إي اف چي القابضة تسجل إيرادات قياسية بقيمة 24.4 مليار جنيه، مدعومة بالنمو القوي لقطاعات الأعمال الثلاثة    "الأرصاد": أمطار رعدية غزيرة وسيول متوقعة على عدة مناطق بالمملكة    وزير الداخلية يرأس الاجتماع السنوي ال32 لأمراء المناطق    "الحياة الفطرية": لا صحة لإطلاق ذئاب عربية في شقراء    فيتش: تحسن محدود لمؤشرات البنوك    المملكة تدين قصف قوات الاحتلال الإسرائيلية للأراضي السورية    السعودية بوصلة الاستقرار العالمي (1-3)    آمال العرب معلقة في تصفيات أفريقيا المؤهلة للمونديال    الاتحاد يعبر القادسية الكويتي في نصف نهائي غرب آسيا لكرة السلة    الأخضر يرفع استعداداته لمواجهة الصين في تصفيات كأس العالم    رأس الاجتماع السنوي لأمراء المناطق.. وزير الداخلية: التوجيهات الكريمة تقضي بحفظ الأمن وتيسير أمور المواطنين والمقيمين والزائرين    "التعليم" تعلن القواعد التنظيمية لبرنامج فرص    الخوف من الكتب    مشروع الأمير محمد بن سلمان يجدد مسجد بني حرام بالمدينة المنورة    «الملكية الفكرية» : ضبط 30 ألف موقع إلكتروني مخالف    نائب أمير منطقة مكة المكرمة يرأس اجتماع لجنة الحج المركزية    المملكة تدين وتستنكر الهجوم الذي استهدف موكب رئيس جمهورية الصومال الفيدرالية    مجلس الوزراء يستعرض مسارات دعم المشروعات التنموية والخدمية    نائب أمير منطقة جازان يكرّم الفائزين في مسابقة الملك سلمان المحلية لحفظ القرآن الكريم    قطاع ومستشفى بلّسمر يُنفّذ حملة "صم بصحة"    التعنت الإسرائيلي    انطلاق أعمال الجلسة ال144 للجنة الأولمبية الدولية في أولمبيا    طويق بطلاً لبطولة جود الشمال لكرة القدم بالحدود الشمالية    نائب أمير منطقة جازان يكرّم الطلبة الفائزين بجائزة "منافس 2024م"    ديوانية غرفة تبوك الرمضانية بوابة لتعزيز الشراكات وترسيخ المسؤولية الاجتماعية    نائب أمير تبوك يطلع على التقارير السنوي لتنمية الموارد البشرية هدف    "خطاب الإنتماء" ندوة علمية في تعليم سراة عبيدة ضمن أجاويد3    المودة تحتفي باليوم العالمي للخدمة الاجتماعية بتأهيل 6,470 أخصائيًا    وزير السياحة يتجول في معالم المدينة    منتخب "23" يواجه عمان في افتتاح "غرب آسيا"    رئيس الاتحادين الكويتي والآسيوي للألعاب المائية الشيخ خالد البدر الصباح: الألعاب المائية في آسيا أسرة واحدة    إطلاق الدورة الثانية لفرع هيئة الصحفيين بعسير وتوقيع شراكات استراتيجية    مبادرة "عون تقني" تقدم خدماتها لضيوف الرحمن    نائب أمير حائل يستقبل عددًا من أبناء مركز الدكتور ناصر الرشيد لرعاية الأيتام بالمنطقة    16 مصلى لكبار السن وذوي الإعاقة بالمسجد النبوي    التخصصات الصحية تعلن بدء التقديم على 3 برامج تدريبية    الفطر سلاح فعال ضد الإنفلونزا    دعوات ومقاعد خاصة لمصابي الحد الجنوبي في أجاويد 3    مراكز متخصصة لتقييم أضرار مركبات تأجير السيارات    الإدارة العامة للأمن المجتمعي.. تعزيز الحماية وصون الكرامة    الكشخة النفسية    440 مبتعثا صحيا وكندا الوجهة المفضلة ب33 %    موسم