بانتظار الانتهاء من التحقيقات اللازمة التي سيتطلبها اكتمال ملف بنك "الاعتماد والتجارة الدولي" الذي اضطر الى الاقفال تحت وطأة المخالفات المصرفية والمالية الكبيرة، فإن الحكومة الاردنية اقفلت ملف بنك "البتراء"، اقله من الناحية القضائية، عندما اصدرت محكمة امن الدولة اخيراً قراراتها في شأن البنك الذي وضعت اليد عليه في صيف 1989 بسبب توقفه عن الدفع نتيجة مصاعب في السيولة دفعته الى عدم سداد الالتزامات المالية المتوجبة عليه لصالح المودعين. وبحسب الارقام التي توصلت اليها التحقيقات القضائية الاردنية، فإن مجموع الخسائر التي حلت بالبنك قاربت 342 مليون دولار توزعت على مدير بنك "البتراء" الدكتور احمد الجلبي، الفار من وجه العدالة، وعلى 22 اسماً آخر لأقارب واصدقاء ومتواطئين. وبحسب التحقيقات الاردنية ايضاً، فإن الجلبي و22 متورطاً آخر، عمدوا بشكل او بآخر، مباشرة او بالتستر على الارتكابات الحاصلة، الى التلاعب بالسجلات وتوزير المستندات، وتأسيس الشركات الوهمية لتسهيل سحب الاموال من البنك وتحويلها الى الخارج للمنافع الشخصية، وتنفيذ الصفقات التجارية التي غالباً ما كانت عبارة عن مغامرات تجارية غير مضمونة، الى جانب عمليات المضاربة بالعملات والمعادن، وشراء الديون الهالكة. وبحسب التحقيقات نفسها، فإن اجهزة الرقابة والتفتيش التي كان يفترض ان تكون العين الساهرة على اعمال البنك تورطت في تقديرات غير موضوعية، واحياناً كثيرة في التباسات وعدم كفاية وخبرة في الشؤون المصرفية. واعتبرت المحكمة الاردنية التي اصدرت الحكم في قضية "البتراء" ان الاختلاسات والمخالفات الحاصلة، تجاوزت في تأثيرها حدود البنك الى الاضرار بشكل مباشر بالاقتصاد الاردني، والى تقليص الثقة بالقطاع المصرفي الوطني. واللافت في قضية "البتراء" ان جميع الذين صدرت بحقهم احكام ادانة، وعوقبوا بالحبس ورد الاموال المختلسة هم فارون من وجه العدالة، الامر الذي سيستدعي اصدار مذكرات دولية للقبض عليهم. وقبل انفجار قضية بنك "البتراء" في الاردن، والتي كشفت في احد وجوهها عن نجاح كبير في اختراق اجهزة الرقابة المصرفية الاردنية، انفجرت في لبنان قضية بنك "المشرق" ومعه قضية "الشركة المصرفية المتحدة" في باريس، ثم "البنك اللبناني - العربي" في لبنان وفرنسا، ثم قضية بنك "المساهمات والتوظيفات" في العاصمة الفرنسية، وقبله البنك نفسه في سويسرا. وكرّت السبحة لتشمل مصارف اخرى، من بينها بنك "مصر اللبناني - الافريقي"، وبنك "مبكو"، و "يورميد" و "الازدهار". ووفقاً لتقديرات رئيس شركة "انترا" وزير الخارجية اللبناني الاسبق الدكتور لوسيان دحداح، فإن حجم الخسائر التي حققها بنك "المشرق" مع المصارف الشقيقة والتابعة، نتيجة السياسات التي اتبعها السيد روجيه تمرز، رئيس مجلس ادارة البنك سابقاً، لا يقل اطلاقاً عن 270 مليون دولار، في حين يرتفع حجم الخسائر في المصارف الاخرى الى ما لا يقل عن 600 مليون دولار، استناداً الى تقديرات مصرف لبنان. والقاسم المشترك بين ما حصل في الاردن، في موضوع "البتراء"، وفي لبنان في قضايا المصارف التي اضطرت الى التوقف عن الدفع، وعدم تسديد الالتزامات المتوجبة عليها، وأهمها "المشرق" اعتباران محددان تماماً، على الاقل. الاول علاقة اصحاب هذه المصارف او القيمين عليها باضطرارها الى الافلاس وعدم سداد المتوجب عليها. اما الاعتبار الثاني، فهو الاسلوب نفسه الذي لجأ اليه هؤلاء القيمون لتسهيل الاستيلاء على اموال المودعين، وانفاقها في الاوجه غير الشرعية