في هذه اللحظة بالذات فإن مفكري وصانعي القرار الاميركي يشعرون بأن الخريطة السياسية المطروحة امامهم الآن تؤكد ان الولاياتالمتحدة اصبحت قادرة على ان تنفرد بحل كل المشاكل والصراعات في العالم، وبالتالي فإن من حقهم اعادة ترتيب العالم كله بما يتمشّى مع غايات واهداف الامن القومي الاميركي والمصالح القومية للولايات المتحدة. وقد عبر الرئيس بوش عن هذا الموقف بقوله ان بلاده "تستطيع ان تتحمل مسؤولية قيادة العالم، فلديها القوة والارادة والاحساس بالتاريخ". والعالم الجديد الذي يصفه جورج بوش هو عالم انتهت فيه الحرب الباردة وانسحب فيه الاتحاد السوفياتي مع كتلته الشيوعية من الساحة تاركا الحلبة للعملاق الاقتصادي والسياسي والعسكري الباقي على الساحة وهو الولاياتالمتحدة الاميركية. هذه هي حقيقة العالم الجديد الذي تتحدث فيه الولاياتالمتحدة عن نظام جديد تحكمه السياسة والمصالح القومية التي لا تعترف بالعواطف ولا تعرف الرحمة. وهو نظام يقوم على اساس الواقع الذي يعيشه العالم الآن، وعلى رغم ذلك فإن النظام العالمي الجديد الذي تحكمه حاليا الولاياتالمتحدة سوف يسمح بصراعات اقليمية في اطار محدود ومحكوم، وسوف يتم ايجاد الحل في الوقت الذي تقرره الدولة العظمى الوحيدة في العالم، كما ستقوم هذه الدولة العظمى بنفسها بالتدخل في المناطق الاقليمية لتسوية الاوضاع، وتوفير المناخات السياسية والعسكرية الملائمة لاهداف الولاياتالمتحدة في العالم. ومن هذا المدخل تأتي مشكلة الخلاف الليبي - الاميركي. وبداية يقوم الموقف الاميركي على اسس نظرية عدة ترى الولاياتالمتحدة من وجهة نظرها انها تشكل حجر الزاوية في موقفها الامني الجديد من العالم، واهم هذه الاسس هي: 1- اصبحت التركيبة الامنية بعد انتهاء الحرب الباردة وانحلال الاتحاد السوفياتي تتشكل من عدد من العناصر المتداخلة، العسكرية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والبيئية، والتي لم يتضح حتى الآن محتواها وكيفية تفاعلها، وهي تشكيلة تحمل في ذاتها الكثير من العناصر، ولعل العامل الوحيد الواضح في هذه التركيبة هو ان التهديد بنشوب حرب شاملة - تقليدية او نووية - انتهى. 2- صحيح انه لم يعد هناك تحديد وا ضح مباشر، بل صورة عن خطر جديد غير واضح المعالم ينبعث من المصير المجهول الذي ينتظر العالم خلال تشكيل النظام الدولي الجديد، ومن انتشار اسلحة الدمار الشامل الذي لا يخضع للسيطرة، خصوصا في الظروف الحالية التي يتفكك فيها ما تبقى من الاتحاد السوفياتي ووجود المواد النووية والعلماء على الساحة المفتوحة لمن يستطيع الشراء. 3- لقد اختلفت آراء خبراء الدفاع حول كيفية مواجهة هذا الخطر الجديد الذي يزيد من خطورته عدم اليقين السياسي من النتائج النهائية التي ستسفر عنها حركة دول العالم لاتخاذ اوضاعها في اطار النظام العالمي الجديد. وعلى رغم ذلك فقد استقر الرأي على ان تتولى الولاياتالمتحدة مسؤولية هذا النظام العالمي وتبقى كقوة وحيدة على رأسه، وألا تسمح بوجود قوى اخرى مناوئة لها على الساحة العالمية. 