عندما اراد الفيلسوف التجريبي الانكليزي فرنسيس بيكون 1561 - 1626 وضع منهج بحث جديد وطريقة جديدة للتفكير مبنية على اسس معرفية مخالفة لتلك الاسس التي يقوم عليها التفكير المدرسي السكولاتي السائد في عصره آنذاك، عندما اراد بيكون فعل ذلك فان اول خطوة قام بها هي محاولة كشف تلك الامور والعوامل التي تقف امام التفكير السليم وبالتالي استجلاء الحقيقة المحجوبة بتلك الامور والعوامل، وقد سمى بيكون هذه الامور وتلك العوامل الحاجبة للتفكير السليم ومن ثم الحقيقة الموضوعية "الاوهام الاربعة"، وصنفها في اربع مجموعات هي: اوهام الكهف، اوهام الجنس، اوهام السوق، اوهام المسرح. هذه الاوهام التي استفاض بيكون في شرحها هي الاسباب الرئيسية، كما يعتقد، التي تقف وراء غموض الفكر وهشاشة المنهج واختفاء الحقيقة في غيابات الجدل ومتاهات المحاجة المدرسية البحتة. وبالمنطق نفسه تقريباً نستطيع القول ان هنالك مجموعة من الاوهام تقف في طريق العقل العربي ومن ثم تعطل هذا العقل وتجعله سجين اطر معينة وأسس محددة، فيصبح بالتالي غير قادر على استجلاء حقيقة الامر من حوله، فاذا هو كيان لذاته وبذاته لا علاقة له بالمحيط من حوله، ومن ثم تنتفي فاعليته وقدرته على التغيير واعادة صنع المحيط الذي هو هدف كل معرفة حية. في مثل هذه المقالة السريعة لا نستطيع بطبيعة الحال ان نناقش العقل العربي واوهامه بشكل كامل وكلي، اذ ان ذلك يستدعي مشروعاً فكرياً متكاملاً، ولكن كل ما نستطيع فعله هو اخذ جزء او فرع من تفرعات هذا العقل ونتاجه ونحاول ان نتبين، ولو بشكل سريع، تلك الاوهام التي تحجب الرؤية عنه فتجعله شبيهاً بمريض نفسي بالفصام يعيش بنفسه ولنفسه من دون احساس بالحركة من حوله وبالتالي عدم القدرة على الاستجابة لهذه الحركة. سوف نتحدث بشكل موجز وسريع عن الخطاب السياسي العربي المعاصر، بصفته احد نتاجات العقل العربي، ونتبين تلك الاوهام التي تجعله عاجزاً عن الحركة والاستجابة لتلك التغيرات والمتغيرات التي تدور حوله ومن ثم تقوقعه على ذاته والدوران حول نفسه من دون تقدم او فاعلية. وعندما نقول الخطاب السياسي العربي المعاصر، فان المعنى هنا لا ينصرف الى آيديولوجية معينة او عقيدة سياسية محددة بل ان الذهن منصرف الى كل الايديولوجيات وكل العقائد السياسية من قومية واسلامية واجتماعية ونحوها. فالتحليل البنيوي، ان صحّ التعبير، يضع كل هذه الايديولوجيات والعقائد في سلة واحدة حيث انها، على رغم اختلاف الفكرة، الا انها ذات هيكل واحد وأسس واحدة ومنطلقة من ذات العقل بكل محدداته وأطره، اذن فالخطاب السياسي العربي يعني وبكل بساطة وايجاز منتجات العقل العربي في مجال الظاهرة السياسية، او بعبارة اوجز، هو العقل السياسي العربي او العقل عندما يتسيس نتيجة الانخراط في الظاهرة السياسية من تفسير وتقويم وممارسة بغض النظر عن التشعبات الايديولوجية لمثل هذا الخطاب. عند النظر الى هذا الخطاب، وفق الفهم السابق، نجد ان هنالك مجموعة من الاوهام تكبله وتقيده وتجعله مجرد انتاج ذاتي لنفسه في قرقعة معينة لا يمكن له الخروج منها، ان اراد، وبالتالي تعطل القدرة والفاعلية لديه، الا اذا لفظ هذه الاوهام وأصبح على وعي بها، اذ من دون الوعي بالشيء لا يمكن لفظه والتخلص منه في المقام الاول، هذه الاوهام في اعتقادنا تنقسم الى خمس مجموعات اساسية ينخرط في كل مجموعة منها