يعتقد بعض العاملين في دوائر القرار الأميركي أن نموذج الديموقراطية الليبرالية انتصر بصورة نهائية على النماذج الأخرى في العالم، وأن التاريخ بلغ وجهته الأخيرة المتمثلة بالنظام الأميركي. وتتصرف الإدارة الأميركية على أساس أن زمن المناورات الذي كان سائدا في عصر التوازن الاستراتيجي بين الشرق والغرب ولى وحل محله زمن الحلول الصعبة. وترى واشنطن أن تعتمد الشعوب والدول قاطبة مبدأ الانتخاب آلية وحيدة لمنع الحروب الخارجية والداخلية وتسوية الأزمات بين الدول وداخل كل دولة. وارتسمت أولى معالم هذه الآلية في أفغانستان، وبعدها تفككت الإمبراطورية السوفياتية وأوروبا الشرقية وقامت مقامها دول جديدة عن طريق تنظيم الانتخابات الشعبية، في المقابل راحت تتوحد دول وتتماهى حدود قديمة عن طريق الانتخاب إياه كما يحدث في أوروبا الغربية. وتمسي الانتخابات على يد جيمس بيكر وزير الخارجية الأميركي وكأنها وسيلة داخلية لتسوية أزمات إقليمية متعصية، كما هي حال الانتخابات الإسرائيلية التي أعطت مؤتمر السلام في الشرق الأوسط دفعا جديدا افتقده. وقد تشكل الانتخابات التي يطالب بها ياسر عرفات في الضفة الغربية وغزة مدخلا إلى حل المشكلة الفلسطينية. في هذا المناخ جرى فتح ملف الانتخابات النيابية في لبنان على مصراعيه، واللبنانيون يعشقون الانتخابات وقد مارسوها منذ 1926 أيام الانتداب الفرنسي، وانتخبوا منذ الاستقلال عام 1943 عشرة رؤساء للجمهورية، ونظموا تسع دورات نيابية حتى سمة 1972 إلى حين حالت الحرب اللبنانية الطويلة دون إجراء الانتخابات النيابية أو عدم إجرائها، وكانوا انقسموا مرة واحدة عام 1988 حول انتخاب رئيس للجمهورية ضمن المهل الدستورية. بالأمس كان اللبنانيون ينقسمون في الانتخابات بين موال ومعارض، وهذا أمر طبيعي، غير أنهم منقسمون اليوم بين مشارك فيها ومقاطع لها، وهذا أمر في غاية الدقة، خصوصا إذا ما اتخذ طابعا طائفيا. والواقع أن أكثرية القيادات الإسلامية تؤيد المشاركة، وأكثرية القيادات المسيحية تدعو إلى المقاطعة، ودمشق تصر على إجراء الانتخابات قبل نهاية أيلول سبتمبرالمقبل. وهو الموعد الذي حددته وثيقة الطائف لإعادة انتشار الجيش السوري في لبنان، وواشنطن تعلن تأييدها لمبدأ الانتخاب وتحاذر البحث في الشروط والتوقيت. * * * وتلتقي القيادات المسيحية على رغم التناقضات والصراعات بينها، على المطالبة مباشرة أو مداورة بتأجيل الانتخابات إلى ما بعد إعادة انتشار الجيش السوري، خوفا من أن تفرز هذه الانتخابات مجلسا نيابيا يضم غالبية مطلقة مرتبطة بسورية. ويتوجس بعض القادة المسيحيين، ولو عن غير حق، من أن يصادق مجلس النواب الجديد عن مشروع إقامة اتحاد كونفيدرالي بين لبنان وسورية، في حال جرت الانتخابات بوجود الجيش السوري. وترتفع عالية أصوات الزعامات المسيحية المنفية قانونا أو في الواقع خارج لبنان، كميشال عون وأمين الجميل وريمون اده، فتدعو إلى مقاطعة الانتخابات الى حين يتم انسحاب الجيش السوري من لبنان وتطبيق القرار الدولي الرقم 425 القاضي بانسحاب الجيش الاسرائيلي من الجنوباللبناني. وفي الداخل يقود البطريرك الماروني صفير وقائد القوات اللبنانية سمير جعجع ورئيس حزب الوطنيين الأحرار دوري شمعون معارضة إعلامية وسياسية لتأجيل الانتخابات، ويطالبون بانتخابات نزيهة ويشترطون عودة المهجرين إلى بيوتهم وتصويت اللبنانيين المهاجرين. ويتمايز موقف رئيس حزب الكتائب اللبنانية جورج سعادة لكونه يعارض قانون الانتخابات كما اقرته الحكومة لكنه لا يعارض اجراء الانتخابات في حال تمت تسوية قضية المهجرين وتحسنت شروط المعركة الانتخابية. وهذا التمايز يشكل عنصرا محوريا في مسار المعارضة المسيحية ومدى تأثيرها. ويبدو واضحا أن دمشق هي التي تستعجل الانتخابات النيابية في هذا الوقت. وتكثر التفسيرات حول خلفيات الموقف السوري، وتصب كلها في أن سورية تسعى للامساك بالمؤسسات الشرعية اللبنانية وتبغي من خلال الانتخابات النيابية الإتيان بمجلس نواب موال لها يكون مستعدا لانتخاب رئيس الجمهورية المقبل الذي تختاره دمشق في العام 1995. وأرى أن سورية معنية بإعادة