ثالث للتنقيب الأثري بالليث    الذاكرة المستعارة في شارع الأعشى    النقد الأدبي الثقافي بين الثوابت المنهجية والأمانة الفكرية    11% انخفاض ضبطيات الدراجات المخالفة    هدايا الخير لمرضى ألزهايمر    3 جهات للإشراف على وجبات الإفطار بالمدينة المنورة    منصات وزارة الداخلية تُكثّف توعية قاصدي المسجد الحرام والمسجد النبوي خلال شهر رمضان    مدارس نهج العالمية تطلق مبادرة "نهجنا لمستقبل مشرق" في أجاويد 3 بعسير    "أخضر الشاطئية" يكثف تحضيراته للمشاركة في كأس آسيا    إقبال على دورات الإنعاش القلبي    تبقى الصحة أولى من الصيام    محافظ الطوال يشارك في الإفطار الرمضاني الجماعي للمحافظة    مستشفى خميس مشيط العام يُنفّذ فعالية "الشهر العالمي للتغذية"    العلم الذي لا يُنَكّس    مات اللواءُ علي ولم تمُت مآثره    وكيل وزارة الداخلية لشؤون الأفواج الأمنية يتفقّد قوات الأفواج بمنطقة نجران    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



فيروز ... هذه الأيام
نشر في الحياة يوم 18 - 05 - 1992

تدرس الفنانة الكبيرة فيروز ترتيبات لاقامة حفلة غنائية في منطقة المتحف احتفالاً بوحدة بيروت ووحدة لبنان. وهذه الحفلة، حين تتم، تعود فيروز الى جمهورها اللبناني بعد غياب حوالى 14 عاماً بسبب تردي الوضع الامني.
كيف تعيش فيروز هذه الايام؟ وما هو منحى حياتها كإنسانة: من الطفولة المعتم عليها الى النجومية داخل ستار العائلة؟ وما العلاقة الدرامية بين فيروز المرأة - الزوجة - الام وفيروز النجمة؟
في هذا التحقيق ترسم "الوسط" الصورة بتفاصيلها المتعددة... ونتعرف من جديد على فيروز وجديدها:
ها قد بلغت فيروز السنة السابعة والخمسين من عمرها الذي يمكن تقسيمه الى حقبات ثلاث متتابعة:
تبدأ الحقبة الاولى بولادتها عام 1935. وهذا تاريخ تكاد تجمع عليه الروايات والاخبار التي نقلت مقتطفات من سيرتها، فيما تتضارب هذه الروايات والاخبار ما ان تتعرض لمكان ولادتها واصل والدها. فهنالك رواية تفيد ان والدها وديع حداد، السرياني الكاثوليكي، وفد الى لبنان من قرية فلسطينية تقع في جوار الناصرة، فيما ذكرت رواية اخرى انه من جوار مدينة حلب السورية او من المنطقة الحدودية الفاصلة بين سورية وتركيا. هذا وتعرج به رواية ثالثة على منطقة حوران السورية. لكن هذه الروايات ما ان تجمع كلها على قدوم الرجل الى لبنان وزواجه من اللبنانية ليزا البستاني، وهي من قرية الدبية في منطقة الشوف، حتى تعود لتتضارب حول مكان اقامة الزوجين ومكان ولادة ابنتهم البكر نهاد حداد فيروز. هنالك رواية تفيد ان وديع حداد اقام فترة في الدبية، حيث تعرف بليزا البستاني، فتزوجا وانجبا الى نهاد ابنهما الثاني جوزيف، قبل انتقال العائلة للاقامة في غرفة شديدة التواضع في محلة زقاق البلاط في بيروت. هذا فيما تذكر رواية اخرى ان ابناء الزوجين الثلاثة، نهاد وجوزيف وهدى، ابصروا النور واحداًَ تلو الآخر في تلك الغرفة المتواضعة. وهنالك خبر عارض يشير الى ان نهاد ابصرت النور في محلة حارة حريك او في حي السريان - الاشرفية.