كم من التفاصيل التي يربطها رابط معين هو المحور الذي تدور حوله المجموعة والمتحدد في اسمها الذي اطلقناه عليها، هذه المجموعات الخمس من الاوهام هي: وهم السيادة، وهم المؤامرة او العداء، وهم السلطة، وهم الفرادة، وأخيراً وهم الزعامة. هذه في اعتقادنا اهم الاوهام التي تشكل حجاباً وستاراً يفصل بين الخطاب السياسي العربي المعاصر وبين الواقع السياسي المتحرك، وبالتالي تحرم هذا الخطاب القدرة على التأثير والفاعلية من حيث عدم القدرة على التفسير والتقويم ومن ثم التحرك، اذ لا تحرك سليماً من دون فهم سليم وادراك سديد، وهذا هو علة الخطاب السياسي العربي في مجمله: ادراك مختل وحركة اكثر ختلالاً. وهم السيادة والاحلام الكبيرة أول هذه الاوهام هو ما اطلقنا عليه اسم وهم السيادة، وبه نعني ذلك الهاجس المسيطر على الخطاب السياسي العربي خصوصاً والخطاب العربي جملة وتفصيلاً، سواء بوعي او من دون وعي، من انه لا قيام للعرب ولا نهضة لهم ولا فاعلية لهم بالتالي الا اذا كان ذلك مرتبطاً بوجه من الوجوه بنوع من السيادة العالمية، انظر الى كافة تيارات الخطاب عموماً والسياسي خصوصاً فانك ستجد مثل هذا الوهم قابعاً هناك خلف كل كلمة وراء كل جملة وفي ثنايا كل نص. فالقائل بالاسلامية يبدأ خطابه غالب الاحيان بالقول: "اذا ارادت الامة الاسلامية العودة الى سابق عهدها من العزّ والمنعة وقيادة العالم فعليها ان…"، والقائل بالقومية يبدأ خطابه بالقول: "اذا ارادت الامة العربية العودة الى سابق عهدها من العز والمنعة وقيادة العالم فعليها ان…"، والقائلون بالايديولوجيات الأخرى، من يسار ويمين وغيرهما، يبدأون خطابهم بالقول: "لا حل لمشكلات مجتمعاتنا ومن ثم نهضتنا وعودتها الى مسرح الاحداث والمنافسة على قيادة العالم الا اذا…". وعلى ذلك قس كل خطاب فرعي عربي بغض النظر عن لونه الايديولوجي او مشربه العقائدي، هذا الوهم، وهم السيادة او وهم الاحلام الكبيرة، يشكل في اعتقادنا عائقاً رئيسياً من عوائق تحقيق الاحلام الكبيرة ذاتها، وقد يقول قائل: "وما العيب في الاحلام الكبيرة وطلب السيادة، اليس ذلك حق مشروع لكل امة؟" نعم ان مثل هذا الاعتراض وجيه ولكنه قابل للدحض بصورة كبيرة، ان تسعى الى السيادة والنهضة من خلال الانجاز اولا غير ان تسعى الى السيادة والنهضة من خلال مجرد ايديولوجيا وكلمات وجدانية تتحدث عما يجب ان يكون وما لا يكون. لقد حققت اميركا واليابان والمانيا المعاصرة سيادتها ونهضتها من خلال ادراكها لقيمة الانجاز المتمثل في تصنيع او بناء او عمل، وليس من خلال ايديولوجيات مجردة تقف عند حدود ما يجب ان يكون من دون تخطي تلك الحدود ومن ثم العيش في ليل ايديولوجي مجرد يحجب الرؤية ويجهض الاحلام الكبيرة، ان الخطوة الاولى في تحقيق الاحلام الكبيرة ليست في مجرد "أدلجة" هذه الاحلام ولكن في بنائها من خلال الانجاز ولو كان بسيطاً وبطيئاً في مساره، مشكلة ابناء العرب انهم يريدون تحقيق الاحلام الكبيرة في اطار هاجس السيادة الملح بشكل سريع وآني وفق مفردات الخطاب وليس وفق مفردات الانجاز وهذا وهم ووهم كبير. لنحاول تحقيق شيء من الانجاز ولو بسيطا، بعيداً عن هاجس السيادة وستكون السيادة من خلال ذلك هي الانجاز النهائي ولكن من دون اوهام او هواجس. المؤامرات ثاني هذه الاوهام هو وهم المؤامرة والعداء، فالخطاب السياسي العربي، خصوصاً الغارق