام حسين لأن تطرفه يخدم اغراضها الدعائية. لكن اذا كانت الاطاحة به ستؤدي الى حالة من الفوضى المطبقة في العراق فان اسرائيل ستعتبر ذلك خدمة لمصالحها. العمل العسكري والانقلاب وعلى رغم المخاطر التي يمكن ان تتعرض لها اميركا، فان هناك بعض صناع السياسة في واشنطن ممن يرحبون بأن تقود اميركا عملية التدخل لاسقاط صدام حسين. اذ يقول روبرت نيومان السفير الاميركي السابق في السعودية وأفغانستان والمغرب انه يعتقد "ان لا أي شيء يمكنه النجاح في الاطاحة بصدام حسين سوى عمل عسكري يقوم به المجتمع الدولي". وفي نهاية القرن العشرين، ما هي واقعية الانقلاب؟ يقول لوكاس دينستون من مكتبة الكونغرس الاميركي: "إن عدد الحكومات التي تتغير بالطرق والاجراءات العسكرية يفوق عدد تلك التي تتغير عن طريق الانتخابات". ويضيف ان الاحصائيات المتوفرة لديه تشير الى ان حوالي 75 في المئة من الانقلابات تنجح، بالمقارنة مع حوالي ثلث حروب العصابات او الاضطرابات المدنية. ففي افريقيا شهدت 34 دولة، من مجموع دول القارة الاحدى والخمسين، انقلاباً واحداً على الأقل. وفي آسيا، باستثناء الشرق الاوسط، شهدت ثلاث عشرة دولة انقلابات من بين عشرين دولة. اما الشرق الاوسط فكان نصيبه اقل من ذلك، مع انه حدثت في السنوات الماضية انقلابات ناجحة في كل من الجزائر وليبيا ومصر وسورية والعراق واليمن. ولكي ينجح الانقلاب لا بد من اتباع عدد من القواعد الاساسية. فعندما حاولت هيئة الاركان السوفياتية مع آخرين الانقلاب على ميخائيل غورباتشوف في العام الماضي، طلب رئيس تحرير إحدى الصحف الاميركية مني ان اكتب تحليلاً لما حدث خلال 24 ساعة، فقلت له امهلني ثلاثة ايام، لأنني اعتقد ان الانقلاب سيكون فشل بحلول ذلك الوقت. وما حدث هو ان الانقلاب اخفق بعد مضي مدة اقل حتى من الايام الثلاثة، اذ ان الانقلابيين لم يقطعوا الاتصالات مع العالم الخارجي، ولم يسيطروا على اجهزة الاعلام ولم يعرضوا "الزعيم" الجديد على شاشات التلفزيون ولم تحتل قواتهم العاصمة. ويعتقد إدوارد لوتفاك مؤلف كتاب: "الانقلاب: دليل عملي" ان ارجح الناس الذي يمكن ان يقودوا انقلاباً ناجحاً في العراق هم افراد الطبقة المتوسطة من المؤسسة الحاكمة، اي الضباط المستاؤون الذين سيجدون في ذلك فرصة سريعة للارتقاء في سلم القيادة، والضباط الذين يقودون قوات تكفي لاحتلال بغداد. ويعتقد المؤلف البريطاني المولد، الذي يدرس الآن في جامعة جورجتاون انه اذا ما تمردت عناصر كافية من الحرس الجمهوري العراقي على صدام حسين، فان القوى الاخرى في البلاد ستسير وراءها وتدعمها في جهودها لتغيير النظام. ماذا سيحصل بعد القتل؟ صدام حسين يتمتع، بالطبع، بحماية قوية من انصاره التكريتيين، وأيضاً من مجموعة من العناصر العسكرية والمدنية التي تدين له بكل شيء والتي تدرك جيداً انه ليس هناك اي شيء يمكن كسبه من الاطاحة به، بل هي تعرف انها ستخسر كل شيء. وكما كان الحال في اغتيال انديرا غاندي رئيسة وزراء الهند، فان اكثر المؤامرات نجاحاً هي تلك التي يشترك فيها شخص عادي بسيط قريب من صدام، مثل احد افراد حرسه الشخصي. الا ان الحرس الشخصي ليس الامكانية الوحيدة. وفي هذا الصدد علينا ان نتذكر ان ستالين كان يخشى دائماً ان يغتاله احد أطبائه. وفي هذا منطق سليم: فالطبيب لديه فرصة اكثر من غيره من الناس لارتكاب "خطأ" لا يمكن اصلاحه. وحين خطط الروس مؤامرتهم للاطاحة بالرئيس الافغاني حفيظ الله قرروا استخدام السم، لذا جندوا طباخ الرئيس. اما صدام فهو لا يتناول الا الوجبات التي يعدها له أقرب الناس اليه: زوجته او اقاربه او التكريتيون الذين يعرف انهم يتفانون في سبيله. والقتل في مكان عام، مثلما حدث لانديرا غاندي، سيحتاج الى متطوع "انتحاري" سيفقد في حكم المؤكد حياته، او على أقل تقدير حريته. ولربما كان الرئيس العراقي في اضعف مواقفه اثناء نومه. لكنه يغير مكان نومه بصورة منتظمة مما يعني ان تجنيد احد حراسه الشخصيين للمهمة سيروق كثيراً لمن يودون التآمر عليه. ومن الحقائق المعروفة في عالم المخابرات ان الذين يتجسسون او يخونون او يرتكبون جرائم سياسية اخرى مثل الاغتيال في مقابل المال اهل للاعتماد عليهم اكثر كثيراً من اولئك الذين يقومون بذلك لأسباب "ايديولوجية" او "اخلاقية" - وهذا هو السبب الذي دفع "السي.آي.أيه" عندما حاولت اغتيال الرئيس الكوبي فيديل كاسترو الى اتخاذ قرار بأن المافيا افضل لهذه المهمة من الذين يعارضون كاسترو من الكوبيين. إذن كيف يمكن تنفيذ القتل مع احتفاظ المنفذ بأي أمل بالنجاة والهرب بعد ذلك؟ على رغم ما يقوله الروائيون فانه ليس هناك شيء اسمه كاتم للصوت مئة في المئة، مع ان هناك ادوات تقلل من الصوت وتخمد الضجة الصادرة عن الطلقة. كما ان تلك الاجهزة "الكاتمة" تضيف الى طول المسدس حوالي الضعفين، مما يعني انه سيكون من الصعب على القاتل اخفاء المسدس في سرواله مثلاً. وإذا كان القاتل "أيديولوجياً" بدلاً من قاتل ينفذ المهمة في مقابل "المال"، فان هذا يعني شخصاً مثل سائق الشاحنة الانتحاري الذي نسف مقر قيادة مشاة البحرية الاميركية في بيروت. اما احد الحراس الشخصيين فان في وسعه، باستخدام قنبلة يدوية، ان يقضي على صدام وأعضاء حكومته وعلى نفسه ايضاً. ولكن، مثلما يقول ريتشارد هيلمز: "ما الذي سيحصل بعد ذلك؟" لا بد من سيناريو جاهز: قطع كل الاتصالات مع العالم الخارجي الى ان تستتب الامور للنظام الجديد في بغداد ويمسك بمقاليد السلطة، وان يكون هناك زعيم جديد مستعد للظهور على شاشة التلفزيون لاعلان بزوغ الفجر الجديد في العراق. تبقى القضية الاساسية التي تحرص عليها الدول المعنية او المهتمة او الساعية الى الاطاحة بالنظام العراقي الحالي، وهي: كيف يمكن اسقاط صدام حسين وفي الوقت نفسه منع تفكك العراق وقيام حروب اهلية داخلية فيه بين الطوائف والقوى المختلفة، كما نشهد الآن في يوغوسلافيا؟ كيف يمكن انقاذ العراق من صدام ونظامه والمحافظة، في الوقت نفسه، على وحدة هذا البلد؟ ما نستطيع ان نؤكده، استناداً الى مصادر اميركية وثيقة الاطلاع، ان هذه الامور تدرس بصورة جدية حالياً في واشنطن وكذلك في عواصم دول اخرى معنية مباشرة بالتغيير في العراق. وهذه الامور هي جزء لا يتجزأ من خطة تغيير النظام في بغداد. الطريق القصير "كان صدام حسين شوكة في خاصرة البيت الابيض، اما الآن، ومعركة انتخابات الرئاسة في عزها، فقد اصبح اكثر من شوكة". بهذه العبارة لخص هيلموت سوننفيلد، الخبير في معهد واشنطن لسياسات الشرق الاوسط، الشعور في واشنطن تجاه استمرار بقاء صدام في الحكم. لكن صدام حسين ليس مجرد "مشكلة اميركية انتخابية" بل هو مشكلة عراقية داخلية، وهو مشكلة عربية، بل مشكلة شرق اوسطية، لا بد من تسويتها بشكل حاسم ونهائي لتأمين الاستقرار في المنطقة وإعادة العراق الى "وضعه الطبيعي". ماذا ينبغي العمل لاسقاط صدام حسين؟ "الوسط" التقت 3 خبراء غربيين مهتمين بالشؤون العراقية ويتابعون عن كثب ما يجري في هذا البلد وهم مطلعون على الجهود الدولية المبذولة حالياً لوضع حد نهائي "لمشكلة" صدام حسين. الخبراء هم: فيليب ميتشيل المتخصص بالقضايا العسكرية في المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية في لندن، طوني بنكس المحلل السياسي في هيئة تحرير مجلة "جينز" المتخصصة بقضايا الدفاع، والألماني هانس كوبييتز المتخصص في قضايا الشرق الاوسط في مؤسسة "كونترول ريسك" التي ترصد الاوضاع الامنية والاقتصادية في بلدان العالم الثالث وتقدم تقارير شهرية، على درجة عالية من السرية، الى مؤسسات الاستثمار الدولية. يعتقد طوني بنكس ان دول التحالف، وعلى رأسها الولاياتالمتحدة الاميركية، تدفع حالياً "ثمن الخطأ" الذي ارتكبته فور اعلان اتفاق وقف اطلاق النار في نهاية شباط فبراير 1991 حين حجبت المساعدة العسكرية والسياسية عن المعارضة العراقية في وقت كان من الممكن فيه اجراء تغييرات جذرية في العراق. اما اليوم فيرى بنكس انه يجب، قبل كل شيء، تحديد حجم التغيير السياسي الذي تأمل دول التحالف بإجرائه: هل يشمل التغيير الرأس الأعلى للنظام، اي صدام حسين وكبار معاونيه من اقاربه وأبناء مسقط رأسه تكريت فقط، ام انه يشمل نظام حزب البعث الحاكم في بغداد كله، ويرجح بنكس ان الجهود المبذولة تستهدف الاطاحة بصدام حسين وعصبة من العسكريين المقربين منه، والذين لا يمكنهم البقاء في السلطة اكثر من أربع وعشرين ساعة بعد سقوط زعيمهم. اما عن سبل الوصول الى هذا الهدف الذي طالما ردد الاميركيون انه هدف شرعي، فيقول بنكس: "ان جميع الطرق تؤدي الى روما، لكن منها القصير والسريع ومنها الطويل والوعر. والمرجح هو الطريق القصير لأن بوش لم تبق لديه سوى اسابيع قليلة لاستعادة شعبيته قبل موعد الانتخابات الرئاسية، ولأن المجتمع الدولي والأممالمتحدة لم يعد بإمكانها التسامح مع انتهاكات العراق لشروط وقف اطلاق النار". معارضون داخل النظام أول ما ينبغي القيام به، وفقا لهؤلاء الخبراء، لاحداث التغيير في العراق، هو الاستعانة "بجواسيس" دول التحالف داخل العراق وأجهزة التجسس والمراقبة والتنصت المختلفة والمتطورة للغاية والمركزة حول عدد كبير من المواقع في العراق، لرصد مكان وجود صدام حسين وشن هجوم مركز عليه. لكن فيليب ميتشيل، الذي يعتقد ان اغتيال صدام حسين هو الحل الامثل، "وان دول التحالف تدرس بصورة مستمرة امكان مهاجمة احد معاقله" يرى ان عملية من هذا النوع تتطلب قدراً عالياً من المعلومات التي يصعب على الاجهزة الغربية توفيرها. وعلى هذه الاجهزة ضبط تحركات صدام ساعة بساعة، بل ثانية بثانية. وهذا امر ليس مستحيلاً لكنه صعب جداً، على حد قوله. اما الألماني هانس كوبييتز، الذي عاد لتوه من زيارة للكويت وشمال العراق، فيقول "ان معظم الابنية التي يستخدمها صدام حسين محصنة ضد الاسلحة النووية، وبالتالي يصعب تدمير هذه المعاقل بأسلحة تقليدية. لكن هذا لا يعني ان الحظ لا يمكن ان يحالف هجوماً عسكرياً ناجحاً". ويضيف كوبييتز "ان هناك دائماً امكانية للتخلص من احد الزعماء الديكتاتوريين، لكن ذلك كان دائماً امراً صعباً. فخلال الحرب العالمية الثانية حاول الحلفاء قتل هتلر. والمحاولات التي تعرض لها الجنرال فرانكو في اسبانيا كثيرة، من الداخل ومن الخارج. وبعد ثلاثين سنة ما زال كاسترو في السلطة، وهو على مرمى حجر من مباني البنتاغون الاميركي والسي.آي.ايه. اما بالنسبة الى صدام حسين فلم يتمكن العملاء المحليون، وهم من قلب النظام، من تتبع تحركاته بصورة دقيقة وإبلاغ الحلفاء بها". وفي هذا المجال يقول بنكس: "ان اجهزة الرصد التكنولوجية التابعة لقوات التحالف اثبتت فاعلية كبرى اثناء الحرب. لكن العملاء العاملين على الأرض اظهروا قصوراً واضحاً في جمع المعلومات وأساليب ايصالها الى قياداتهم في الوقت المطلوب، وذلك بسبب طبيعة تركيبة المؤسسة الحاكمة في العراق". لكن بنكس يعتقد "ان العراقيين كانوا خلال الحرب أقل استعداداً للتعاون مع هذه الاجهزة الغربية في هذه المجالات. اما اليوم وبعد الضعف الذي اصاب النظام العراقي وهيبته والويلات والمصائب التي سببها للكثيرين من المواطنين ورجال الحكومة خلال مرحلة ما بعد الحرب، ربما اصبح بالامكان ايجاد عناصر عراقية اكثر استعداداً للتعاون وتقديم المعلومات، ليس خدمة لأهداف دول التحالف فقط، بل خدمة لمصالح الشعب العراقي نفسه. ووفقاً للمعلومات التي تتلقاها دول التحالف من مصادر مختلفة من داخل العراق، فان عدد المعارضين لصدام وسياساته، داخل المؤسسة الحاكمة والجيش، اخد يتزايد في الاشهر القليلة الماضية. وهؤلاء المعارضون من اهل الداخل على قناعة تامة بأن لا مجال لأية صفقة او مساومة مع صدام حسين، وان لا حل الا بالاطاحة به وبالمجموعة المرتبطة به". ويقول فيليب ميتشيل "ان عملية اغتيال صدام حسين يجب ان تتم بأيدٍ عراقية، وربما عربية، لأن اجهزة الدول الغربية السرية لا ترغب في رؤية نفسها متورطة مباشرة في عمل من هذا النوع". ويعتقد ميتشيل "ان الادارة الاميركية تدرس جدياً احتمالات تنفيذ عملية من هذا النوع يقوم بها فريق او شخص من العراق". ولا يتفق