هل أعطت الولاياتالمتحدة الضوء الاخضر لاسرائيل لكي تشن الحرب على مصر وسورية والاردن يوم 5 حزيران يونيو 1967؟ وليام كوانت، الخبير الاميركي البارز في شؤون الشرق الاوسط، اعد دراسة كاملة حول هذه القضية لمناسبة مرور 25 سنة على حرب 1967. وهذه الدراسة جزء من كتاب سيصدر عن الحرب مطلع العام المقبل عن مؤسسة "بروكيغر" الاميركية الشهيرة، كما ان هذه الدراسة ستنشر الشهر المقبل في مجلة "ميدل ايست جورنال" الاميركية. وقد حصلت "الوسط" من وليام كوانت على حق نشر هذه الدراسة المهمة، المستندة الى وثائق ومعلومات اميركية سرية، باللغة العربية. وفي ما يأتي أبرز ما جاء فيها: كانت حرب حزيران يونيو عام 1967 من تلك الاحداث النادرة التي غيّرت خريطة الشرق الاوسط لسنوات طويلة بعد ذلك التاريخ. والواقع ان "عملية السلام" في الآونة الاخيرة صممت بشكل اساسي لمعالجة ما ترتب على تلك الحرب من نتائج. وكما هو الحال في معظم الاحداث الفاصلة والحاسمة فقد أدت الى وضع مؤلفات وكتب لا حصر لها، كما ان دور الولاياتالمتحدة اصبح موضع نقاش مستفيض. وبرز في هذا الصدد نظريتان: النظرية الاولى، شبه الرسمية، التي تقول ان الولاياتالمتحدة التي كانت متورطة في فيتنام فوجئت حين بدأت الازمة في اواسط شهر ايار مايو 1967. ولهذا كان رد فعل الرئيس الاميركي جونسون حذراً لأنه لم يكن راغباً في التورط في حرب اخرى. ومن هنا فعل ما في استطاعته لمنع نشوب الحرب، الا ان الاحداث خرجت عن السيطرة. وتبعاً لهذه الرواية التي يؤيدها الرئيس جونسون ووزير الخارجية دين راسك ومستشار الامن القومي والت روستو - وهم صناع القرارات الثلاثة الكبار آنذاك - فإن الولاياتالمتحدة ابلغت اسرائيل باستمرار انه يجب عليها عدم اللجوء الى استخدام القوة. وهذا هو ما يمكن لنا ان نطلق عليه اسم "نظرية الضوء الاحمر". لكن هناك رأياً حديثاً يقول ان الولاياتالمتحدة واسرائيل تواطأتا على خلق الازمة كطريقة لاضعاف الرئيس جمال عبدالناصر، ولربما اسقاطه. والشخص الذي يتصدر اصحاب هذا الرأي هو محمد حسنين هيكل. كما ان عدداً من الاميركيين، في مقدمتهم ستيفن غرين، واندرو وليزلي كوبيرن، توصلوا الى الاستنتاج نفسه في كتابين، الاول هو الذي نشره غرين عام 1984 بعنوان "الانحياز: علاقات اميركا السرية مع اسرائيل المتطرفة"، والثاني من تأليف اندرو وليزلي كوبيرن بعنوان: "الاتصالات الخطيرة: القصة الحقيقية للعلاقة الاميركية - الاسرائيلية السرية" الذي صدر عام 1991. وخلال العقد الماضي أفرجت الحكومة الاميركية عن الكثير من الوثائق السرية، لا جميعها. كما ان المصادر الاسرائيلية سرّبت او نشرت كمية كبيرة من المواد الوثائقية المفيدة. يضاف الى ذلك ان الكثيرين من كبار المسؤولين الذين اشتركوا في الازمة تحدثوا في مقابلات مختلفة او نشروا رواياتهم عنها. ومن اولئك روبرت ماكنمارا وزير الدفاع وريتشارد هيلمز مدير وكالة المخابرات المركزية الاميركية سي. آي. ايه وهارولد سوندرز عضو مجلس الامن القومي، وكثيرون غيرهم. وبعد ان توفرت كل تلك المعلومات اصبح في الوسع الآن حل الخلاف بين اصحاب نظرية الضوء الاحمر واصحاب نظرية الضوء الاخضر. فكل من هذين الرأيين غير دقيق من اوجه عدة مهمة. فالرأي شبه الرسمي لا يعطي اهمية كافية للتحول الذي حدث في موقف جونسون في الفترة الاخيرة من الازمة، ويتجاهل الاتصالات التي جرت عبر القنوات غير الرسمية. لكنه رأي مصيب في المراحل المبكرة من الازمة. كما ان نظرية التآمر مخطئة في جانب النيات وفي العديد من التفصيلات