صياغة دورها في لبنان من خلال تنظيم الانتخابات تمهيدا لصياغة دورها في المنطقة، وأنها مقتنعة بأن التحولات الحاصلة أو التي ستحصل في العالم وفي الشرق الأوسط بالذات تتطور باتجاه فك الاشتباك بين الدول. وتسعى سورية إلى ولوج عتبة النظام العالمي الجديد من باب الانتخابات اللبنانية. يبقى الموقف الأميركي الذي يتسم بشيء من الالتباس البارد: فلا هو متحمس لاجراء الانتخابات ولا هو متحمس لمعارضتها. ويتولى منذ فترة المستشار السياسي في السفارة الأميركية في بيروت ديفيد هايل الاتصالات مع مختلف الفعاليات، وتقتصر حركته على سماع وجهة نظر الفعاليات اللبنانية من دون أن يلتزم من جانبه بموقف محدد. هذه الحيادية الأميركية تفيد أن الولاياتالمتحدة تسهل ضمنا موقف دمشق بشأن إجراء الانتخابات. ولا تعني أن واشنطن لن تهتم بالانتخابات اللبنانية، بل تعني أنها لم تتخذ موقفا نهائيا بهذا الشأن. وأظن أن الإدارة الأميركية تتعمد عدم إثارة أية مواضيع أميركية - سورية حول لبنان من شأنها أن تعرقل مسألة انتشار الجيش السوري فيه. ما تهمها هي الإنسحابات أكثر من الانتخابات، ولن تقدم على أية خطوة توفر لدمشق فرصة أو حجة لتأخير موعد الانسحابات. من هذا المنطلق لم تعارض واشنطن توقيع معاهدة التعاون والتنسيق والأخوة بين لبنان وسورية، وتجاوزت مؤقتا مطلب إنهاء نفوذ حزب الله العسكري والأمني في جنوبلبنان، وسهلت التعاقد لشراء كميات كبيرة من العتاد العسكري الأميركي المعروض للبيع بأثمان رمزية بغية تمكين الجيش اللبناني من الحلول محل الجيش السوري بعد نهاية أيلول سبتمبر المقبل. في المحصلة تبرز حظوظ إجراء الانتخابات النيابية قبل أيلول سبتمبر المقبل كما تريد سورية أكبر من حظوظ عدم إجرائها كما تريد القيادات المسيحية. ولا نستبعد حصول واحد من الاحتمالين اللذين يحسمان الموضوع وهما: إعلان موقف أميركي معارض أو قيام تقارب مسيحي - سوري. ففي حال صدر موقف أميركي يعارض الانتخابات في هذه الظروف فان تأجيلها يصبح مرجحا ومتوقعا. أما في حال فتحت سورية خطوط اتصال جدية مع القيادات المسيحية فان الانتخابات تصبح حدثا مؤكدا خلال هذا الصيف. ومما لا شك فيه أن الخلاف القائم حول الانتخابات مرده وجود أزمة ثقة بين القيادات المسيحية ودمشق. ولم يسو اتفاق الطائف هذه العلاقة وبقيت الشكوك المتبادلة. فالحكم السوري يأخذ على المسيحيين انهم يلتزمون التزاما شكليا بمفهوم العلاقة المميزة بين لبنان وسورية، ويعارضون مضمون معاهدة التعاون والتنسيق والأخوة، ويعدون المخططات المريبة لمرحلة ما بعد الانسحاب الجزئي للجيش السوري. ويأخذ الزعماء المسيحيون على دمشق أنها تمارس تجاه الكثيرين منهم سياسة منحازة وقاسية تتخذ شكل النفي مع ميشال عون وشكل التحجيم مع سمير جعجع وشكل التهميش مع الجميع. ولا أستبعد أن تبادر دمشق إلى القيام باتصالات مكثفة مع المجموعات المسيحية، وصورة خاصة مع بكركي وحزب الكتائب اللبنانية، للتخفيف من حدة المعارضة المسيحية بغية إتمام العمليات الانتخابية في جو هادئ وسليم. بكركي هو اليوم محط الانظار والكتائب قبة الميزان. حول بكركي تلتف الشخصيات والفعاليات المسيحية، وتتوقف وجهة الانتخابات على القرار الكتائبي: إذا انضمت الكتائب الى المقاطعة تنعدم حظوظ إجراء الانتخابات، وإذا عزمت على المشاركة توفر التغطية المسيحية الضرورية لهذه العملية. يبقى واردا الاحتمال الأسوأ وهو تنظيم الانتخابات النيابية قبل نهاية أيلول سبتمبر المقبل في مقابل تصاعد المعارضة المسيحية وتحولها إلى مقاطعة شعبية شاملة. في هذه الحال تنحرف الانتخابات عن مسارها وتمسي خطوة إلى الوراء بدل أن تشكل آلية للحل اللبناني. هذه هي العقدة وكل ما تبقى تفاصيل. إن إجراء انتخابات متنازع حولها قد يكون أخطر من عدم إجرائها في وطن ما زال جرحه القومي مفتوحا وبنيته الاجتماعية والاقتصادية مهزوزة. لم يعد لبنان يتحمل لعبة التجارب والتجاذب. وحذار أن يلتقي تيار المقهورين الذين يفتشون عن الحرية وتيار المحرومين الذين يفتشون عن الخبز، عندها تتحول الانتخابات إلى اختبار مفتوح على المجهول! * سياسي وكاتب لبناني