خرج لبنان من أتون الحرب العسكرية ليدخل في نفق الازمة السياسية. وخلافاً لما كان متوقعاً فان توقف الحرب العسكرية لم يسفر عنه تحسن في الاوضاع السياسية التي تصاعدت وتعقدت لتفرز ازمات اقتصادية واجتماعية. دولار الحرب تخطى لفترة محدودة الألف ليرة لبنانية، في حين ان دولار السلام يتخطى كل يوم الألف وخمسمائة ليرة ويتعداها احياناً فيجتاز عتبة الالفين. وكما كانت الحرب العسكرية مركبة من مجموعة حروب لبنانية - لبنانية، ولبنانية - اسرائيلية، واسرائيلية - عربية، وعربية - عربية، وعربية - دولية، فان الازمة السياسية مفتوحة على كل الاحتمالات والحلول وتخفي في طياتها مركب ازمات: ازمة حكومة وازمة حكم وازمة دولة وازمة وطن ومستقبل وما يستتبعها من ازمة اقتصادية خانقة وضعت لبنان فوق بركان اجتماعي متفجر. لقد بات الدولار يصنع الحكومات ويُسقط الحكومات، على غرار ما حدث، وللمرة الاولى في تاريخ لبنان، يوم انفجر الشارع في 6 ايار مايو الحالي فاستقالت الحكومة التي كان يرأسها عمر كرامي لتحل محلها حكومة برئاسة رشيد الصلح. ان الازمة اللبنانية المفتوحة مردها الى مجموعة من الاسباب الداخلية المعروفة والمعلنة ومجموعة من الاسباب الخارجية التي لا يعلن عنها ويقتضي تلمسها واكتشافها. ولنبدأ بالاسباب الداخلية. فقد تفاوتت مواقف اللبنانيين من اتفاق الطائف وعارضه او رفضه قسم منهم وراح مجمل المسيحيين يتصرفون بعد هزيمة ميشال عون وكأنهم لم يخسروا الحرب فقط بل خسروا الوطن ايضاً. وجاء عهد رئيس الجمهورية الياس الهراوي ليزيد من احباط اللبنانيين، فساد حكم الاقارب والمقربين، وعمّت سياسة الرشوات والسمسرات والمضاربات، واهتزت الثقة بالدولة اخلاقياً فاجتاحتها الازمة الاقتصادية. فقدان ثقة اللبنانيين بالحكم حال دون اقدامهم على توظيف اموالهم في لبنان، وانعدام ثقة غير اللبنانيين ادى الى رحيل الرأسمال الاجنبي عن لبنان. ولم يأخذ الحكام بعين الاعتبار هذه الحقائق فتابعوا سياسة الانفاق غير المجدي بدل التقشف واستمروا في هدر الاموال بدل ضبطها. وغرقوا في سياسة عشوائية، فضاعت الرؤية وانعدام التخطيط وغابت البرامج وانحسرت الكفاءات والخبرات واستغنى الحكم عن رجال الدولة المحترفين والنظيفين فابتعدوا عنه. واستحقت فواتير الحرب دفعة واحدة، وبات لبنان دولة متخلفة لا تقدر ان تنهض بقدراتها الذاتية من دون مساعدات خارجية عاجلة. وتؤلف المساعدات الخارجية في هذا المضمار العقدة والحل، وفيها تختلط الاسباب الداخلية المعروفة والعائدة لعدم اهلية الحكم اللبناني بالاسباب الخارجية غير المعلنة والمرتبطة بالتجاذب الدولي والاقليمي في لبنان. يجمع العارفون ان لبنان يحتاج الى مساعدات عاجلة بملياري دولار لوقف التدهور وبدء الاعمار. وقد تعهدت الولاياتالمتحدة والدول العربية التي رعت مؤتمر الطائف عام 1989 بتأمين هذا المبلغ عن طريق انشاء صندوق دولي لدعم اعادة الاعمار. ووعدت واشنطن ان تسعى لدى اليابان والمانيا لحملهما على المساهمة في تمويل هذا الصندوق بالاضافة الى المساهمة العربية والاستعداد الفرنسي والايطالي. واصبحت المساعدات الموعودة جزءاً لا يتجزأ من اتفاق الطائف الذي يدخل في تشرين الاول