4- على الصعيد السياسي العالمي فقد استقر الرأي على دعم المؤسسات السياسية الدولية المختلفة - من الاممالمتحدة حتى وكالة الطاقة النووية - مع ضرورة اتخاذ عدد من الاجراءات الاقتصادية والاجتماعية - وايضا العسكرية - لمواجهة هذه الاخطار الجديدة، والعمل على ازالة الاسلحة النووية، خصوصا من دول العالم الثالث، على رغم ان وقف انتشار المعرفة التكنولوجية والاسلحة النووية والكيماوية والبيولوجية تماما أمر غير ممكن. 5- على الصعيد الاستراتيجي العسكري، فعلى رغم انتهاء الحرب الباردة وتحول العالم الى نظام جديد وزوال الاخطار الحقيقية المواجهة للعالم الحر فإنه يجب الابقاء على عناصر وأدوات الردع في حده الادنى، تحسبا لأية تطورات في المستقبل، وحفاظا على النظام العالمي الجديد، وهو ما يعرف باستراتيجية "الردع الادنى" او "الردع المنخفض" والتي تتم خلالها اجرءات تخفيضات مناسبة في الترسانة النووية الاميركية، على ان يحقق ما تبقى من هذه الترسانة هدف الاستراتيجية وهو استمرار ردع الخصم او الخصوم المحتملين في أية بقعة من بقاع العالم. وبناء على هذه الاسس، وبصفة خاصة استراتيجية "الردع المنخفض"، وفي اطار التخطيط لاحتياجات الاستراتيجية العسكرية للولايات المتحدة خلال فترة ما بعد انتهاء الحرب الباردة، فقد وضع خبراء وزارة الدفاع الاميركية "سيناريوهات" لأزمات دولية محتملة خلال فترة السنوات العشر المقبلة، قد تستدعي تدخل القوات الاميركية في مناطق مختلفة من العالم. وقبل ان نذكر هذه السيناريوهات يجب ان نشير الى انها تمثل بعض النماذج التي يمكن ان تلجأ خلالها الولاياتالمتحدة الى التدخل في المناطق الاقليمية لتحقيق اهدافها القومية، والتي يمكن ان تدخل ليبيا وبعض الدول الاخرى في اطارها، اذا خرجت عن الخط العام الذي ترسمه السياسة الخارجية للولايات المتحدة، ويؤكد ذلك ان البنتاغون يصنف هذه "السيناريوهات" باعتبارها "مفترضة" وليست "متوقعة"، ولكنه سيعتمد عليها في التخطيط الاستراتيجي المستقبلي للسياسة الدفاعية الاميركية. 7 سيناريوهات وقد حددت الوثائق الاميركية في هذا الشأن سبعة سيناريوهات "مفترضة" من المفيد ان نلقي الضوء عليها قبل الحديث عن ارتباطها بأزمة الخلاف الليبي- الاميركي، وهذه السيناريوهات هي: 1- عودة العراق الى غزو الكويت. 2- هجوم كوري شمالي كاسح على كوريا الجنوبية. 3- تزامن الغزو العراقي والهجوم الكوري. 4- هجوم روسي بمعاونة روسيا البيضاء على دول البلطيق الثلاث "استونيا ولاتفيا وليتوانيا". 5- انقلاب عسكري في الفيليبين يهدد ارواح الاميركيين هناك. 6- انقلاب عسكري في باناما يغلق قناتها في وجه الولاياتالمتحدة. 7- بروز قوة عظمى جديدة "ذات اطماع توسعية" تشكل تهديدا لمصالح الولاياتالمتحدة على مستوى العالم. وفي اطار هذه السيناريوهات "المفترضة" اصدرت وزارة الدفاع الاميركية تعليماتها الى القيادات العسكرية المختلفة بتحديد طلباتها من القوات والاسلحة الكافية لخوض حربين اقليميتين معاً على الاقل، وفي الوقت نفسه تتولى المؤسسة العسكرية الاميركية الاشراف على حملة شاملة في اوروبا بهدف منع روسيا من اتباع سياسات توسعية، وعلى رغم ذلك فإن هذه السيناريوهات الاميركية "المفترضة" لا تعني على الاطلاق اقتصار الامر على اي من هذه المناطق الساخنة فقط، بل قد يتعدى الامر هذه الحدود ليصل الى مناطق اقليمية اخرى، قد تشكل - من وجهة نظر الولاياتالمتحدة - تهديداً للامن القومي الاميركي. وتفيد