الحاسمة. الا انها مصيبة في اثارة الشكوك في مدى جدية جونسون في محاولته منع اسرائيل من خوض الحرب، لا سيما بعد الثلاثين من ايار مايو 1967. وهذا المقال يقدم الدليل لدعم تفسير آخر للسياسة الاميركية خلال ازمة ايار مايو - حزيران يونيو عام 1967، وهو تفسير "اضوء الاصفر". ففي البداية لم يكن لدى جونسون اي خطط للاطاحة بنظام عبدالناصر قبل ايار مايو 1967، مع انه وجد ان من الصعب التعامل مع الرئيس المصري. ويبدو ان جونسون كان يأمل بصدق، خلال الاسبوعين الاولين من الازمة، تفادي نشوب حرب في الشرق الاوسط. ولذا كانت ردود فعله مدروسة ومحسوبة، ولكنها كانت في اطار محاولة كبح جماح الاسرائيليين ومنعهم من خوض حرب. الا ان جونسون تخلى في اواخر ايار مايو عن سياسة بذل جهود شاملة لمنع نشوب الحرب. اذ ان السبيل الواقعي الوحيد لاقناع اسرائيل بعدم التصرف من جانبها وحدها كان سينطوي على قيام الولاياتالمتحدة بعمل عسكري انفرادي لاعادة فتح مضيق تيران، وهو ما لم يكن جونسون على استعداد للقيام به بسبب الكونغرس. ونتيجة لذلك اذعن الرئيس الاميركي لقرار اسرائيل شن حرب وقائية، وضمن إفهام الاسرائيليين مسبقاً انهم لن يتعرضوا للضغط اميركي، مثلما حدث خلال ازمة السويس عام 1956. وباختصار فإن الايام الحاسمة التي سبقت اتخاذ اسرائيل قرارها شن الحرب، شهدت تحول الضوء الصادر عن واشنطن من احمر الى اصفر، ومع انه لم يتحول الى ضوء اخضر اطلاقاً، فإنه كان كافياً لكي تعرف اسرائيل ان في وسعها خوض الحرب، من دون ان تقلق من رد فعل واشنطن. والآن الى الأدلة. بدأت العلاقات الاميركية - المصرية في التدهور بصورة مضطردة منذ عام 1964 حتى اوائل عام 1967 بسبب قضايا تخص دولاً اخرى - لا سيما الوجود المصري في اليمن - وبسبب قضية المساعدات. ولما كانت قضية فيتنام أثارت انقسامات داخلية خطيرة في الولاياتالمتحدة بحلول عام 1967، فإن جونسون ترك مشكلات الشرق الاوسط الى درجة كبيرة لوزارة الخارجية. وكانت مشاعر القلق في الوزارة اخذت تزداد بسبب التوتر المتصاعد بين اسرائيل والدول العربية المحيطة بها عقب الغارة الاسرائيلية على بلدة السموع الاردنية في تشرين الثاني نوفمبر 1966، وعقب المعركة الجوية بين الطائرات السورية والاسرائيلية التي جرت في سماء دمشق في نيسان ابريل 1967. ويمكن العثور على دليل على هذا القلق المتزايد في تقرير بعثه السفيرالاميركي في القاهرة لوشيوس باتل في ربيع عام 1967 وبعد اجتماعه الى عبدالناصر، وقبل عودته الى واشنطن ليصبح مساعداً لوزير الخارجية لشؤون الشرق الادنى وجنوب آسيا. اذ حذر من ان عبدالناصر يبحث عن مغامرة في السياسة الخارجية لتحويل الاهتمام عن مصاعبه الداخلية. واذا كانت الاشتباكات التي وقعت على الحدود السورية - الاسرائيلية هي التي زودت الوقود للمرحلة الاولى من ازمة عام 1967 فإن الشرارة التي اشعلت الوقود جاءت على شكل تقارير سوفياتية خاطئة الى عبدالناصر، مفادها ان اسرائيل عبأت احد عشر لواء على الاقل على الحدود السورية. ولما جاء ذلك وسط خلفية من التهديدات الاسرائيلية باتخاذ اجراء لوقف هجمات الفدائيين من سورية، فإن تلك المعلومات المضللة ساعدت في اقناع عبدالناصر بأن الوقت حان لكي تتخذ مصر اجراء ما لردع اية تحركات اسرائيلية ضد سورية، ولاستعادة هيبته في العالم العربي. وفي الرابع عشر من ايار مايو قام عبدالناصر بالخطوة الاولى من خطوات عدة، اذ ارسل القوات المصرية الى سيناء، فأدرك جونسون ومستشاروه مدى خطورة الوضع. لكن رد فعلهم كان حذراً، مما