يجمع اهل الفن السابع على ان صلاح ابو سيف هو احد المخرجين العرب العمالقة الذي استطاع تجسيد الواقع المصري بشكل لم يستطع الا قلة من المخرجين المخضرمين فعله. وقد اعتبره المخرج يوسف شاهين "استاذا في خلق المناخ الملائم لحركة الفيلم"، بينما قال الناقد الفرنسي كلود - ميشال كلوبي: "ان السينمائيين الشبان يدينون له بكونه شق امامهم درباً صعبة…". على هذا الاساس تحاول "الوسط" سبر اغوار ظاهرة صلاح ابو سيف في السينما العربية والسفر في حياته واعماله من خلال مقابلة مطولة اجريت معه في القاهرة وتنشر على حلقات ثلاث، الآتية هي الاولى منها: المشهد الاول: حي بولاق - القاهرة، العام 1927 - الموضوع: طفل في الثانية عشرة من عمره يكتشف سحر الصور المتحركة للمرة الاولى. بطريقة غامضة كان سمع بهذا الفن الجديد، مد يده الى جيبه فوجد قرشا واحدا، وكان كافيا لشراء البطاقة… سارع الى شرائها ودخل الى الصالة المظلمة ليجلس في الصف الامامي "لرغبة مني في ان اتمكن من التواصل المباشر مع الشاشة"، كما سيقول بعد اكثر من ستين عاما. كان من الطبيعي ان يكون الفيلم الاول شريط "البنك" لشارلي شابلن، مع فيلم ايطالي يتحدث عن طرزان… وكان السحر على الطفل كبيرا الى درجة انه حين عاد الى البيت بعد ذلك لم يستطع الا ان يبوح بكل شيء لأمه، فكانت النتيجة "علقة" قاسية… لكن تلك "العلقة" لم تمنع الطفل من ان يواصل علاقته مع السينما بشغف وحب منذ تلك اللحظة. المشهد الثاني: مرسيليا، فرنسا، خريف العام 1939 - الفتى نفسه وقد صار شابا في الرابعة والعشرين… حب السينما لا زال يملأ قلبه ووجدانه… ويشعره في تلك اللحظة بالذات بكثير من الاكتئاب. هنا في تلك المدينة المرفئية الفرنسية حيث راح، وبقية الطلبة المصريين ينتظر السفينة التي ستهرب بهم الى الوطن بعيدا عن جحيم الحرب المندلعة، واصل الشاب طوال تسعة عشر يوما استعادته في ذهنه للشهر الذي كان قضاه في باريس وقد قصدها لدراسة السينما فباغتته الحرب قاطعة عليه حلمه… لكن ضجيج الحرب والاسلحة لم يمنعه من ارتياد قاعة "الاورسلين" صالة للفن والتجربة بصورة يومية لمشاهدة ما تيسر له في كلاسيكيات السينما، بمعدل فيلمين او ثلاثة في اليوم الواحد… المشهد الثالث: القاهرة، خريف العام 1991 - الفتى الشاب نفسه وقد صار قمة من قمم السينما العربية، يبتسم دائما ويتذكر تلك السنوات مستعرضا شريط الذكريات ويقول بكل هدوء "لا… لست نادما على عمر قضيته في السينما ومن اجل السينما". صلاح ابو سيف، يحصي اليوم السنين، ويرسم جردة الحساب، وهو يقترب من عامه الثمانين، شابا كما الشباب يرسم للمستقبل احلاما وآمالا… ويراجع كل فيلم من الافلام التي تملأ تاريخ نشاطه السينمائي، فيتذكر اللقطات والمشاهد ويقول: "لو فعلت هذا هنا… لو اضفت هذه الشخصية هناك…". ويضحك من بعض نقاط الضعف، ويوافق محدثه، بكل تواضع، على انتقادات قد تكون في غاية القسوة، حتى ولو تناولت احدث اعماله واكثرها التصاقا بحاضره. صلاح ابو سيف، هو اليوم، الى جانب يوسف شاهين وتوفيق صالح، وهنري بركات، وعاطف سالم وكمال الشيخ، آخر من تبقى من عمالقة العصر الذهبي للسينما الواقعية في مصر وصلاح ابو سيف هو الاسم الذي يتردد اكثر من غيره عند الحديث عن اولئك الذين يشكلون