ليس من المبالغة القول أن القرن العشرين ربما يدخل سجلات التاريخ على انه قرن "صعود وانهيار الاتحاد السوفياتي"، ذلك أن انهيار ذلك الكيان السياسي الذي تكون بعد الحرب العالمية الأولى وانهار مع بداية العقد الأخير من القرن أدى الى نتائج ايديولوجية وسياسية واستراتيجية بالغة الدلالة والأهمية ستكون لها تداعياتها لسنين طويلة مقبلة. من هذه التداعيات الاستراتيجية عودة ظهور منطقة آسيا الوسطى كمنطقة للتنافس الدولي والصراع حول النفوذ، فهذه المنطقة اليابسة هي جزء من "أوراسيا" التي اعتبرها سير هالفورد ماكيندر الجغرافي البريطاني الشهير "قلب الأرض" وان من يسيطر عليها تكون له السيطرة على العالم. لذلك كانت هذه المنطقة مجالاً للتنافس والحروب والغزوات عبر التاريخ وشهدت صولات وجولات عدد من القادة العسكريين الكبار في التاريخ مثل تيمور لنك، وفيها كان يمر طريق الحرير الشهير الذي ربط بين منطقة البحر الأبيض المتوسط ومنطقة الباسفيكي، أي بين الصين وأوروبا، وكانت بعض مدنها مثل طشقند وبخارى وسمرقند علامات بارزة في تاريخ الحضارة الاسلامية في مجال الفكر والعلم. وفي القرن التاسع عشر استمر التنافس بين روسيا القيصرية وبريطانيا على النفوذ في آسيا الوسطى من دون أن تتمكن احداهما من فرض سيطرتها تماماً عليها، لذلك وصف الديبلوماسيون البريطانيون السياسة في آسيا الوسطى بأنها "اللعبة الكبرى"، وقال اللورد كرزون المندوب السامي البريطاني في الهند "ان تركستان وأفغانستان وفارس هي قطع مهمة على لعبة الشطرنج في لعبة السيطرة على العالم". ومع السياسة الوحشية التي اتبعها ستالين في هذه المنطقة، ومع تقسيم مناطق النفوذ في العالم، عاشت جمهوريات آسيا الوسطى خلال القرن العشرين باعتبارها "ريف" الاتحاد السوفياتي، ومناطقه الفقيرة، وأحد مصادر المواد الخام - زراعية ومنجمية - لمناطقه الصناعية المتقدمة في روسيا وأوكرانيا وبيلوروسيا. ومع تفكك الاتحاد السوفياتي، عادت آسيا الوسطى الى خريطة التوازنات السياسية، ولكن في عالم جديد، وفي اطار لعبة سياسية جديدة، لم تعد الهيمنة العسكرية او التدخل المباشر فيها هو الأساس وإنما يتم التنافس من خلال التجارة والثقافة والديبلوماسية. وفي سياق تعدد فيه المتنافسون، فهناك في الساحة الآن دول جوار مباشر مثل ايرانوتركيا وأفغانستان وباكستان، ودول اسلامية مثل المملكة العربية السعودية ومصر وليبيا ودول الخليج عموماً، وقوى اقليمية غير اسلامية حريصة على ان يكون لها موقع في هذه المنطقة مثل الهند واسرائيل، وهناك بالطبع الدولة الكبيرة في المنطقة وهي روسيا، والدول الغربية الكبرى التي تراقب الموقف عن بعد. وفي هذه المنطقة يعيش خمسون مليون نسمة في خمس جمهوريات ذات اغلبية من المسلمين، هي كازاخستان وكيرغيزستان، وطاجيسكتان، وتركمانستان، وأوزبكستان، علاوة على اذربيجان التي تقع جغرافياً في منطقة القوقاز خارج نطاق آسيا الوسطى، وفي هذه المنطقة يقوم نشاط محموم، ديبلوماسي وثقافي واقتصادي، لاقامة العلاقات وتبادل الزيارات وغرس مراكز الاتصال والنفوذ. وعندما نركز على دور القوى الاقليمية وبالذات الاسلامية يبرز لنا على الفور دور تركيا وإيران اللتين تعتبران القوتان الاقليميتان ذات المصالح والتأثير المباشر وينبع ذلك من اعتبارات عدة تتمثل في التواصل الجغرافي، وفي الامتدادات الثقافية واللغوية والاثنية، وفي التنافس بين البلدين. الدور التركي تركيا هي الدولة الرئيسية في هذه المنطقة وتستفيد في ذلك من إرث التاريخ، فهي تعتبر نفسها وريثة ثقافية وحضارية لما كان يسمى بمنطقة "تركستان"، كما ان هذه