يعكس انهماك البيت الابيض في حرب فيتنام، كما ان المزاج العام في الكونغرس كان ضد اي اجراء من جانب واحد حتى ولو كان ذلك نيابة عن اسرائيل. كذلك فسرت واشنطن خطوات عبدالناصر على انها سياسية بالدرجة الاولى، يهدف الرئيس المصري منها الى استرداد هيبته ومكانته في العالم العربي. لكن الازمة اتخذت منحى اكثر خطورة في السادس عشر من ايار مايو حين طلبت مصر من الاممالمتحدة سحب قوات الطوارئ الدولية. ودفعت هذه الخطوة جونسون الى استشارة الاسرائيليين في رد فعلهم، والى التشاور مع بريطانيا وفرنسا. وفي اليوم التالي بعث جونسون بالرسالة الاولى من رسائل عدة الى رئيس الوزراء الاسرائيلي ليفي اشكول يحثه فيها على ضبط النفس وابلاغ واشنطن بأي اجراء اسرائيلي قبل اتخاذه. وهكذا بدا واضحاً منذ البداية ان جونسون يريد تفادي وقوع حرب. وجاء رد اشكول في الثامن عشر من ايار مايو. وفيه لام اشكول سورية على زيادة حدة التوتر واكد وجوب سحب مصر قواتها من سيناء. كما ناشد جونسون شخصياً تجديد التزام الولاياتالمتحدة بأمن اسرائيل وابلاغ الاتحاد السوفياتي بذلك. وفعلاً كتب جونسون في اليوم التالي الى رئيس الوزراء السوفياتي اليكسي كوسيغن مؤكداً التزام اميركا الحازم بتأييد اسرائيل، كما اقترح مبادرة مشتركة بين الدولتين العظميين من اجل منع تدهور الازمة بين اسرائيل من جهة ومصر وسورية من جهة ثانية، ووصولها الى حرب. وبحلول مساء الثامن عشر من ايار مايو استجاب الامين العام للأمم المتحدة يوثانت للطلب المصري بسحب جميع قوات الطوارئ الدولية من الاراضي المصرية. لكن عبدالناصر لم يتخذ اي اجراء بين التاسع عشر ومنتصف يوم الثاني والعشرين لاغلاق مضائق تيران. وربما كان ينتظر ليعرف رد فعل واشنطن واسرائيل والاتحاد السوفياتي. ولكن لم يحدث اي اتصال اميركي مباشر مع عبدالناصر حتى الثاني والعشرين اي يوم اعلانه اغلاق مضيق تيران. ولم يصدر اي بيان اميركي رسمي لتأكيد الموقف الاميركي بأن المضيق ممر مائي دولي. وفي ذلك اليوم بعث جونسون رسالة الى عبدالناصر فحواها طمأنته بصداقة الولاياتالمتحدة، وحثه في الوقت نفسه على تجنب اتخاذ اي خطوة قد تؤدي الى نشوب حرب. كذلك عرض جونسون ارسال نائبه هيوبرت همفري الى القاهرة، لكن عبدالناصر لم يستلم الرسالة الا في اليوم التالي، اي بعد ان اعلن اغلاق المضيق في وجه الملاحة الاسرائيلية. وفي اليوم نفسه ايضاً بعث جونسون رسالة الى اشكول يبلغه فيها انه سيكتب الى الرئيسين السوري والمصري ليحثهما على تفادي اتخاذ اية اجراءات قد تؤدي الى الحرب. واضافة الى ذلك بعث رسالة الى كوسيغن يجدد فيها اقتراح اتخاذ اجراء مشترك لتهدئة الوضع. وهكذا فإن هذه الرسائل جميعها التي كان في وسعها ان تساعد على تهدئة الاوضاع لو انها جاءت في وقت ابكر اصبحت عديمة الجدوى، لأن خطاب عبدالناصر الذي اعلن فيه اغلاق المضيق اذيع بعد فترة قصيرة من منتصف ليل 22 - 23 ايار مايو. "اسرائيل لن تكون وحدها" ومنذ الثالث والعشرين من ايار مايو اصبحت العناصر الاساسية لسياسة جونسون في التعامل مع الازمة كما يلي: * محاولة منع نشوب الحرب من خلال طمأنة اسرائيل وتحذير المصريين والسوفيات. * حشد التأييد الشعبي الاميركي، وتأييد الكونغرس لفكرة بذل جهد دولي لاعادة فتح المضائق. * بذل الجهد اللازم عن طريق مجلس الامن الدولي لفتح مضيق تيران. واذا ما اخفق ذلك، كما كان متوقعاً، فإن اعلاناً دولياً يؤيد حرية الملاحة سيصدر، على ان يليه تشكيل قوة بحرية دولية، كما اقترحت بريطانيا، للمرور عبر