ربما من النافل القول ان هذا التضارب في الروايات منشؤه الهالة التي تحفّ، في العادة وعلى الجملة بصناعة النجوم. فمن عناصر هذه الصناعة تحوير اصل النجم وسيرته العائلية، بل التعتيم على النافر منهما ومحوه، بغية "تطهير" هذا النجم من ابويه واهله ومنبته وبيئته الاجتماعيين وتوليده من جديد مخلوقاً نصفه بشري من لحم ودم ونصفه الآخر معنوي. وهذه العملية التي يسميها ادغار موران "نظام النجوم"، هي ما يجعل النجم صالحاً للاعجاب من الجموع والجماهير. ولأن النجم لا يعود في مستطاعه امتلاك حياته وسيرته اللتين تصيران ملك الجموع التي تجعله محور شعائرها ومحط هواماتها وتنزله منزلة المثال والخرافة، كان لا بد، في حالة فيروز، من التعتيم، قدر المستطاع، على اصل والدها وفصله. وذلك ل "وضاعة" منبته الاجتماعي ولحداثة توطنه في لبنان وانتسابه الى البلد الذي سيقترن اسم فيروز باسمه وستصير "سفيرته الى النجوم" وستنشد انه "الصخرة التي علقت بالنجم"، وانها "نذرت صوتها، حياتها وموتها، لمجده".
في الحقبة الاولى من عمرها، اي في السنوات الخمس عشرة الممتدة بين العام 1935 والعام 1950، كانت نهاد حداد في حل من هذا كله، اذ عاشت حياتها في تلك السنوات كسائر خلق الله، من دون ان تلوح ولادتها النجومية الا في افق الاحتمال والغيب. لكن هذه الولادة ما لبثت ان ظهرت علاماتها الاولى حين اطلق عليها حليم الرومي اسماً فنياً، يروى انها جعلت، في اول عهدها به، تتلفت يمنة ويسرة، كلما نوديت به: فيروز... تلفت نهاد حداد ذاك كان يكني، ولو على نحو رمزي، عن "صرخات" ولادتها النجومية يمكن تشبيهها بصرخات الوليد لحظة خروجه من رحم امه وابصاره نور العالم الخرجي. وكان على نهاد حداد، ابنة ال 15 عاماً، ان تبدأ في تناسي او نيسان اسمها الذي اطلقه عليها اهلها منذ ولادتها الطبيعية، وان تعد العدة لقبول اسمها الفني - النجومي الجديد وطغيانه على الاسم القديم ومحوه. لكن لا بد لمثل هذين النسيان والمحو من ان يقيما في النفس ازدواجاً، بل شقاقاً، هما ضريبة المجد والهالة. وهذه ضريبة كان على من قدر لها السير في طلب النجومية ان تدفعها طيلة الحقبة الثانية من عمرها. وهي الحقبة التي سوف تعلن تذمرها منها قائلة: "اتركوني، بدي عيش"، بحسب سعيد عقل الذي اطلق عليها لقب "سفيرة لبنان الى النجوم".
لحليم الرومي، مدير القسم الموسيقي في الاذاعة اللبنانية، يعود الفضل في اتاحة فرصة خروج نهاد حداد من صف منشدات كورس الاذاعة المغفلاات لتصير من المغنيات اللواتي كانت تعد لهن اغنيات خاصة يقمن بأدائها منفردات من وراء الميكرفون. اما فضل توجيهها لدراسة فنون الاداء والانشاد وقراءة النوتة الموسيقية سنوات اربع 1946 - 1950 في الكونسرفاتوار الوطني، فيعود لمكتشف طاقتها الصوتية الحاج محمد فليفل، ضابط الايقاع في موسيقى الدرك اللبناني واستاذ الموسيقى في الكونسرفاتوار. اما امر تعريفها بعاصي الرحباني، الذي كان يعمل ملحناً ناشيئاً في الاذاعة اللبنانية واذاعة الشرق الادنى بالتعاون مع اخيه الاصغر منصور، فتولاه ايضاً حليم الرومي بعد كان وضع لها عدداً من الاغنيات الخاصة.
حدث اللقاء في غضون العام 1952 وفي استوديوهات الاذاعة اللبنانية، برعاية الرومي الذي رغب في جمع عاصي وفيروز فنياً. ويروى ان فيروز نفرت من عاصي في لقاءاتها الأولى به. لكن ذلك النفور لم يحل دون قيام علاقة بينهما رباطها صلة استاذ بتلميذته. ثم لم تلبث هذه الصلة ان اثمرت فغنت فيروز اغنية "عتاب" من الحان عاصي وكلماته. وكانت هذه الاغنية الحجر الاساس في انطلاق صوت فيروز انطلاقة جديدة وفي اتساع شهرتها التي حملت الثنائي على توثيق تعارفهما وتعاونهما الفني في اغنيات عدة حملت اسميهما. وربما كانت هذه الانطلاقة الرحبانية لصوت فيروز واتساع شهرتها في اصل اقدامهما, في صيف العام 1954, على زواج جعلت تزداد تأويلآته وتنتشر حوله الشائعات كلما توطدت اركان المؤسسة الرحبانية - الفيروزية وارتفع صرحها واتسع حضورها الفني والثقافي في لبنان وفي خارج لبنان.