في يم الايديولوجيا المفصولة الجذور عن الزمان والمكان، يحاول ان يخلق نوعاً من آليات الدفاع عن الذات والذات هنا هي ما يصوره الخطاب وليس الذات منظوراً اليها موضوعياً وذلك من خلال اعطاء تفسير بسيط لدرجة السذاجة للاخفاقات الموضوعية عن طريق ارجاع ذلك الى مؤامرات الاعداء الذين يقبعون في كل مكان في الداخل او الخارج، فالخطاب في هذه الحالة لا يستطيع مواجهة نفسه وادراك ان الخلل انما يقبع في ذاته وآليات ادراكه لأن في ذلك تدميراً لذات الخطاب المرتقي الى درجة القداسة ومن ثم يوجه النقد واللوم الى كل ما هو خارجه كأي مريض نفسي مصاب بالفصام او عقد الاضطهاد والعظمة، الخطاب لا خلل فيه، و الذات كما يتصورها هذا الخطاب سليمة ومتكاملة، والعيب كل العيب في ما هو خارج الذات وخارج الايديولوجيا، وهذا "الخارج" هو كل ما لا يتفق مع الطروحات المتبناة وما لا يتمشى مع مفردات ادراكها. لم تتحقق النهضة لأن الاعداء متربصون في كل مكان وزمان، ولم نحقق شيئاً من السيادة لأن المؤامرات تحاك في الظلام، تهزمنا اسرائيل نتيجة المؤامرة وتتخذ ضدنا القرارات نتيجة العداء المستحكم والمؤامرة المستمرة. كل شيء لا ذنب لنا فيه بل هو آت من الخارج، والمطلوب هو القضاء على هذا الخارج اذا كان لنا امل في نهضة وسيادة، وذلك لا يكون بطبيعة الحال نتيجة استمرار المؤامرة وتكتمل الحلقة بهذا الشكل بحيث ليس لنا الا الصبر والسلوان حتى ينهار هذا الخارج بشكل من الاشكال او بمعجزة خارقة فتنفتح امامنا ابواب المسرح وليس على الخطاب التليد والذات المقدسة الا الانتظار والترقب لأنه ليس لها الا ذلك. هكذا يقول الخطاب وهكذا يترسخ الوهم. المهمة التاريخية والزعامة والوهم الثالث هو وهم السلطة، فمعظم مفردات ونصوص الخطاب السياسي العربي المعاصر على اختلاف المشارب الايديولوجية يتضمن - صراحة او ضمناً - مقولة مشتركة الا وهي الزعم او الاعتقاد بأن الطريق الى اي تغيير سريع وآني يضع "الامة" - على اختلاف تعريفاتها - على طريق النهضة والعز والسؤدد، انما يكمن في خطوة اولى جوهرية الا وهي الحصول على السلطة السياسية ومن ثم اجراء التغيير المطلوب المتمشي مع مفردات الايديولوجيا المتبناة والمشروع المتصور، وفي اعتقادي ان مثل هذه المقولة تشكل وهماً كبيراً من الاوهام، لأنها بشكل او بآخر تخلط العلاقة بين الاجتماعي والسياسي فتجعل من السبب الرئيس نتيجة ومن النتيجة الرئيسة سبباً، ان السياسة وفي التحليل الأخير وفق تنظير بعيد المدى، هي تابع للبعد الاجتماعي وليس العكس، نعم هنالك تجارب معينة نرى فيها السياسة السلطة وقد انخرطت في عملية التغيير الاجتماعي والثقافي ولكن مثل هذه التجارب كان مصيرها الفشل في حالة استمرار هيمنة السياسي على الاجتماعي بشمولية معينة الاتحاد السوفياتي مثلاً او كان مصيرها النجاح في حالة كون السلطة مجرد مهماز او حافز للتغيير الاجتماعي، ومن ثم ترك كل ذلك لآلية المجتمع ذاته اليابان مثلاً وذلك دعم لمقولتنا في تبعية السياسي للاجتماعي. بمعنى آخر، وفي كل الاحوال، فان الاجتماعي يستوعب السياسي بشكل من الاشكال، وهذا ما لم يستطع الخطاب السياسي العربي المعاصر استيعابه او تمثله وبقيت محورية السياسة السلطة ركناً من اركانه بثبات معين بل وقدسية معينة اوصلته الى درجة الوهم، اذ ان ثبات المفاهيم ليس من طبيعة الامور وهكذا انشأ هذا