المضائق. ومما تجدر ملاحظته الامتناع المستمر عن اتخاذ اي اجراء اميركي فردي او اطلاق العنان لاسرائيل مثلما اصبح الخيار الثاني يعرف فيما بعد. الا ان الادارة كانت تواجه دوامة. فلكي تمنع اسرايل من التصرف وحدها - وهو ما اعترفت به واشنطن على اساس ان من حقها اعادة فتح المضائق - لا بد من تقديم بديل مقبول. وكلما كان الالتزام الاميركي اقوى كلما كان كبح جماح اسرائيل اسهل. لكن المشكلة هي ان مثل هذا الالتزام القوي لا يتفق مع الرغبة في القيام باجراء دولي. جاءت زيارة وزير الخارجية الاسرائيلي ابا إيبان الى واشنطن بمثابة حافز للادارة على الاسراع في وضع الخطة الاميركية لمعالجة اغلاق المضائق. اذ كان اساس سياسة جونسون، عشية الزيارة، هو الفكرة البريطانية لتشكيل قوة بحرية دولية. وكان من اقوى مؤيدي هذه الفكرة ايضاً دين راسك وزير الخارجية. ووصل ايبان الى واشنطن في الخامس والعشرين من ايار مايو حيث عقد اول جلسة محادثات له في وزارة الخارجية. وكانت نتيجة هذه المحادثات زرع بذور البلبلة والارتباك بين صناع السياسة الاميركية بعد ان ظنوا انهم وجدوا مخرجاً من الازمة. اذ ان ايبان وجد امامه لدى وصوله تعليمات جديدة من حكومته لبحث خطر جديد هو حتمية وقوع هجوم مصري. لكن الاميركيين ابلغوا ايبان ان المصادر الاميركية لا تؤكد اطلاقاً حتمية مثل ذلك الهجوم المصري. ومع ذلك ابلغوه ان واشنطن ستحذر مصر من استخدام القوة كما انها ستطلب الى موسكو التحذير من استخدامها ايضاً. وبعد المحادثات مع ايبان امضى خبراء المخابرات الاميركية ليل الخامس والعشرين / السادس والعشرين في تحليل الادعاء الاسرائيلي بأن الهجوم المصري بات وشيك الوقوع. وكان الاسرائيليون قدموا أدلة محددة لدعم رأيهم. الا ان الخبراء خرجوا في صبيحة السادس والعشرين بنتيجة واضحة وهي ان مصر لا تعتزم شن هجوم. وهكذا خسر الاسرائيليون مصداقيتهم في لحظة مهمة، كما ان جونسون اصبح على ما يبدو يشعر بالريبة تجاه الاسرائيليين. لهذا تردد في الاجتماع الى ايبان يوم الجمعة السادس والعشرين. اذ كان يعرف انه اجتماع مهم وحاسم. كما ان مجلس الوزراء الاسرائيلي كان سيجتمع بعد يومين، اي يوم الاحد، وسيكون لما يقوله لايبان اثر مهم قد يعني الفرق بين الحرب والسلم. ولكن الاسرائيليين كانوا يضغطون من اجل الحصول على التزام اميركي محدد وعلى خطة مفصلة ووعود بالتصرف، وعلى تقدير لموقف اسرائيل اذا ما اضطرت الى اتخاذ اجراءات عسكرية، وامام هذا الوضع والضغوط حاول جونسون المماطلة قبل الاجتماع الى ايبان. وفي السادس والعشرين عقد جونسون الاجتماع الاول والوحيد الذي ضم جميع مستشاريه في البيت الابيض لبحث الازمة. اذ اشترك فيه نائب الرئيس همفري، ووزير الخارجية راسك ووزير الدفاع ماكنمارا، ومستشار الامن القومي والت روستو ومساعد وزير الخارجية يوجين روستو ورئيس هيئة الاركان المشتركة الجنرال ويلر ومدير وكالة المخابرات المركزية ريتشارد هيلمز ومساعد وزير الخارجية باتل ومساعد الوزير جوزيف سيسكو والسكرتير الصحافي جورج كريستيان والمستشار القاضي ابي فورتاس ونائب وزير الدفاع سايروس فانس ومساعدا وزير الخارجية السابقان جورج بول وكلارك كليفورد. واستعرض الاجتماع الوضع الديبلوماسي والعسكري. وقال راسك انه حذر اسرائيل من شن هجوم استباقي مباغت كما تحدث ماكنمارا عن مباحثاته مع ايبان. ومضى كل واحد من الذين حضروا الاجتماع يعرب عن آرائه. وتناول الجميع كل جوانب الازمة. ومن خلال مناقشات هذا الاجتماع اتضح ان هناك مدرستين من التفكير بين