مرجعية السينما الجديدة الناهضة في مصر، وفي العالم العربي اليوم. وهو الاسم الذي يقترن بأجمل الافلام القاهرية المرتبطة بأسماء ادباء مصر الكبار، من نجيب محفوظ الى احسان عبدالقدوس، ومن امين يوسف غراب الى صالح مرسي الى محمد كامل حسين. ويوسف السباعي. صلاح ابو سيف هو الاسم الذي يرتبط بأفضل نجاحات فاتن حمامة وسعاد حسني، تحية كاريوكا وعزت العلايلي، شمس البارودي وأمينة رزق وشكري سرحان واحمد مظهر، اكتشف بعضهم واكتشف افضل ما عند البعض الآخر، اعطاهم بعض اجمل ادوارهم سواء أكانت ادوارا كبيرة او صغيرة… صلاح ابو سيف هو الاسم الذي يرتبط بالحارة المصرية، بأفلام الصراع الاجتماعي، بأفلام النقد السياسي، بالافلام التي تحول اصعب المواضيع واخطرها الى صور حادة قاسية، واكبر النجوم الى ممثلين من الطراز الاول. صلاح ابو سيف هو "لك يوم يا ظالم"، "الفتوة"، "السقّامات"، "فجر الاسلام"، "القاهرة 30" و"القضية 68" و"الزوجة الثانية" و"حمام الملاطيلي"… وهو ايضا صاحب تلك السلسلة العاطفية التي اخذت في سنوات الستين عن روايات احسان عبدالقدوس. اسرة فقيرة لأب ثري "ولدت في العاشر من أيار مايو من العام 1915 في بولاق، احد اكثر احياء القاهرة شعبية، من عائلة فقيرة، رغم ان ابي كان ثريا الى حد ما، في مقاييس ذلك الزمن. غير ان علاقاتي مع والدي لم تكن طيبة على الاطلاق، وربما كان بامكان من يتتبع افلامي بشكل دقيق ان يلاحظ انعكاس ذلك على بعض شخصيات تلك الافلام". حتى اليوم، لا تزال موجة من المرارة تعتري صلاح ابو سيف كلما ذكرت امامه كلمة "أب"… فوالده كان رجلا ثريا لا رجلا هاما… يعيش حياته غارقا في امواله، ورغم ذلك لا اكتمك انني عشت في فقر تام، فأبي رفض على الدوام ان يحيطني بحنانه او ان يسمح لي بالتمتع بشيء من ثرائه… وذلك، بكل بساطة لأن امي كانت تصر على ضرورة ان اواصل دراستي فيما كان ابي يرفض ذلك معتبرا ان لدينا من الثروة ما يغنينا عن طلب العلم… واستفحل الخلاف مما جعلني اعيش بعيدا عن والدي محروما من حنان الاب… غير ان امي عرفت كيف تعوض علي ما افتقدته. في النهاية كان من الطبيعي ان تزول ثروة ابي، وبقي لي ما درسته… وما درسته هو الذي مكنني من ان ارسم مستقبلي…". في البداية، التحق صلاح ابو سيف باحدى الثانويات فدرس التجارة وبرع فيها، ولكن لئن كان عقله قد ارتبط بالتجارة والارقام، فان فؤاده ظل معلقا عندما كان الناس يطلقون عليه يومها اسم "الشاشة الفضية"… وهكذا لم يكن يفوته فيلم جديد، وظل طوال سنوات العشرين والثلاثين مواظبا على مشاهدة الافلام، وقراءة كل ما له علاقة بالسينما ونجومها وتقنيتها، واقدم في بعض الاحيان على الترجمة - عن الايطالية التي كان يتقنها - في مقالات عدة عن السينما، وفي بعض الاحيان كان يكتب مقالات في النقد السينمائي يتناول فيها ما كان يراه من افلام. "كانت تلك هي الفترة التي وصلت فيها هوايتي السينمائية الى أوجها، وكنت راغبا في ان اقول لكل الناس انني احب السينما وان بامكاني ان اتحدث عن السينما. يومها كان صنع السينما لا يزال حلما بعيدا… حلم سوف يرى بداية تحققه بعد ذلك بسنوات قليلة، وبطريقة تمت الى عنصر المصادفة. ففي العام 1934، وكنت اعمل في الادارة التجارية بمصنع النسيج التابع لبنك مصر في المحلة الكبرى، حدث ان جاء المخرج نيازي مصطفى ليصور فيلما وثائقيا عن احوال المصنع، فأسرعت اليه عارضا خدماتي مستعرضا ما اعرفه عن السينما واسرارها، فدهش الرجل وسألني اذا كنت احب السينما الى هذا الحد فلماذا لا أعمل فيها بدلا من العمل الاداري الرتيب؟ وكانت النتيجة ان الحقني نيازي باستديو مصر، كمساعد مونتير مساعد مؤلف… وكان الاستديو تأسس في ذلك الحين، ثم سرعان ما اصبح مدرسة متميزة لكل الشبان الراغبين في خوض غمار الفن السابع. وكان الاستديو منذ تأسيسه حسن التجهيز، وكان يعمل فيه تقنيون من الالمان والروس البيض والفرنسيين… ولما كان من سياسته ان يتيح للشباب العامل فيه فرصة السفر للاطلاع على احدث ما توصلت اليه التقنيات السينمائية في الخارج، قيض لي ان اسافر الى فرنسا، بعد سنوات قضيتها في العمل في صالة المونتاج… لكن تلك الرحلة وقعت ضحية الحرب، فعدت الى مصر وقد تملكتني خيبة شديدة، هذا على رغم ان الاسابيع القليلة التي قضيتها في فرنسا، مكنتني من مشاهدة عشرات الافلام، واسست لدي حساسية سينمائية جديدة…". من العزيمة الى الواقعية غير ان صلاح ابو سيف كان قبل سفره الى فرنسا، خاض اول تجربة سينمائية حقيقية له: التجربة التي اسست عنده لتلك النزعة الواقعية التي طبعت كل حياته بعد ذلك: تجربة العمل في "العزيمة" اخراج كمال سليم، 1939 الذي سيدخل التاريخ بعد ذلك من بابه الواسع، بوصفه اول فيلم مصري واقعي، يخرج عن اطار السينما السائدة. سينما الاحلام المفبركة والحكايات الخيالية. في ذلك الفيلم الرائد، قام صلاح ابو سيف بأكثر من دور، فهو شارك في كتابة السيناريو، وساعد في الاخراج، وتولى تقنيات التوليف في تلك الفترة، يقول صلاح ابو سيف، "كانت الافلام المصرية من نوعية افلام التلفون الابيض، يدور معظمها في البيوت الراقية، وتبدو شخصياتها وكأنها قادمة من عوالم اخرى. في "العزيمة" جلبت الشاشة للمرة الاولى شخصيات مستمدة من دينامية الواقع المحلي، من الحلاق الى الجزار، ومن الموظف الصغير الى الفران الى ابناء البلد الآخرين صحيح ان الحارة التي دارت فيها احداث الفيلم بنيت ديكورا في الاستديو، لكن البناء، كان من الواقعية بحيث ان كل الذين شاهدوا الفيلم اعتقدوا انه مصور في حارة حقيقية…". هذه التجربة سيكررها صلاح ابو سيف مرات عديدة، وسينجح في انجازها حينما سيصبح مخرج الواقعية الاول في مصر، ولا سيما في افلام من طراز "الفتوة" و"لك يوم يا ظالم" و"السقّامات" و"حمام الملاطيلي"، لكنه في ذلك الوقت المبكر كان لا يزال مقتنعا بدوره الثانوي راصدا ما يدور حوله، منتظرا الفرصة التي سوف تسنح له لكي يتمكن من مواصلة تحقيق حلمه وانجاز فيلمه الاول. والطريف ان هذا المخرج الذي تأسس على الاحساس بالواقع، وبدأ عمله كمخرج في العديد من الافلام التسجيلية التي تراوحت بين تصوير الحياة الشعبية في القاهرة والريف، وانبثاق النفط في مصر والحياة اليومية في السودان وتصوير بعض مظاهر الحياة الفولكلورية، الطريف انه حين واجه العمل السينمائي للمرة الاولى كمخرج لفيلم روائي طويل، حقق فيلما دراميا رومانسيا مقتبساً عن فيلم اميركي هو "جسر واترلو" لملفين ليروا. كان ذلك في العام 1946، العام الذي شهد ولادة صلاح ابو سيف كمخرج جديد يضاف الى سلسلة