هي فيروز, اي تلك المغنية التي بدأ صوتها المتميز بعذوبته واختلافه عن اصوات مغنيات جيلها كافة يشق طريقه في عالم الشهرة، كما بدأ اسمها الفني الجديد يطغى على شخصيتها وكيانها ويعمل فيهما تحويراً وتبديلاً عن طريق النجومية، هي فيروز هذه. وليست نهاد حداد، الفتاة الخجول ذات المنبت الاجتماعي الشديد التواضع وابنة وديع حداد العامل في مطبعة جريدة "لوجور"، من اقدم عاصي الرحباني على الزواج منها واقدمت هي على الزواج منه. وهو الزواج الذي شكل منعطفاً في حياة نهاد حداد، ابنة السنوات العشرين، وفي حياة فيروز، ابنة السنوات الاربع. هذا فضلا عن انه شكل ايضا اندفاعتها الكبرى في اتجاه الحقبة الثانية من عمرها، اي الحقبة التي ستستمر ثلاثين سنة 1950 - 1980، وستشهد تتويجها على قمة الصرح النجومي من المؤسسة الرحبانية - الفيروزية.
النجمة والزوجة
في هذه السنوات الثلاثين كان على المغنية ان تتماهى مع الصورة او المثال النجومي الذي جعل يرتسم ويشق طريقه وئيداً وينبني بالجهد الشاق والمثابرة، اغنية فأغنية وعملاً مسرحياً فعملاً. وحين نقول انه كان على فيروز ان تتماهى مع المثال النجومي، انما نعني توليدها ولادة ثانية بالمعنى الحرفي للكلمة وصناعتها من جديد اسماً وجسماً ونفساً وحركات وقيماً ومصيراً... وبالقدر الذي يحول بينها وبين التعرف على الصبية التي كانتها حين كان اسمها نهاد حداد وتقيم بكنف اهلها في الغرفة المتواضعة بمحلة زقاق البلاط. ف "الستار الحديدي" الذي جعلت الصحافة الفنية تكثر من اشاعة الحديث عنه بدءا من اواسط الستينات وحتى اواسط السبعينات، معتبرة ان الاخوين رحباني ضرباه حول فيروز، ليس الا كناية عن "الدراما النجومية" وعن "الدراما العائلية" اللتين كان على المغنية ان تشق طريقها بين حديهما، إن في حياتها الشخصية او الخاصة وإن في حياتها الفنية ذلك لأنه من دون تسلل شبهة درامية واستدخالها بهذا القدر او ذاك في حياة النجوم الخاصة وفي حياتهم الفنية - وهي الشبهة التي تعمل كواليس الحياة الفنية على نسج مادتها والعيش من تسويقها واشعاعتها لتشكل ركيزة الكاريزما النجومية وعمادها - من دون هذه الشبهة الدرامية لا حياة للنجوم، مهما اختلفت القيم والمثالات والهوامات التي تشكل كاريزما هذا النجم او ذاك وتفاوتت، فعلا شأنه او اتضع.
ربما تكون الصحافة الفنية الشعبية اصابت في استعارتها عبارة "الستار الحديدي" من القاموس السياسي الذي شاع في وصف النظام الشيوعي في الاتحاد السوفياتي سابقاً، واستخدمها هذه العبارة في حقل آخر للكناية بها عن المرتكزات الخفية او المضمرة للدراما النجومية والعائلية الفيروزيتين. فبينما كان "الستار الحديدي" الذي كان مضروباً حول الاتحاد السوفياتي يعمل من وجه اول على حجب البؤس والارهاب والتحقير والذل... التي كان ينزلها الحزب البلشفي الحاكم بشعوب الاتحاد، كانت الايديولوجيات الشيوعية من وجه آخر تنصب النظام السوفياتي مثالاً يحتذى، بصفته النظام الارضي الوحيد الذي يشيع السلم والعدل والحق والمساواة والقيم الانسانية المثلى. اما الستار الذي زعمت الصحافة الفنية انه ضرب حول فيروز فلم يكن في الحقيقة حديدياً، بل اثيرياً واشبه بغلالة اسدلت على شخص المغنية وجسمها لتطهيرهما مما يلابس حياة البشر ووجودهم الماديين بصفتهم كائنات ارضية تسعى وتعيش بلحمها ودمها. وذلك بقدر ما هو صوتها اثيري وملائكي وشفاف ومتطهر مما هو بشري وارضي ومن لحم ودم.