لها. وبالفعل، فقد دلت التحقيقات التي اجراها القضاء اللبناني، بدءاً من العام 1989، وهي لا تزال قائمة ومستمرة الى اليوم، ان تمرز اعتمد الاسلوب نفسه الذي اعتمده المتهمون بقضية "البتراء" وربما كان السبّاق الى العمل بهذا الاسلوب. وتكشف المستندات التي حصلت عليها المحاكم اللبنانية ان تمرز عمد الى احاطة نفسه بمجموعة من الموظفين الذين تحولوا الى "مفاتيح" ينفذون تماماً ما يطلبه منهم من دون مناقشة. ثم عمد هؤلاء الموظفون في مرحلة ثانية، وبعدما احاطوا انفسهم بهالة النفوذ الذي اغدقه عليهم تمرز كرئيس لمجلس الادارة، الى تنفيذ الاختلاسات بشكل مكشوف، عبر شبكة من الشركات الوهمية التي أنشأها تمرز في قبرص والبهاماس وجنيف ونيويورك، وسلمها الى مساعدين شخصيين له او الى اشخاص وهميين، كما اشترى عقارات وهمية وانفق ملايين الدولارات على صداقاته الخاص، كل ذلك لتسهيل سحب الاموال من البنك من دون ان تخضع عمليات السحب لأية رقابة، حتى ان الكثير منها لم يدخل السجلات الرسمية. ويقول دحداح ان تمرز تعمد خلق حالة من الفوضى الشديدة لكي يمنع على اي كان بعده الوصول الى استنتاج. ومن الصور الغريبة ان الادارة الموقتة التي تسلمت بنك "المشرق" بقرار قضائي، اضطرت الى صرف مبالغ طائلة لتكتشف ان الموجودات التي تبحث عنها، سواء كانت عقارات او شركات، انما هي عقارات وشركات وهمية، لا وجود لها على الاطلاق. وعندما طولبت شركة طيران "عبر المتوسط" وهي احدى الشركات التي تملكها تمرز، بالديون المتوجبة عليها، فوجئ المحققون بأن هذه الديون لم تدخل الى حسابات الشركة، وانما تم انفاقها في اوجه، لا احد يعرفها. اما القاسم المشترك الثاني بين قضية "البتراء" و "المصارف اللبنانية" المتوقفة عن الدفع فهو ان معظم المخالفات، لا بل جميعها، ارتكبها اصحاب القرار في هذه المصارف واصحاب القرار غالباً ما يكونون اصحاب البنك نفسه. ففي موضوع "اللبناني - العربي"، سواء في باريس او في بيروت، اتهم القضاء اللبناني والفرنسي على السواء اصحاب البنك. وفي موضوع بنك "الشركة المصرفية المتحدة"، اضطر رئيسه جو كيروز الى الهرب من باريس، ولم يعد بعدما اقنع القضاء الفرنسي بضرورة اعطائه فرصة جديدة للذهاب الى لبنان وبيع الموجودات التي يملكها، الا انه غادر ولم يعد. واستطاع آل الجلبي، كبار المساهمين في بنك "مبكو" مغادرة لبنان بعدما اجمعت معظم التحقيقات القضائية على اتهامهم بالاختلاسات التي حصلت، سواء بشكل مباشر او بواسطة بعض الاشخاص الذين اسبغوا عليهم "نعمة القرار". وما حصل في "مبكو" تكرر بشكل آخر في "نصر اللبناني - الافريقي" وانتهى القضاء اللبناني الى القاء القبض على احد كبار المساهمين فيه، جوزف نصر، بعدما تبين له مشاركته في سحب الاموال من البنك عبر طريق غير شرعية ومخالفة للقانون. وفي حين اتهم القضاء الاردني اجهزة الرقابة والتفتيش بالتقصير وانعدام الخبرة، اكتشف القضاء اللبناني ان اجهزة الرقابة المصرفية متورطة على مستوى رأس الهرم فيها. ومن مذكرات التوقيف التي صدرت غيابياً، المذكرة التي صدرت ضد رئيس لجنة الرقابة على المصارف السيد جورج كويتا المتهم بالتواطؤ في معظم المخالفات وعمليات اختلاس الاموال التي حصلت. احد المصرفيين اللبنانيين يقول، المخالفات التي يرتكبها موظف ما، اياً كان مركز القرار الذي يشغله، قد تكون قادرة على "هز" البنك، وحدها مخالفات اصحابه قادرة على اسقاطه. وهذا ما حصل، سواء في بيروت او في عمان، وما قد يتوصل اليه التحقيق في حالات اخرى.