مستشاري الرئيس، الاولى يمثلها راسك وماكنمارا، والثانية يمثلها فورتاس وآخرون، اذ ان راسك وماكنمارا اصرا على ان اسرائيل ستكون وحدها اذا ما قررت توجيه الضربة العسكرية الاولى، بينما رد فورتاس بالقول انه لن يكون في وسع جونسون ان يقف متفرجاً او ان يقول ان اسرائيل ستكون وحدها. وأخيراً حان موعد الاجتماع بين جونسون وايبان مساء الاحد. وكان الى جانب الرئيس مستشارون بينهم ماكنمارا ووالت روستو ويوجين روستو وجوزيف سيسكو. ورداً على طلب ايبان من الولاياتالمتحدة تنفيذ التزاماتها اكد جونسون انه وصف اغلاق مضيق تيران بأنه غير قانوني وانه يعد خطة لاعادة فتحه. وقال انه لا يتمتع بالسلطة او الصلاحيات ليقول ان اي هجوم على اسرائيل سيكون هجوماً على الولاياتالمتحدة. واكد مبدأين اساسيين تنطلق منهما السياسة الاميركية: ان اي عمل يجب ان ينال تأييد الكونغرس، وان هذا العمل يجب ان يكون من اطراف عدة. وقال لايبان انه يدرك ماذا قاله الرؤساء الاميركيون الثلاثة الذين سبقوه، ولكن بياناتهم لم تكن لتساوي "خمسة سنتات" لو لم يحصل كل منهم على تأييد الشعب والكونغرس. وكرر جونسون مرتين للوزير الاسرائيلي خلال الاجتماع القول: "ان اسرائيل لن تكون وحيدة، الا اذا قررت التصرف وحدها". وأضاف القول انه لا يستطيع ان يتصور ان اسرائيل ستتخذ قراراً متهوراً. الاتصالات مع عبدالناصر كان جونسون يدرك صعوبة موقفه. فتشكيل القوة البحرية سيحتاج الى وقت، وربما تفشل الخطة، اما البديل اي ان تقوم الولاياتالمتحدة بعمل من جانبها وحدها فلم يكن مطروحاً بشكل جدي لأن الرئيس كان قلقاً من موقف الكونغرس الذي كان بدوره منهمكاً في قضية فيتنام. وهكذا فإن ما كان يريده جونسون هو الوقت - لتنفيذ فكرة تشكيل الاسطول الدولي وتهدئة المشاعر والبحث عن حل وسط. ولذا حاول الزام الاسرائيليين باعطائه مهلة اسبوعين اعتباراً من السابع والعشرين من ايار مايو. وفي ذلك اليوم بالذات ابلغ السوفيات جونسون ان لديهم معلومات تفيد ان اسرائيل تخطط لشن هجوم. فرد الرئيس بارسال رسالة الى كوسيغن، واخرى الى اشكول ابلغه فيها ما قاله السوفيات وحذر اسرائيل من بدء اي هجوم. وفي هذه الاثناء قرر جونسون تجديد الاتصالات مع عبدالناصر فأرسل السفير المتقاعد تشارلز يوست الى القاهرة لمساعدة السفير المعين نولت في تعامله مع المصريين، كما طلب من وزير المالية السابق روبرت اندرسون الذي كانت له اتصالات واسعة مع عبدالناصر التحدث الى الرئيس المصري بصفة خاصة لترتيب زيارات على مستوى نائبي الرئيسين. كذلك سار راسك على نهج جونسون فبعث رسالة الى السفير الاميركي في اسرائيل واخرى الى اندريه غروميكو. ومنذ تلك اللحظة بدأ المسؤولون في واشنطن يتصرفون وكأن لديهم اسبوعين فعلاً للعمل على ايجاد حل. وعقب عودة ايبان بذلت اسرائيل جهداً مركزاً لكي تعرف بالضبط اين يقف جونسون ولكي تشرح له ان الوقت ضد مصلحة اسرائيل. وكان محور الجهد الاسرائيلي يتمثل في الزيارة التي قام بها مائير آميت رئيس المخابرات الاسرائيلية الموساد الى واشنطن في 30 ايار مايو تحت اسم مستعار. وبينما كانت اسرائيل تريد من جونسون تحديد موقفه بكل دقة كان الرئيس يقضي عطلة اسبوعية طويلة في تكساس، ويصب تفكيره على قضايا حزبه لا سيما انه كان سيلقي خطاباً لجمع المال للحزب في نيويورك في الثالث من حزيران يونيو. وقبل وصول آميت الى واشنطن بفترة قصيرة حدث تغيير مهم جداً في الشرق الاوسط. اذ ان الملك حسين توجه الى القاهرة ووقع اتفاقاً دفاعياً مشتركاً مع عبدالناصر، ثم عاد