وبقدر ما كان وجه هذا الستار اثيرياً وشفافاً، كانت بطانته سميكة وضيقة لتحجب ما يدور خلفه من تنازع واضطراب وقلق وتمزق... هي في منزلة الاصل او الركن من كل وجود واجتماع بشريين.
كان احتجاب ما هو ارضي وبشري خلف بطانة النقاب الاثيري الشفاف الذي اظهر فيروز كما لو انها من جنس آخر، في اصل نجومتها وعلو كعب هذه النجومية عن ستائر المغنيات، الا نجومية "كوكب الشرق"، ام كلثوم التي كانت في وجه من وجوهها تتقاطع مع نجومية "سفيرة لبنان الى النجوم". اما ما احتجب خلف بطانة النقاب الاثيري الشفاف من نجومية فيروز، فلم يكن، كما اشيع، ويشاع، غير الحزن والالم والتنازع والصمت القسري والتشوش والتعتيم على السيرة الحياتية التي لم يظهر منها سوى شذرات قليلة... هذا فضلاً عن الزواج الاحادي المضطرب او القلق والدراما العائلية التي تبدأ بولادة الابن الثاني هلي مقعداً وتنتهي بالموت الغامض للابنة الثالثة ليال، مروراً بالجلطة الدماغية التي اصابت الزوج عاصي الرحباني واودت بحياته بعد آلام وعذابات مفجعة وبعد انفصال الزوجين عاصي وفيروز وتفشي التنازع في اركان المؤسسة الرحبانية - الفيروزية وانهيارها بالتزامن مع انهيار لبنان في مجاهل الحروب الاهلية - الاقليمية الدامية.
الانفصال والانحدار الشاق
يشكل انفصال الراحل عاصي الرحباني وفيروز، زوجياً وفنياً، المرحلة الثالثة المستمرة من حياة فيروز وعمرها. هي هجرت منزلهما المشترك في الرابية واصطحبت ابنها المقعد هلي واقامت في شقة في بناية في منطقة الروشة - بيروت، فيما عاش عاصي السنوات الاخيرة من حياته في المنزل الذي ضمه وزوجته سابقاً في المنطقة الرابية. كلا الاثنين عاش وحيداً وفي شبه عزلة مؤلمة. اما توأم عاصي الفني، منصور الرحباني، فحاول جاهداً ووحيداً ان يتابع ما كانت المؤسسة الرحبانية - الفيروزية أرست دعائمه الفنية، فقدم عملين مسرحيين غنائيين او ثلاثاً لم يكن لها المكانة والبريق اللذين كانا للاعمال الرحبانية السابقة، كأن منصور حاول ويحال عبثاً ومن غير جدوى احياء رميم المؤسسة التي اقترن اسمها واقترنت شهرتها بفيروز واخيه الراحل وبلبنان قبل ان تحوله الحروب الطاحنة الى رميم ومزق لا جامع بينها.