اكتوبر المقبل عامه الثالث ولم يتم بعد انشاء هذا الصندوق او وصول اية مساعدة. بل ان مجرد الكلام عن المساعدات جرى سحبه من التداول، وان بعض المساعدات العينية والنقدية التي نظمتها فرنسا وايطاليا مع لبنان بموجب اتفاقات خطية توقفت بسحر ساحر. في البدء برزت شروط لارسال المساعدات بدت للوهلة الاولى مقبولة تتعلق بوجوب انهاء ما سمي بتمرد ميشال عون وتوحيد السلطة اللبنانية والجيش وقيام حكومة وحدة وطنية، وهذا ما حصل منذ سنتين ونصف السنة. بعدها برزت شروط غير مقبولة من جانب الاميركيين والاوروبيين كربط ارسال المساعدات باطلاق سراح الرهائن الاجانب الذين لا علاقة للبنان بهم لا من قريب ولا من بعيد، وهذا ما حصل ايضاً منذ سنة ونيف. ثم تتالت الامور لتأجيل ارسال المساعدات بسبب حرب الخليج حيناً والانقلابات في اوروبا الشرقية احياناً، مما فتح باب الاجتهاد والتساؤل والتشكيك. اخيراً بانت الحقيقة القاسية وهي ان المساعدات ستبقى محجوبة عن لبنان ما دام الجيش السوري على الاراضي اللبنانية. ودخل لبنان دائرة التجاذب الاميركي - السوري من باب المساعدات الاقتصادية، كما دخل في دائرة التجاذب الاميركي - الاسرائيلي - السوري من باب الاوضاع العسكرية في جنوبه وعدم تنفيذ قرار مجلس الامن الدولي رقم 425 القاضي بانسحاب الجيش الاسرائيلي من دون قيد او شرط. واشنطن تضغط على دمشق من خلال تدهور الاوضاع الاقتصادية في لبنان، وتل ابيب تضغط على واشنطنودمشق من خلال تدهور الاوضاع العسكرية في الجنوب، ولبنان يئن تحت وطأة ازمته المفتوحة على التجاذب الاميركي - السوري من جهة والاميركي - السوري - الاسرائيلي من جهة ثانية. هذه هي الاسباب الخارجية غير المعلنة للأزمة اللبنانية المفتوحة. في ظل التجاذب الاميركي - السوري تبدو الازمة اللبنانية انعكاساً لتطور العلاقة الاميركية - السورية: في كل مرة تتحسن هذه العلاقة تتحسن الاوضاع اللبنانية، وفي كل مرة تسوء تتدهور الحالة اللبنانية. اثر اجتياح العراق للكويت في آب اغسطس 1990 لاحت معالم تقارب اميركي - سوري سرعان ما تحول الى تفاهم بغية اسقاط ميشال عون عسكرياً في 13 تشرين الاول اكتوبر 1990. واستمرت هذه العلاقة في تحسن مضطرد خلال حرب الخليج وبعدها، وبلغت اوجها في تشرين الاول اكتوبر 1991 بمناسبة انعقاد مؤتمر السلام في الشرق الاوسط الذي رعته الولاياتالمتحدة وشاركت فيه سورية. وبقدر ما راحت المفاوضات الثنائية العربية - الاسرائيلية في اطار مؤتمر السلام تتعثر، بقدر ما راحت العلاقة الاميركية - السورية تراوح مكانها. وبدأت بالتراجع في اوائل عام 1992 حين تمنعت دمشق وتضامنت معها بيروت عن المشاركة في المفاوضات المتعددة الاطراف. وانعكس هذا التراجع في لبنان بتبدل الخطاب السياسي الاميركي، واصبح علناً وصراحة اكثر تشدداً واصراراً على وجوب الانسحاب الجزئي للجيش السوري من لبنان في ايلول سبتمبر المقبل، كما نص عليه اتفاق الطائف. ونشطت الديبلوماسية السرية لوضع العقبات والعراقيل في وجه تسلم لبنان المساعدات لتكبر الازمة اللبنانية وتُستنزف سورية من خلالها. ان الولاياتالمتحدة تعاقب لبنان اقتصادياً بسبب ارتباطاته السورية، وتضغط سياسياً على سورية