ميتشيل في الرأي مع الذين يعتقدون ان استمرار صدام حسين في السلطة وانتهاكه قرارات الأممالمتحدة يهدد حملة بوش الانتخابية، لأن القضايا الخارجية، التي لمع بوش في ادارتها والتعامل معها، لم تكن في اي يوم من الايام العامل الحاسم في الانتخابات الرئاسية او البرلمانية الاميركية. ان ما يحدد نجاح او فشل المرشح للرئاسة في الولاياتالمتحدة الاميركية هي القضايا الداخلية التي تهم المواطن الاميركي وتمس مصالحه اليومية مباشرة. وهذا الامر يفسر انهيار شعبية بوش، حسب استطلاعات الرأي الاخيرة، لأنه اولى القضايا الخارجية اهتماماً اكثر من القضايا الداخلية، او انه على الأقل نجح على المستوى الديبلوماسي ولم ينجح بالقدر نفسه على المستويين الاقتصادي والاجتماعي في الداخل. اما كوبييتز فيذهب الى أبعد من ذلك ويقول ان النجاحات التي حققها بوش في الساحة الدولية تتركز في أمرين اثنين: الأول هو تمكنه من مساعدة الاتحاد السوفياتي والكتلة الشرقية على الانهيار بصورة سلمية وهادئة! والثاني نجاحه بجمع اطراف النزاع في الشرق الاوسط على طاولات المفاوضات، وتهديده الفعلي لاسرائيل بشأن المستوطنات والقروض بصورة غيرت المزاج الاسرائيلي وأتاحت لحزب العمل الفوز في الانتخابات. وهذا الموقف لم يتجرأ اي رئيس اميركي على اتخاذه بعد موقف ايزنهاور من حرب السويس عام 1956. المصداقية لا تتجزأ ولكن خبراء غربيين آخرين يعارضون رأي كوبييتز هذا اذ يعتبرون ان جهود بوش لاقامة اكبر تحالف عربي ودولي منذ الحرب العالمية الثانية لانهاء الاحتلال العراقي للكويت، تشكل "انجازاً" سياسياً وأمنياً واستراتيجياً كبيراً: فالمسألة لم تكن، فقط، تحرير الكويت بل منع صدام حسين من السيطرة الفعلية على منطقة الخليج. ولم يكن بالامكان تحقيق ذلك من دون تحالف عربي ودولي كبير كذلك الذي قام ضد صدام ومخططاته التوسعية في المنطقة. لكن طوني بنكس يعتقد ان مصداقية الرئيس بوش خلال الحملة الانتخابية "لا تتجزأ" "فلا يمكنه ان يكون ناجحاً في الشرق الاوسط والاتحاد السوفياتي وفاشلاً في بغداد". لذلك، وعلى رغم الاتفاق الذي تم اخيراً بين الأممالمتحدةوالعراق على تفتيش وزارة الزراعة والري فان القطع البحرية الاميركية لا تزال ترابط في المنطقة. كما تم تعزيز الوجود العسكري والامني الاميركي هناك. ويرجح بنكس ان تلجأ الادارة الاميركية خلال فترة الصيف الى شن هجمات جوية لتدمير ما تبقى لدى العراق، او ما اعاد بناءه، في المجالات العسكرية. ويستند بنكس الى تقارير وصلت من المنطقة تؤكد "ان العراق لا يزال يملك عدداً كبيراً من صواريخ سكود ارض - ارض وقدرات حربية مهمة". ويستبعد بنكس قصف المرافق الاقتصادية لأن ذلك سيؤدي الى سقوط عدد كبير من الضحايا المدنيين. لكن ميتشيل يرى انه لا بد من اجل اضعاف وإسقاط النظام من توجيه الضربات الى المرافق الاقتصادية والعسكرية في آن معاً، لأن العراق اعاد بناء الجسور ومحطات تكرير النفط وأصبح على استعداد لانتاج نصف ما كان ينتجه قبل الحرب. بل