فيروز، بعد انفصالها عن عاصي الرحباني، حاولت اكثر من مرة اقامة مهرجان او حفلة غنائية في لبنان، لكنها كانت تتراجع متهيبة من الامر في اللحظات الاخيرة: مرة، في السنوات الاولى من الثمنينات، حاولت إحياء حفلات غنائية في البيكاديللي، فأعلن عن مواعيد الحفلات وحجز الجمهور بطاقات... لكن الحفلات الغيت بسبب احدى جولات الحرب المتعاقبة، فلم تغن فيروز في البيكاديللي التي كانت تحن وتشتاق للوقوف على خشبة مسرحها كما في السنوات الخوالي. وها اربع عشرة سنة تمر في سرعة من دون ان تقف فيروز على تلك الخشبة التي وقفت عليها للمرة الاخيرة في مسرحية "بترا" عام 1978. وبعد هذا التاريخ لم تقف فيروز بتاتاً على خشبة مسرح في لبنان، بينما كثر وقوفها على مسارح غيره من البلدان: مصر، الكويت، الاردن، فرنسا، اميركا، سورية... كأنها في ذلك تقر ان لبنان الآن يعيش خارج لبنان، فيما هي تفتتح حفلاتها جميعاً بالغناء له وتختتمها ايضاً بأغنية عن "امجاده" القريبة والتي صارت غابرة ومن الايام الخوالي. اي من "العصر الرحباني" كما قالت مرة في واحد من احاديثها الاذاعية القليلة، بل النادرة، والتي تغرق بعدها في صمت مطبق، لا يتخلله الا ظهور شريط كاسيت جديد من كلمات جوزيف حرب او غيره من الحان ابنها البكر زياد الرحباني الذي هجر قبلها في العام 1975 منزل ذويه واقام شبه متشرد في بيروت الغربية، يتكهم في ما يتكهم على الهالة النجومية للمؤسسة الفنية التي رفع اهله صرحها وعلى قيمها الجمالية والاخلاقية تهكمه على صورة لبنان وقيمه كما رسختها واشاعتها تلك المؤسسة. كأنه في ذلك يتمرد على أهله وعلى لبنان أهله، وعلى قيم نجومية امه التي كتب لها ولحن اغنية تهكمية انشدتها فيروز قائلة على غير عادة منها "تمرق علي / أمرق / ما بتمرق / مش فارقة معاي".
الحفلة الموعودة
حدث هذا كله فيما اقطاب المؤسسة الرحبانية - الفيروزية واعلامها يتفرقون أيدي سبأ ويموتون موتاً دراماتيكياً: نصري شمس الدين مات بسكتة قلبية وهو يغني على مسرح في الاردن، فيلمون وهبة مات في صمت، بعد ان تسرب الشقاق الى علاقته الوطيدة بالاخوين رحباني، فلحن لفيروز بعضاً من اغنياتها الاخيرة. صبري الشريف مدير المسرح الرحباني ومخرجه، يعاني سكرات الموت وحيداً في منزله بشارع بدارو على مسافة خطوات من مكتب الاخوين رحباني القديم الذي اصابه ما اصاب لبنان، ولا يدخل اليه الا منصور الرحباني وحيداً، يقفل الباب المخلع العتيق خلفه ويضيء مصباحاً شحيح الضوء فوق طاولة مكتب قديم اهترأ خشبه... لينكب على كتابة عمل مسرحي جديد قال انه عن سقراط او مستوحى من سقراط، اما فيروز فقد طبعت مؤخراً على ديسك وعلى اشرطة كاسيت واحدة من المسرحيات الغنائية الرحبانية القديمة. هي "هالة والملك"، باعتبار انها لم تطبع من قبل ولم توزع. كأنها في ذلك تكافح الصمت والعزلة اللذين يلمان بها في هذا الزمن الذي سمته التخثر والمراوحة والتفسخ...
ورب من يقول ان فيروز كثيراً ما تتحدث عن رغبتها في احياء حفلة غنائية في لبنان، على ان يكون احياء هذه الحفلة في مكان فسيح وفي الهواء الطلق وفي منطقة بين "البيروتين"... وعل ذلك يحدث في "سباق الخيل" مثلاً... لكن هيهات ان يستعاد ذلك الزمن الغارب... وهب انه استعيد ووقفت فيروز على خشبه مسرح اقيم في وسط سباق الخيل الفسيح، وهب انها التفتت في الجهات وهي تغني، فماذا ستبصر عيناها من لبنان "الصخرة التي علقت بالنجم"، او "لبنان يا اخضر - حلو" او "لبنان الغني، لبنان القوي، لبنان الهني... لبنان"؟ لا بد لها ان تبصر ابنية مهدمة او منخورة بالرصاص، فيما المتحف الوطني المتصدعة اجنحة منه يغرق في صمته الكئيب...
هل من المجدي، بعد، ان نتساءل: من اين يتسرب هذا الشحوب الى الاشياء؟ ولماذا لم يتوقف الزمن ليكشف عن تألق هذه الاشياء وزهورها، وعن ناس بلا أعمار، كما في اغنية؟!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.