لسحب جيشها من لبنان، وتربط بصورة خفية بين المساعدات والانسحابات، فيتحول لبنان الى ورقة ضغط اميركية على سورية بدل ان يكون ورقة رابحة بيد دمشق. ولموضوعية الطرح نشير الى ان السفراء الاميركيين المعتمدين في لبنان، بمن فيهم السفير الحالي ريان كروكر، ثابروا دوماً على تشجيع اللبنانيين للتخلص من عدائهم تجاه سورية، ووعي الفارق في توازن القوى بين البلدين، من دون ان يتخلوا، ولو نظرياً، عن مفهومي السيادة والاستقلال. ويمكن تلخيص موقف الولاياتالمتحدة بأنها تدعو الى ضرورة التعاون بين لبنان وسورية ضمن شروط معينة مما يوفر لها حيزاً واسعاً من المرونة. ففي ظل التقارب مع دمشق تركز واشنطن على "ضرورة التعاون" بين لبنان وسورية، وفي ظل التباعد تشدد على واجب سورية الالتزام "بشروط معينة". اذن الازمة اللبنانية مرتبطة بشقها غير المعلن بمآل التجاذب الاميركي - السوري الذي يحدد مصير العزلة الخارجية المضروبة على لبنان لجهة ارسال المساعدات وتنفيذ الانسحابات. وتدخل اسرائيل على خط التجاذب الثنائي بين الولاياتالمتحدة وسورية لتحوله الى تجاذب ثلاثي ضاغط على دمشقوواشنطن معاً من خلال احتلال جنوبلبنان واحتمال قيامها بعدوان عسكري واسع. تضغط تل ابيب على دمشقوبيروت وتشترط لتنفيذ القرار 425 وسحب جيشها من الجنوب ان يتم ضرب حزب الله او تجريده من السلاح وانسحاب الجيش السوري من كل الاراضي اللبنانية. وبانتظار اتمام شروطها فانها تشن غارات شبه يومية على المواقع العسكرية وغير العسكرية في الجنوب وتغطي بالقصف المدفعي بصورة شبه مستمرة القرى والمدن على اختلافها. انها رسائل سياسة موجهة الى سورية ولو بوسائل عسكرية. وتمارس تل ابيب مع واشنطن سياسة شد الحبال عن طريق التهديد بتنفيذ عدوان واسع يستهدف ضرب حزب الله والجيش السوري في الجنوب والبقاع مما يؤدي حتماً الى نسف مفاوضات مؤتمر السلام التي تصر عليها ادارة جورج بوش. وترمي اسرائيل من وراء هذا العمل الى حمل الادارة الاميركية على اعادة النظر في سياستها في الشرق الاوسط. وفي تقديرنا ان الشهر الاخير الذي يفصلنا عن موعد الانتخابات الاسرائيلية في 23 حزيران يونيو المقبل قد يشهد عملاً عسكرياً اسرائيلياً يؤمن فوز تكتل الليكود في الكنيست على رغم سياسة الضبط المانع التي تنتهجها واشنطن تجاه تل ابيب. انها فترة العض على الاصابع ومرحلة الخيارات الصعبة لكل الاطراف. وهكذا تتكشف الخيوط السرية للازمة اللبنانية المفتوحة على كل الاحتمالات كما كانت الحرب اللبنانية مفتوحة على كل الحلول. ان اسباب الازمة الاقتصادية ليست اقتصادية صرفاً ولا سياسية فقط ولا حتى داخلية فحسب، بل ترتبط بتجاذبات خارجية لا ترحم. وكما كانت حرب لبنان بمثابة الانذار المبكر الذي راح بعده العديد من بلدان العالم "يتلبنن"، فان ما يحدث اليوم في لبنان من ازمة مفتوحة قد يحدث غداً في العالم، والعالم العربي ليس بمنأى عن هذه الازمات. ولنتذكر ان الحرب الاقتصادية هي البديل عن الحرب العسكرية في ظل النظام العالمي الجديد الذي غاب عنه الاتحاد السوفياتي، ولا تعرفه الا الولاياتالمتحدة، ولا يملك احد في القريب المنظور القدرة على تجاهله او تخطيه. * سياسي وكاتب لبناني.