تقول المعلومات انه بدأ تصدير النفط بصورة تكفيه للحفاظ على سير آلة الدولة بصورة معقولة. ويتم هذا التصدير عن طريق الأردن الذي رفض اخيراً وضع مراقبين تابعين للأمم المتحدة على حدوده مع العراق، وعن طريق تركيا التي يعاني السياسيون فيها من انقسامات حادة حول الموقف من العراق والأكراد وقضايا المنطقة برمتها. وإحدى النتائج العلنية لهذه الانقسامات هي مسارعة رئيس الوزراء سليمان ديميريل الى التأكيد بأن حكومته لن تسمح باستخدام القواعد الجوية لقصف العراق. كذلك هناك امكانية لتصدير النفط العراقي عن طريق ايران. فقد اقام البلدان قبل ايام علاقات بريدية. ومن الممكن تطوير هذه العلاقات في المستقبل. ويضيف ميتشيل "ان قصف المرافق الاقتصادية العراقية اكثر فاعلية من الحصار الاقتصادي الذي اثبت انه غير قادر على اسقاط نظام او حاكم ديكتاتوري. ولا بد للإدارة الاميركية من قصف هذه المرافق الاقتصادية في اطار عملية انهاء نظام صدام". ويرى كل من بنكس وكوبييتز ان الضربة العسكرية للعراق، سواء ضد المنشآت العسكرية او الاقتصادية واردة جدياً. دور المعارضة اي دور تستطيع المعارضة العراقية، بشقيها الشيعي في الجنوب والكردي في الشمال - والتي تعمل جهات دولية وعربية حالياً على توحيدها ودعمها - ان تلعبه في عملية اسقاط صدام حسين؟ يقول فيليب ميتشيل ان المعارضة العراقية اثبتت، حتى الآن، انها "اضعف من ان تتمكن وحدها" من اسقاط نظام صدام حسين. فالأكراد على رغم كل جهودهم ومحاولاتهم، لم يتمكنوا طوال السنوات الماضية من اضعاف النظام في بغداد، اما الشيعة في الجنوب فلا يشكلون خطراً حقيقياً على النظام. فليس لديهم لا القوة السياسية ولا القوة العسكرية للاطاحة بصدام. ويؤكد كوبييتز ان المسؤولين الاميركيين لم يفكروا حتى الآن بالاعتماد على المعارضة لاسقاط صدام "فهم لديهم صعوبة بالغة في التعامل مع الشيعة، سواء كانوا من لبنان او من ايران او من اية دولة اخرى". اما بنكس فيقول "ان تجربة الاميركيين مع الشيعة في لبنان وإيران جعلت الغرب يخشى مساعدتهم في العراق. والغرب يخشى ان يلجأ الشيعة فور وصولهم الى اهدافهم في بغداد الى التحالف مع جماعات ايرانيةولبنانية معادية للغرب، اضافة الى الحركات الاصولية في العالمين العربي والاسلامي". لكن على رغم التردد الاميركي في الاعتماد على المعارضة العراقية لاسقاط صدام حسين، فقد علمت "الوسط" ان هناك اتصالات يقوم بها بعض دول التحالف ضد العراق تهدف الى تأمين وضع سياسي واقتصادي في شمال العراق يسمح بجمع اطراف المعارضة من الداخل والخارج في تلك المنطقة في اطار جيش موحد يهيئ لعملية عسكرية واسعة النطاق تنتهي بالزحف الى بغداد. ولمواجهة القدرات العسكرية الكبيرة للجيش العراقي سيتم تزويد قوات المعارضة بصواريخ مضادة للطائرات وأخرى مضادة للدبابات، ويترافق نشاطها مع عمليات جوية تقوم بها دول التحالف ضد المنشآت العسكرية والاقتصادية في العراق. هذا فضلاً عن الاصرار على منع تحليق الطائرات الحربية