سياسة الدفاع الاميركية التي ما زالت في طور الصياغة، بضرورة سعي الادارة الاميركية الى الحصول على تأييد دولي لتوجيه ضربات عسكرية الى أية دولة صغيرة "معادية" اذا لم تكن هناك طريقة اخرى لمنعها من تطوير اسلحتها النووية والكيماوية والجرثومية، وفي اطار ذلك يجب ان تشن الولاياتالمتحدة هجمات عسكرية غير نووية لتدمير المنشآت الخاصة بتطوير هذه الاسلحة في البلدان "المعادية"، اذا فشلت جميع الجهود الاخرى في وقف هذه العملية، وتستمر هذه السياسة الدفاعية الاميركية في تصور ضرورة قيام الولاياتالمتحدة بشن هذه الضربات من دون الحصول على هذا التأييد الدولي. اي انها شريعة الغاب، التي يفترس فيها الحيوان الكبير في الغابة بقية الحيوانات من دون الاخذ في الاعتبار أية قيم او مبادئ او اية شرائع او قوانين. وفي تفسيره لهذه السياسة كشف الرئيس بوش عن خطته الرامية الى اخلاء الشرق الاوسط من اسلحة الدمار الشامل، والتي يدعو فيها الدول العربية وبعض الدول الاخرى الى التخلي عن تصنيع او استيراد المواد التي يمكن ان تستخدم في تصنيع الاسلحة النووية وتجميد انتاج واختبار الصواريخ ارض - ارض وحظر الحصول علىها من جانب دول المنطقة بهدف ازالة هذه الصواريخ بشكل نهائي من ترسانات اسلحة هذه الدول التي ذكرت "ليبيا" بالاسم من بينها. لقد اكتملت الصورة الآن ويمكن تصور خطوطها الرئيسية كالآتي: 1- اصبحت الولاياتالمتحدة القوة العظمى الوحيدة على رأس النظام العالمي الجديد، ومن هذا الموقع تعتبر الولاياتالمتحدة نفسها مسؤولة عن العالم كله. 2- على رغم غياب التهديد فما زالت الولاياتالمتحدة تحتفظ بقوات قادرة على توفير "حد أدنى" من الردع تحسبا لأية تطورات في المستقبل وحفاظا على النظام العالمي الجديد. 3- في اطار هذا النظام العالمي الجديد، تعطي الولاياتالمتحدة لنفسها الحق في التدخل في المناطق الاقليمية لتسوية الاوضاع فيها لصالحها، وفي توجيه ضربات عسكرية، في صورة هجمات عسكرية غير نووية، ضد اية دولة صغيرة "معادية" تخرج عن الخط العام للسياسة الخارجية الاميركية خلال صياغتها للعالم الجديد. 4- ترى الولاياتالمتحدة ان ليبيا من هذه الدول الصغيرة "المعادية" التي تحاول تطوير قوتها المسلحة بإضافة قدرات جديدة للتدمير الشامل الى قدراتها التقليدية، وبالتالي فهي تستدعي توجيه هذه الضربات غير النووية لتجريدها من هذه القدرات الجديدة "المتصورة". 5- تخرج اسرائيل من هذه المعادلة الامنية لأنها دولة "غير معادية"، وفي اطار سعيها لترتيب الاوضاع الاقليمية في الشرق الاوسط تحاول ابقاء اسرائيل القوة النووية الوحيدة في المنطقة مع ضمان عدم وجود اي قوى اخرى تنافسها في المجال النووي وايضا في المجال فوق التقليدي: الكيماوي والبيولوجي. هذه هي اسس الموقف الاميركي والاسانيد والدعائم الحقيقية التي تستند اليها اميركا في توجيه تهديداتها المختلفة الى ليبيا، فهل سيقبل العرب ذلك؟ وهل ستنجح الولاياتالمتحدة في تحقيق اهدافها ضد ليبيا؟ هذا ما سوف تسفر عنه الاحداث في المرحلة المقبلة، وان كنا نرى خطورة استمرار الولاياتالمتحدة في هذه المساعي حتى على الولاياتالمتحدة نفسها. * رئيس الوحدة الاستراتيجية والعسكرية في المركز القومي لدراسات الشرق الاوسط في القاهرة.