المخرجين الذين كانوا، حينها، يعتاشون على اقتباس الشرائط الايطالية والاميركية، خاصة. "صحيح ان فيلمي الاول كان مقتبسا، ولكن الانصاف يقتضي مناان نعترف اليوم بأن الاقتباس كان ناجحا الى درجة ان قلة من الناس ادركت ان الموضوع غير مصري…". كان ذلك هو فيلم "دايما في قلبي" من تمثيل عقيلة راتب وعماد حمدي ودولت ابيض ومحمود المليجي… شريط عن حياة وآلام فتاة يتيمة تتآمر عليها الاقدار وتصل الى حافة اليأس… قبل ان تنجلي الغيوم في نهاية الأمر!! "دايما في قلبي" يتخذ اهميته من دوره التاريخي كأول فيلم حققه ذاك الذي سوف يصبح لاحقاً رائدا كبيرا من رواد الواقعية… لكن كان على صلاح ابو سيف، قبل ان يقفز تلك الخطوة، كان عليه ان يعزز من تقنياته وان يتعرف الى ذاك الذي سوف يصبح، لفترة طويلة من الزمن، اناه الآخر: نجيب محفوظ. ولئن كان ابو سيف هو الذي اكتشف البعد السينمائي في عمل عميد الرواية العربية، ووجهه اكثر واكثر في اتجاهه، فالحال ان محفوظ كان هو الذي عرف كيف يعزز من نزعة صلاح ابو سيف الواقعية ويطبعها بميسمه. "مهما يكن، يقول ابو سيف، صحيح ان محفوظ قد عزز من نزعتي الواقعية، لكنني كنت منذ عملي في "العزيمة" قد صنعت لنفسي توجها لم احد عنه بعد ذلك كثيرا، توجه في اتجاه التعبير السينمائي عن القضايا الاجتماعية، وعن الشرائح البسيطة والفقيرة في المجتمع. ويعود هذا الى ولادتي ونشوئي في حي بولاق الفقير، حيث عايشت صراع الفقراء من اجل البقاء… هذه المعايشة هي التي جعلتني اقرر، منذ البداية تخصيص نشاطي الفني كله للتعبير عن حياة البسطاء وتصوير صراعاتهم، وافراحهم وخيباتهم". حكاية طويلة مع نجيب محفوظ قبل ان يلتقي صلاح ابو سيف بنجيب محفوظ بعيد الحرب العالمية الثانية، كان ادرك مدى حاجة السينما المصرية الى وجود كاتب سيناريو جدي وحقيقي، وكان ذهنه بدأ يبحث بشكل جدي عن ذلك الكاتب، بين اسماء نخبة كتاب مصر في ذلك الحين: "من هنا… كان سروري كبيرا حين تعرفت على نجيب محفوظ، وادركت فوراً ان هذا الرجل سوف يلعب دورا كبيرا في تقدم السينما المصرية". هل تحدثنا، مرة اخرى، عن الكيفية التي تعرفت بها على نجيب محفوظ، وعلى بداية التعاون بينكما؟ - "بالتأكيد، يقول صلاح ابو سيف مبتسما وهو يستعيد شريط الذكريات، بالتأكيد لأن هذا الحديث هو الحديث الذي اجد فيه متعة خاصة، اذ ان علاقتي مع محفوظ بدأت مع بدايات محفوظ نفسه ككاتب واقعي بعد خروجه من مرحلة الرواية التاريخية.للمرة الاولى التقيت نجيب محفوظ في العام 1945، بعدما كنت سمعت باسمه كثيرا من اصدقاء عديدين لم يكن الواحد منهم يكف عن ابداء اعجابه به وبكتاباته. ولقد انضممت بدوري الى نادي المعجبين به حين حصلت على رواياته الاولى وقرأتها… وبعد شهور حين حدثني الصديقان الشقيقان، الكاتب فؤاد نويرة والموسيقي عبدالحليم نويرة، عن ضرورة الالتقاء به، تحمست على الفور والتقينا في العام 1945. ومنذ لقائنا الاول، الذي كان ودياً الى درجة مدهشة ابلغته اعجابي بادبه، وقلت له انني اعتقد بأنه انسان سينمائي بالسليقة، وان كتابته كتابة صورية، يكتب بالصورة وانه صاحب تفكير ورؤية بصريين. وسألته فجأة: لماذا لا تكتب للسينما يا استاذ نجيب؟ فوجيء الرجل بسؤالي وبدا عليه ان الامر كله يقف خارج نطاق اهتمامه وقال: كيف اكتب للسينما وانا لا افهم شيئا بالنسبة الى هذه الكتابة؟ قلت له ان مخيلته تبدو وكأنها مخلوقة للعمل السينمائي. فابتسم وقد اعتقد - كما تبين بعد ذلك - ان الامر لا يعدو كونه حديثا عابرا. اما انا فكنت عند كلامي، وقد قررت الا اترك تلك الامكانية للعثور على كاتب سيناريو حقيقي تفلت من يدي. وهكذا ما ان التقيت به في المرة الثانية حتى اعطيته مجموعة من الكتب الاجنبية المتحدثة عن فن كتابة السيناريو". كانت تلك، اذن، هي بداية علاقة نجيب محفوظ بالسينما، العلاقة التي تواصلت بعد ذلك، وجعلت بعض اعظم الافلام المصرية يحمل توقيع صاحب "الثلاثية" اما ككاتب للسيناريو او ككاتب للقصة، ناهيك عن عشرات الافلام التي اقتبست عن روايات محفوظ وقصصه. ولكن في ذلك الوقت المبكر اكتفى محفوظ من العمل السينمائي بالاشتراك مع صلاح ابو سيف وسيد بدير في العمل على سيناريوهات سرعان ما بدت مختلفة عن السينما السائدة. "خلال الشهور التالية لذلك اللقاء الثاني، راح نجيب محفوظ يقرأ الكتب التي اعطيتها له بنهم، كما ازداد ارتياده للصالات السينمائية، وسرعان ما امتزجت لديه ثقافته الجديدة المكتسبة، مع قوة تفكيره ومخيلته الدرامية. وكان اول عمل تشاركنا في كتابته، بعد انضمام سيد بدير الينا، هو سيناريو فيلم "مغامرات عنتر وعبلة". وكان هذا الفيلم انجز قبل فيلمي التالي "المنتقم" لكنه عرض بعده، ومن هنا اعتقد البعض ان "المنتقم" كان الفيلم الاول. فكرنا بپ"عنتر وعبلة" منذ العام 1945، وكتبناه وصورناه في العامين التاليين، لكنه لم يعرض الا في العام 1948. وكان من قبيل المصادفة ان يعرض في ذلك العام، عام ضياع فلسطين، خاصة واننا - لكي نميز هذا الفيلم عن فيلم مشابه حقق من قبله عن الموضوع نفسه - آثرنا ان نحمّل الفيلم رسالة سياسية، فجعلنا فيه الحروب لا تقوم بين العرب والعرب، بل بين العرب والرومان، كعدو خارجي. اليوم اشعر بالكثير من الدهشة حين اعود لمشاهدة هذا الفيلم، اذ على رغم كونه يروي حكاية غرام تاريخية، فان العديد من الحوارات التي يحملها ينادي بتلك الشعارات نفسها التي عادت ثورة 23 يوليو تموز ورفعتها بعد ذلك بسنوات مثل شعار نسالم من يسالمنا، ونعادي من يعادينا. ومن الطريف، ايضا، ان اليهودي الذي وضعناه في الفيلم جعلناه يضع عصبة سوداء على عينه… قبل سنوات من اشتهار موشيه دايان بتلك العصبة!!". الرقيب محفوظ يرفض "القاهرة الجديدة"! كان "مغامرات عنتر وعبلة" نقطة البداية لتعاون بين صلاح ابو سيف ونجيب محفوظ، وتواصل سنوات عديدة بعد ذلك، فنحن اليوم لو قلبنا "فيلموغرافيا" ابو سيف، سنجد عددا كبيرا منها يحمل توقيع نجيب محفوظ: 14 فيلما منها اثنان عن روايتين كبيرتين لمحفوظ "بداية ونهاية" و"القاهرة 30" اسم الرواية "القاهرة الجديدة"، اما الافلام الباقية، فتتوزع بين سيناريوهات كتبها محفوظ لروايات لكتاب آخرين منهم احسان عبدالقدوس وبين قصص سينمائية تصورها محفوظ شراكة مع ابو سيف مثل "بين السماء والارض" و"مجرم في اجازة" وبين - اخيراً - اعمال مقتبسة اما عن روايات من الادب العالميك "لك يوم يا ظالم" عن "تيريز راكان" لاميل زولا واما عن احداث حقيقية مثل "الوحش" و"ريا وسكينة…"…الخ. ولكن كيف كان العمل يجري بين محفوظ و ابو سيف وسيد بدير في بعض الاحيان؟ "في الحقيقة كنا نعمل مع بعضنا البعض بشكل تضامني يسوده التفاهم بحيث بالكاد يمكن لأحد ان يخمن من الذي اشتغل اكثر من غيره على هذا المشهد او ذاك. ولكن بصفة عامة كان محفوظ هو الذي يضع الاسس الدرامية فيما كنت انا من يتولى اضافة اللمسات والتفاصيل السينمائية… ثم مع الوقت ازدادت علاقتي بالرؤية الدرامية فيما ازدادت علاقة محفوظ بالرؤى السينمائية". هذا التعاون بين الاثنين تواصل بشكل غير متقطع حتى بداية سنوات الستين، وانتج - كما اسلفنا - بعض اجمل ما انتجته استديوهات القاهرة في ذلك الحين، وكانت تلك هي، من ناحية اخرى، الفترة الاكثر غزارة في انتاج نجيب محفوظ الادبي، فهي الفترة التي نشر فيها الثلاثية بعد سلسلة رواياته الاجتماعية الاولى، وكتب فيها اجمل القصص القصيرة ونشر "ابناء حارتنا" مسلسلة في "الاهرام" ووضع الصياغات الاولى لرواياته التالية ذات البعد البوليسي الميتافيزيقي، مثل "اللص والكلاب" و"السمان والخريف" و"الشحاذ" ومع هذا فان صلاح ابو سيف لم يتنطح لتحقيق رواية او قصة لمحفوظ الا في العام 1961 حين قرر تحويل "بداية ونهاية" الى فيلم سينمائي. وكانت المفاجأة ان محفوظ رفض كتابة السيناريو لروايته هذه بنفسه، هو الذي كان كتب قبل سنوات، سيناريوهات عن روايات لاحسان عبدالقدوس وامين يوسف غراب وغيرهما!! "علي ان أذكر هنا، انني منذ العام 1946 كنت رغبت في تحقيق فيلم عن رواية محفوظ "القاهرة الجديدة" لكن الرقابة رفضت الموضوع … وظلت ترفضه حتى الستينات. والطريف، ان محفوظ نفسه، حين عُين رقيبا على المصنفات الفنية، بادر بدوره الى رفض الفكرة!!". والطريف في الامر ايضا ان التعاون السينمائي بين صلاح ابو سيف ونجيب محفوظ قد توقف تماما منذ اللحظة التي حقق فيها ابو سيف فيلما عن رواية لمحفوظ. ولئن كان فيلم لاحق لأبي سيف حمل توقيع نجيب محفوظ ككاتب للسيناريو، فان ما ينبغي التنبه له، هو ان هذا الفيلم "المجرم" 1978 لم يكن سوى اعادة انتاج لفيلم "لك يوم يا ظالم". المهم ان الفترة التي عمل فيها ابو سيف مع محفوظ انتجت تلك الافلام التي طبعت ابو سيف كمخرج للواقعية وللحارة، والتي اسست لأبرز ما عرفته السينما المصرية في تاريخها. وان اهتمام محفوظ بالكتابة للسينما قد جعل المخرجين يتدافعون للتعاون معه، من نيازي مصطفى الى توفيق صالح، ومن عاطف سالم الى يوسف شاهين وحسن الامام وكمال الشيخ وغيرهم. اما صلاح ابو سيف فانه بعد المرحلة الواقعية الاولى، انصرف منذ النصف الاول من الخمسينات الى خوض مرحلة من الافلام الرومانسية ظلت على اي حال مطبوعة بنوع من التصور الواقعي الغامض لمسيرة المجتمع… وهي افلام اقتبست من روايات شهيرة لاحسان عبدالقدوس وامين يوسف غراب… اضافة الى اقتباسات عن بعض الروايات الغربية. ولقد شهدت تلك المرحلة تعامل صلاح ابو سيف مع نجوم السينما والغناء، من عبدالحليم حافظ الى فريد الاطرش، ومن فاتن حمامة الى سعاد حسني… وكذلك شهدت بداية صراعه مع الرقابة وبداية ترسخ قدميه على الصعيد العالمي. الحلقة المقبلة "عن فاتن… ومرحلة الستينات" كلام الصور 1 - صلاح ابو سيف: من الواقعية الى الفانتازيا وبالعكس. 2 - "الصقر": تجربة اولى على نطاق عالمي. 3 - نجيب محفوظ: علّمته فعلّمني.