العراقية غير المروحية في اجواء البلاد. وعلمت "الوسط" ان وضع هذه الخطط موضع التنفيذ سيبدأ قبل الانتخابات الاميركية في مطلع تشرين الثاني نوفمبر المقبل. وتشكل الاجتماعات التي عقدت يومي 29 و30 تموز يوليو الماضي في واشنطن بين وفد من المعارضة العراقية وعدد من المسؤولين الاميركيين ابرزهم وزير الخارجية جيمس بيكر ومستشار الرئيس بوش لشؤون الامن القومي برنت سكوكروفت، تشكل هذه الاجتماعات مقدمة لادخال المعارضة العراقية فعلياً في عملية اسقاط صدام حسين. وقد ضم وفد المعارضة العراقية الزعيمين الكرديين جلال الطالباني ومسعود بارزاني والسيد محمد بحر العلوم وهو رجل دين شيعي ورئيس الوزراء السابق عارف عبدالرزاق سني وصلاح الشيخلي عضو المؤتمر الوطني العراقي وليث كبة شيعي. لكن، كما ذكر مسؤولون اميركيون وبريطانيون مطلعون على الشؤون العراقية لپ"الوسط" فان "افضل وأضمن صيغة لاسقاط نظام صدام حسين هي قيام تعاون وثيق بين قوى المعارضة وعناصر من داخل النظام نفسه، وخصوصاً من المؤسسة العسكرية. ومثل هذا التعاون ليس سهلاً، لكن بامكان عملية عسكرية كبيرة ضد العراق وضد مواقع معينة محددة في بغداد وضواحيها ان تسهل او تمهد لتلاقي القوى الساعية الى اسقاط صدام، سواء كانت من داخل النظام او من خارجه". وعلمت "الوسط" من مصادر وثيقة الاطلاع في واشنطن ان عدداً من الخبراء الاميركيين المعنيين بالشؤون العراقية رفعوا اخيراً الى الادارة الاميركية مجموعة اقتراحات تتعلق بكيفية اسقاط صدام. أبرز هذه الاقتراحات: 1 - اتخاذ قرار رسمي بالتشاور بين دول التحالف الرئيسية لتحويل منطقة كردستان شمال العراق الى مقر لتجميع قوى المعارضة العراقية. 2 - انشاء قوة مسلحة ضاربة تضم ضباطاً وعسكريين عراقيين من الذين وقعوا في الاسر خلال حرب الخليج، وكذلك مقاتلين اكراداً وشيعة، وتدريب عناصرها على ايدي خبراء وتزويدها بأسلحة ومعدات حربية متطورة. وخصوصاً صواريخ مضادة للطائرات والدبابات، والتفاهم مع قيادتها على "توقيت وظروف" التحرك ضد النظام. وفي تقدير بعض الخبراء انه يمكن تأليف قوة ضاربة تضم بين 30 و50 الف مقاتل مدربين تدريباً جيداً، يضاف اليهم عدد مماثل من العناصر القادرة على حمل السلاح. 3 - تأمين الحماية الفعلية لشمال العراق وعدم تمكين صدام حسين - الذي يحشد حالياً ثلثي جيشه في تلك المنطقة - من الدخول اليها وضرب الاكراد والقوى الاخرى المعارضة له والمقيمة فيها. 4 - عدم القيام بأي عمل عسكري ضد نظام صدام الا بالتشاور والتنسيق مع بعض دول التحالف، اذ لا تستطيع هذه القوة الضاربة ان تصل الى بغداد وتسقط النظام فيه الا اذا تأمنت لها حماية جدية اميركية - اوروبية، والا اذا جاء تحركها من ضمن عمليات عسكرية كبيرة موجهة ضد العراق. ويمكن القول، استناداً الى حصيلة هذه الآراء والمعلومات، ان التحرك الفعلي لاسقاط صدام حسين بدأ، لكن ليس واضحاً حتى الآن متى ستكون "ساعة الصفر"، اي متى سيبدأ التنفيذ الفعلي لعملية تغيير النظام في بغداد.