الى عمان يرافقه الفريق عبدالمنعم رياض الذي اصبح فيما بعد قائد القوات المصرية - الاردنية المشتركة. ورأى والت روستو في ذلك نقطة تحول كبرى تؤكد على الخطر العسكري وتبين في اعتقاده ان الحرب أمر محتوم. وفي الثلاثين من ايار مايو وصل رد اشكول الى جونسون، وفيه يقول ان ضمانات الولاياتالمتحدة باتخاذ "جميع الاجراءات لفتح مضيق تيران لعبت دوراً في قرارات اسرائيل عدم خوض حرب والانتظار لمدة "اسبوع او اثنين" وحين حلل جونسون الرسالة غضب لأنه لم يكن اعطى اسرائيل ضمانات باستخدام "جميع الاجراءات لفتح المضيق" وانما قال انه سيستخدم كل السبل ضمن صلاحياته الدستورية. وفي الثلاثين ايضاً قال السفير يوست ان انطباعه عن عبدالناصر هو انه "لن يتراجع ولا يستطيع التراجع" وانه "ربما يرحب بالمواجهة العسكرية مع اسرائيل، ولكنه لن يسعى اليها"، وان اية محاولة اميركية لفتح المضائق بالقوة سوف "تقوض ان لم تدمر مكانة الولاياتالمتحدة في العالم العربي". وفي اليوم التالي اجتمع روبرت اندرسون الى عبدالناصر وبحث معه امكانية زيارة نائب الرئيس زكريا محيي الدين الى واشنطن في السابع من حزيران يونيو. كذلك اعتقد البعض في واشنطن ان عبدالناصر ربما يحيل نزاع المضائق الى محكمة العدل الدولية، مما يعني ان واشنطن ستجد من الصعب عليها عدم قبول ذلك. لكن من المؤكد ان اسرائيل سترفضه. وسرت في واشنطن اشاعات في الحادي الثلاثين من ايار مايو بأن الولاياتالمتحدة تبحث عن حل وسط لانهاء الازمة مما اثار قلق اسرائيل. وهذا هو الجو الذي وجده آميت حين رفع اول تقرير له من العاصمة الاميركية. ولذا طلب من حكومته الانتظار لايام قليلة، لكنه قال ايضاً ان المزاج اخذ يتغير، لأنه رأى ان فكرة الاسطول المتعدد الجنسية اصبحت بالية. وقال انه لو تصرفت اسرائيل من جانبها وحدها وحققت نصراً حاسماً فإن احداً لن يغضب في واشنطن. والواقع ان انطباعات آميت هذه لم تكن نتيجة محادثاته مع الخارجية. ولم يكن مصدرها جونسون وانما استندت الى محادثاته في وزارة الدفاع ووكالة المخابرات المركزية الاميركية مع ريتشارد هيلمز وجيمس انغلتون الشخصية الغريبة الغامضة الذي كان يتولى مكافحة التجسس والشؤون الاسرائيلية في "سي. آي. ايه". الضوء الاصفر وفي الاول من حزيران يونيو انفجرت الازمة السياسية في اسرائيل، فقد عين موشي دايان، وزيراً للدفاع في وقت متأخر من ذلك اليوم، وبينما كان بعض العسكريين الاسرائيليين يريدون شن حرب بسرعة، كان هناك آخرون مثل ايبان يريدون تأييد جونسون لمثل تلك الخطوة قبل الاقدام عليها. لأنه، استناداً الى ما سمعه خلال زيارته الى واشنطن، وجد ان تأييد الرئيس الاميركي لاسرائيل لن يكون مضموناً اذا ما تسرعت في اتخاذ اجراء عسكري. لكن ايبان تلقى في الاول من حزيران يونيو رسالة غيرت رأيه. وكان مفاد ذلك ان فورتاس قال "ايبان واشكول صنعاً جميلاً عظيماً للولايات المتحدة حينما اتاحا لها الفرصة لبحث عن حل وخيارات اخرى غير القوة الاسرائيلية. ولو لم يفعلا ذلك لكان من الصعب ضمان تعاطف الرئيس". وخلص ايبان من ذلك الى ان هذا يشبه "ضوءاً اخضر" يعطيه جونسون لاسرائيل. وهكذا اتصل بكل من الجنرال اسحق رابين والجنرال اهارون ياريف ليبلغهما انه لم تعد هناك ضرورة ديبلوماسية للتريث العسكري. وقد تلقى كاتب هذا المقال رسالة من ايبان نفسه في السادس والعشرين من تموز يوليو عام 1990 يقول فيها "ان اميركياً مقرباً من جونسون فورتاس قال ان اسرائيل لو تصرفت وحدها من دون استنزاف الجهود السياسية لكانت ارتكبت خطأ بمثابة الكارثة لأن الولاياتالمتحدة كانت ستجد ان من المستحيل عليها في تلك الحالة مساعدة اسرائيل ولأصبحت العلاقات بينهما متوترة. ولو ان اسرائيل اطلقت الرصاصة الاولى قبل مناقشات الاممالمتحدة لألغت اي امكانية لمساعدة الولاياتالمتحدة لها". وهكذا فقد اعتقد فورتاس انه اذا لم تنجح الاجراءات التي كانت الولاياتالمتحدة تتخذها فإنها ستدعم اسرائيل. وقد تحدث جونسون وفورتاس في الساعة الثامنة والدقيقة الثالثة والاربعين من مساء الثامن والعشرين من ايار مايو تبعاً لما يرد في جدول مواعيد الرئيس اليومي. وفي اليوم التالي حاول جونسون الاتصال بفورتاس ثانية لكنه كان في بورتوريكو. وهكذا بدأ الضوء يتحول من اللون الاحمر. كانت آخر المساعي الديبلوماسية التي بذلت قبل قرار اسرائيل شن حرب، في الثاني من حزيران يونيو. اذ ان السفير الاسرائيلي في واشنطن هيرمان كان سيغادر العاصمة الاميركية عائداً الى اسرائيل في وقت لاحق من ذلك اليوم لحضور اجتماع مجلس الوزراء يوم الاحد في الرابع من حزيران يونيو. وحوالي الساعة الحادية عشرة من صباح الثاني من حزيران يونيو زار الوزير الاسرائيلي ايفرون من دون تعليمات من حكومته والت روستو في البيت الابيض لكي يضمن ان جونسون يفهم امكانية خوض اسرائيل الحرب. ولذا فقد أراد الحصول على تأكيد مجدد للانطباع الذي اخذه آميت، اي ان الولاياتالمتحدة لن تعترض كثيراً اذا ما تصرفت اسرائيل من جانبها وحدها. وركز ايفرون في حديثه على ان الوقت يمر بسرعة. وسأل ماذا سيكون الموقف الاميركي لو ان سفينة اسرائيلية حاولت كسر الحصار المصري واجتذبت النيران المصرية وردت اسرائيل بهجوم على شرم الشيخ. هل سترى الولاياتالمتحدة ذلك على اساس انه تأكيد من اسرائيل لحقها المشروع في الدفاع عن النفس؟ وماذا سيكون عليه موقف واشنطن لو تدخل الاتحاد السوفياتي؟ بعد ان استمع روستو الى ايفرون قال له ان هذا السيناريو مختلف جداً عن ذلك الذي بحثه الاميركيون مع ايبان، ولكنه بديل يمكن اعتباره، وانه سيسعى الى معرفة رأي جونسون فيه. وسأل الوزير الاسرائيلي كم بقي من الوقت، فرد ايفرون بقوله: حتى الحادي عشر من حزيران يونيو، مع انه قال ان هذا التاريخ ليس نهائياً. لكننا لا نعرف رد فعل جونسون على افكار ايفرون مع انه يقال انه بحثها مع دين راسك. فالرسالة التي بعثها في اليوم التالي، اي في الثالث من حزيران يونيو، الى اشكول لا تشير الى وجود اي نهج جديد في السياسة الاميركية مع انها تقول: "اننا تبادلنا الآراء بصورة كاملة ووافية مع الجنرال آميت"، كما انها اشارت بصفة خاصة الى ايفرون. وتبعاً لما يقوله ايفرون فإن هذه هي اقرب مرة يقترب فيها جونسون من الرد على ما أورده هو وآميت. وباعتراف جونسون بما صدر من اشارات عن آميت وايفرون فإنه انما كان يقول لاسرائيل في رأي ايفرون ان الضوء تحول الآن من احمر الى اصفر. وفي اليوم التالي، اي في الثاث من حزيران يونيو، اعلن في القاهرة ان نائب الرئيس المصري زكريا محيي الدين سيزور الولاياتالمتحدة في السابع من حزيران يونيو. وفي مساء ذلك اليوم توجه جونسون الى نيويورك لحضور اجتماع الحزب الديموقراطي. وتحدث عن القلق العميق من الوضع في الشرق الاوسط. وبينما كان جونسون يجلس الى مائدة العشاء تلقى خبراً بأن اسرائيل قررت خوض الحرب. اذ ان آبي فاينبيرغ علم ذلك وهمس في اذن جونسون قائلاً: "سيدي الرئيس، ليس في الوسع تأجيل الامر. انها ستقع خلال الساعات الاربع والعشرين المقبلة". وهكذا علم جونسون ان الحرب اصبحت امراً محتوماً. هل كان هناك تواطؤ اميركي - اسرائيلي؟ وخلال الساعات الاربع والعشرين التي سبقت الهجوم الاسرائيلي لم يتخذ جونسون اي اجراء آخر. اذ لم يبلغه الاسرائيليون قرارهم، ولكنه لم يفاجأ حين ايقظه مساعدوه صباح الخامس من حزيران يونيو ليخبروه ان الحرب بدأت، لم يكن لديه اي سبب ليشك في اي الطرفين هو البادئ، ذلك ان جونسون كان ضمن اصلاً ان يعرف الاسرائيليون ان الضوء تحول من الاحمر الى الاصفر. وهكذا فإن جونسون لم يوجه اللوم اطلاقاً الى اسرائيل على بدء الحرب، مع انه اعرب عن "خيبة أمله" لأنها لم تعمل بنصيحته. ومع ان جونسون لم يعط الاسرائيليين ضوءاً اخضر فإنه أزال حق النقض او الفيتو ضد اجراءاتهم. فقد اعطاهم اشارات واضحة بأنه لن يكرر الضغط الذي تعرضوا له في ازمة السويس عام 1956. وسرعان ما حولت الولاياتالمتحدة اهتمامها الى مسألة ترتيب وقف لاطلاق النار وضمان عدم تدخل الاتحاد السوفياتي. وحرص جونسون على اعطاء الانطباع بأن الولاياتالمتحدة ليست لها ضلع في القتال لأن هذا سيساعد على تقليل المخاطر التي يمكن ان تتعرض لها المصالح الاميركية في العالم العربي، ويقلل من احتمالات التدخل السوفياتي. بعد انتهاء الحرب ظل جونسون يصر على انه فعل كل ما في طاقته للحيلولة دون نشوب الحرب، بل وادعى انه عارض قرار اسرائيل خوض الحرب. كذلك كرر راسك وزير الخارجية انه "صدم وغضب" من شن الاسرائيليين هجومهم المباغت. لكن ما حدث هو ان جونسون حذر بشكل ما اسرائيل من شن حرب. كذلك يبدو صحيحاً انه حاول ان يعطي اشارات للاسرائيليين من خلال فورتاس ومن خلال قنوات اخرى بأنه لن يقف في وجه اي قرار اسرائيلي بشن الحرب. ولربما كان قلقاً من امكان احتياج اسرائيل الى المساعدة، اذ انه صادق على صفقة المساعدات العسكرية لها في الثالث والعشرين من ايار مايو. وهناك رواية اخرى غير مثبتة تفيد بأن جونسون شجع الاسرائيليين على خوض الحرب، صاحبها هو ويلبر ايفلاند احد اشهر عملاء "السي. آي. ايه" السابقين. فهو يقول في كتابه "حبال من الرمل" ان جونسون طلب من انغلتون ابلاغ الاسرائيليين ان اميركا تتدخل لمنع وقوع هجوم على مصر. ولما كان انغلتون من انصار اسرائيل المتحمسين فإنه ربما قام بدور مهم في الازمة، لا سيما خلال زيارة مائير آميت. ولكن هذه الرواية تفتقر الى الادلة الدامغة. وهكذا وبناء على التمحيص والفحص الدقيقين لكل الادلة المتوفرة، واستناداً الى الكثير من المقابلات فإن كاتب هذا المقال توصل الى الاستنتاج بأنه لم يكن هناك تواطؤ بين الولاياتالمتحدة واسرائيل قبل الازمة. واذا كان هناك احد حاول استفزاز الازمة واثارتها فإنه الاتحاد السوفياتي، لأن اميركا كانت مغلولة الايدي في فيتنام، وغير راغبة في التورط في مغامرة جديدة في الشرق الاوسط. وبمجرد اندلاع الازمة حاول جونسون منع نشوب الحرب وكان جاداً في الحث على ضبط النفس. لكن جونسون استنتج بعد عطلته الاسبوعية الشهيرة في مزرعته في تكساس التي قضاها مع اصدقاء اسرائيل، انه لم يعد في الوسع تفادي نشوب الحرب. وربما كان قرار الاردن الانضمام الى مصر عاملاً حاسماً في تقديرات جونسون للوضع والاستنتاج بأنه ليس من المصلحة محاولة كبح جماح اسرائيل. ولهذا فقد رأى جونسون ان لاسرائيل حرية التصرف، ولكن لوحدها. ومن هنا فإن الضوء الاحمر تحول الى ضوء اصفر، لكنه لم يتحول فعلاً الى ضوء اخضر. وانما كان هذا كافياً على اي حال لاسرائيل لكي تشن الحرب صباح 5 حزيران يونيو 1967. * مستشار الرئيس الاميركي السابق كارتر وخبير اميركي بارز في شؤون الشرق الأوسط.