الوهم. والوهم الرابع من اوهام الخطاب العربي المعاصر عموماً السياسي خصوصاً هو ما نسميه وهم الفرادة والتميز، فالامة، عربية كانت او اسلامية او وطنية قطرية، ليست كغيرها من الامم، وهذا طرح سليم اذ ان كل الامم تتميز عن بضعها البعض بشكل من الاشكال، وبالتالي فانه لا ينطبق عليها ما ينطبق على بقية الامم، وهذا هو الطرح - الوهم. انه طرح - وهم لأنه غير قادر على تبيان حدود العمومية والخصوصية في الطرح من حيث انه يركز بل يقتصر على خصوصية الامة او الجماعة لدرجة الشوفينية بعض الاحيان متجاهلاً العموميات التي تشترك فيها كافة الجماعات الانسانية من حيث انها جماعات انسانية، وفي ذلك محاولة "ضمنية" غير واعية لاخراج الجماعة التي يتحدث عنها الخطاب العربي من دائرة القوانين بل الآليات العامة التي تنطبق على اية جماعة اخرى في تاريخها واجتماعها وسياسها، وبصفتها امة او جماعة متميزة فريدة، فان امتنا - على اختلاف التعريف - التي لا تنطبق عليها قوانين هذا العالم انما وجدت لتحقيق "مهمة تاريخية" تختلف باختلاف التفسيرات الايديولوجية لهذه المهمة من طرف لآخر. ومثل هذه المهمة نجد انها، في نهاية المطاف، تصب في مصب الوهم الاول، الا وهو وهم السيادة والقيادة العالمية، ومن هنا تتشابك الاوهام وتتعقد الصورة ليكون الناتج وهما كبيرا هو الخطاب العربي. اما الوهم الخامس فهو وهم الزعامة. دائماً في مخيلة العرب والعربي ان "الانقاذ" وان تحقيق النهضة او السؤدد والقضاء على الاعداء وخيوط المؤامرة لا يكون الا بزعيم فرد "كارزمي" يأتي فجأة ومن بطن الغيب ليحقق ما يجب ان يتحقق وينجز ما لا ينجز الا به. ويعكس الخطاب السياسي مثل هذا الاعتقاد في ثنايا كلماته ومفرداته، تارة يكون هذا "المنقذ" هو المستبد العادل، وتارة هو المجدد وتارة أخرى هو الزعيم الملهم المهدى الى الامة. تختلف الالفاظ والاوصاف والتعابير والمفاهيم، ولكن المعنى واحد: محورية الفرد الزعيم في الخطاب العربي خصوصاً السياسي منه. لقد تغير الخطاب السياسي العالمي فأصبحت مفردات مثل "المؤسسة" و"المشاركة" ونحوها هي المحور الذي يدور حولها الخطاب، وبقي الخطاب العربي ثابتاً لا يراوح مكانه ولا يغير من محورية الفرد الزعيم في ثنايا نصوصه، كل شيء خاضع للمصادفة في الخطاب السياسي العربي من حيث زمن ظهور "المنقذ" الزعيم ومكانه وما على الناس الا الانتظار في مقابل التخطيط وعقلانية القرار بل وكافة الامور في الخطاب السياسي العالمي، وبذلك بقيت هذه الامة وأترك لكم تعريفها حسب اتجاهاتكم غارقة في وهم الانتظار لشيء قد لا يجيء وان جاء فان مجيئه مجرد وهم هو الآخر لا يلبث ان يتبخر ولكن يبقى الوهم ذاته. هذه في اعتقادنا اهم الاوهام التي تسيطر بل تكبل الخطاب السياسي العربي المعاصر والتي لا بد من الافتكاك من اسرها وقيدها اذا اردنا الانطلاق والاندماج في منظومة الجماعات الانسانية. فاذا كان العقل الغربي نجح حينما تحرر من أسر أوهامه فاننا قادرون على النجاح حين نستطيع التحرر من اسر اوهامنا، وهذا في اعتقادنا قانون انساني عام لم يستوعبه الخطاب العربي الغارق في اوهامه وخصوصاً وهم الفرادة والتميز. ان الوعي بالمرض الاوهام هو الخطوة الاولى على طريق الشفاء وذلك بافتراض الاعتراف بالمرض ذاته، والا فان كل ما يقال او يفعل ليس سوى عبث في عبث ووهم في سلسلة اوهام. * كاتب ومفكر سعودي.