المناطق سبق أن تم حكمها من خلال الباب العالي في اسطنبول خلال الحكم العثماني، وآخر رئيس وزراء عثماني أنور باشا مات خلال وجوده في آسيا الوسطى، لذلك كانت تركيا أول دولة تعترف باستقلال هذه الجمهوريات وتبادر الى اقامة علاقات منظمة معها من منطلق الشعور بمسؤولية "الأخ الأكبر". وظهر شعور قومي جديد في تركيا استناداً الى الرابطة اللغوية الثقافية مع هذه الجمهوريات، وان هذه المنطقة تمثل "دائرة ثقافية تركية" حيث يمكن لتركيا ان تقود هذا التيار في المنطقة التي تمتد من القوقاز الى وسط آسيا وحتى حدود الصين. وهناك حوار بين المفكرين الاتراك حول مفهوم هذه الرابطة، وتوجد خلافات حول توصيفها والآثار السياسية المترتبة عليها، فقد عاد الى الخطاب السياسي التركي تعبيرات مثل "الطورانية الجديدة" و"العثمانية الجديدة"، على أساس ان الطورانية أو العثمانية، تمثل الاطار التاريخي والثقافي الذي يبرر شرعية الدور التركي في هذه المنطقة. وكتب أحد المفكرين الأتراك يقول أن "لتركيا رسالة تاريخية" في هذه المنطقة، وان المسألة لا تتمثل في السيطرة أو الهيمنة أو اكتساب مناطق للنفوذ، لكن الهدف هو "الانتقال الحر للبشر والأفكار والبضائع في أراضي الامبراطورية العثمانية القديمة". وبصفة عامة فان أغلب القوى السياسية التركية ترى في استقلال الجمهوريات الاسلامية في آسيا الوسطى فرصة ذهبية تستطيع تركيا استثمارها لزيادة نفوذها الاقليمي، ودعم دورها العالمي، ولكن التيار الغالب هو التعامل مع هذه الفرصة بشكل عملي وواقعي من دون تحميله دلالات ايديولوجية مثل مفاهيم العثمانية والطورانية الجديدة والتي ليست محل اتفاق أو قبول من جانب عدد من القوى السياسية في تركيا. ومع ان تركيا سعيدة بهذه الفرصة فانها تتخوف أيضاً من أن يكون من شأن هذه العلاقة تحميل تركيا بالتزامات اقتصادية وأعباء مالية جديدة. المنطلق الأساسي لتركيا هو التزاوج بين الماضي والمستقبل، وان الدور التركي في الجمهوريات الاسلامية لا يستند فقط الى اعتبارات التاريخ، وإنما يقوم أساساً على ان تركيا تقدم "نموذجاً" للتطور والتنمية يمكن ان يستفيد منه الغير، وبالذات عند مقارنتها بإيران، ويبدو ان لتركيا الغلبة في هذا المضمار فيقول رئيس أوزبكستان "ان بلادنا ستقتفي أثر النموذج التركي". ويقول رئيس كيرغيزستان "ان تركيا هي نجم الصباح الذي يهدي طريق جمهورياتنا". تحركت تركيا بسرعة في الجمهوريات الاسلامية وتم عقد مؤتمر قمة لرؤسائها، وأرسلت تركيا مئات الخبراء وآلاف المتطوعين للعمل في مجالات التنمية المختلفة، وأنشأت شركة الطيران التركية خطوطاً منتظمة مع كل من تركستان وأوزبكستان. وفي مجال الاقتصاد تتطلع تركيا الى أسواق هذه الجمهوريات ومواردها غير المستغلة، كما ان عملية التنمية فيها تقدم لشركات البناء والتشييد التركية فرصة كبيرة للعمل، وعقدت تركيا اتفاقاً مع كازاخستان بخصوص حقول النفط ومحطات الطاقة بمبلغ 7،11 بليون دولار، كما قامت غرفة التجارة التركية - الاميركية بارسال وفود الى المنطقة لبحث فرص الاستثمار ومجالاته. مجال آخر مهم للحركة هو الثقافة والاعلام وبلورة "سوق موحدة للسان التركي"، فقد تم عمل بث اذاعي وتلفزيوني لمدة 11 ساعة يومياً، وعندما واجهت جمهورية كيرغيزستان مشكلة عدم وجود أجهزة الاستقبال المناسبة، قامت تركيا بتحمل نفقات إنشاء محطة 6 مليون روبل روسي لضمان استقبال البث التلفزيوني، وإحدى المعارك الصامتة التي دار رحاها في العامين الاخيرين هي قضية حروف الكتابة التي ستأخذ بها الجمهوريات والتي كانت تكتب لغاتها بالحروف السيريلية التي فرضها الاتحاد السوفياتي عليها، وكان أمام هذه الجمهوريات أحد بديلين: ان تتم الكتابة بالحروف العربية وذلك أسوة بالدول العربية وإيران، أو أن تكتب بالحروف اللاتينية اسوة بتركيا والدول الغربية عموماً، ويبدو أن الغلبة كانت للحروف اللاتينية والتي تبنتها فعلاً كازاخستان وتركمانستان وكيرغيزستان، بينما تبنت طاجيكستان الحروف العربية. ماذا تفعل ايران؟ ايران من الناحية الاخرى لديها أوراق مهمة للتأثير، فهي جغرافياً أكثر قرباً الى المنطقة من تركيا، كما انها تتمتع بميزة التواصل اللغوي مع بعض مناطقها، ففي طاجيكستان مثلاً 60 في المئة من عدد السكان يتحدثون لهجة فارسية. ونريد ان نتوقف لحظة أمام أهمية الاعتبارات الجغرافية، فمنطقة آسيا الوسطى منطقة أرض يابسة لا تطل على البحر ومن ثم لا يمكن الوصول اليها الا من خلال البر، ويترتب على ذلك أن أي تصدير أو استيراد لا بد أن يمر من خلال الدول المجاورة ولا يستطيع أحد أن يتجاهل هذه الحقائق الجغرافية. فأوزبكستان مثلاً، وهي الدولة الكبيرة سكانياً في المنطقة، فان زعيمها كاريموف، مع انه اكثر قرباً الى النموذج التركي، لا يستطيع ان يتجاهل هذه الحقائق، ذلك أن أنقرة تبعد ثلاثة آلاف كيلومتر عن عاصمة بلاده طشقند بينما يسمح موقع ايران لها بالتأثير. لذلك نشطت ايران في مجال الطرق والاتصالات وطرحت التعاون في تقديم منفذ على البحر لتسهيل التجارة مع الخارج، وأعلنت عن مشروع خط حديدي يربط ايرانوتركمانستان ويصل الى الخليج بتمويل خليجي، وبالفعل في ايار مايو 1992 طرحت ايران على دول الخليج فكرة التعاون في تمويل هذا الخط، وبدأ العمل في طريق بري مع كازاخستان بتمويل ايراني، وفتح بنك صادرات - ايران فروعاً له في عدد من العواصم كما تنظم شركة الطيران الايرانية خطوطاً منتظمة. ومن التطورات الحديثة زيارة نيازوف رئيس جمهورية تركمانستان الى طهران في آب اغسطس 1992 والاتفاق على التعاون في مجالات عدة، منها ان تقوم ايران بالمساعدة في نقل الغاز الى أوروبا وبناء خط حديدي بين البلدين، كما تم الاتفاق على ان يقوم خبراء الطيران المدني في ايران بتدريب نظرائهم في تركمانستان وعلى اقامة معرض تجاري دائم لمنتجات تركمانستان في مدينة مشهد الايرانية. وإيران ليست بلا مشاكل في بناء العلاقة مع هذه الدول، فهناك مشكلة النموذج الاسلامي الذي تطرحه وخشيت أغلب حكومات هذه الدول من تأييد ايران للحركات الاسلامية الاصولية التي تستخدم العنف، وهناك مشكلة تأثير اقامة صلة وثيقة مع ايران على العلاقات مع عديد من الدول الغربية والعربية، وهناك مشكلة داخلية في ايران، فازدياد الشعور القومي في أذربيجان يمكن ان يؤدي الى إحياء مماثل لهذا الشعور لدى ابناء اذربيجان في داخل ايران نفسها. والدعوة الى وحدة اذربيجان تعني عدم الاستقرار السياسي في ايران وهي ما زالت تتذكر ما حدث في كانون الثاني يناير 1990 عندما حطم المتظاهرون بوابات الحدود بين البلدين ودخلوها للتفاعل مع اخوانهم في ايران. وإيران لا تحتكر ميزة اعطاء منفذ بحري لجمهوريات آسيا الوسطى، وتنافسها في ذلك باكستان وأفغانستان اللتان وقّعتا في تموز يوليو 1992 مذكرة تفاهم لدراسة جدوى مشروع خط حديدي من باكستان الى كابول ثم الى اوزبكستان، كما وقّعت الاخيرة اتفاقية مع باكستان لانشاء أربعة طرق سريعة تربطها بأفغانستان. كما ان شركة الطيران الباكستانية تمتلك خطوطاً منتظمة مع طاجيكستان وأوزبكستان. "حصان طروادة" التنافس بين تركيا وإيران اندلع أحياناً على شكل حملات اعلامية ودعائية متبادلة، وبالذات من جانب ايران التي تتهم تركيا بأنها "حصان طروادة" وأنها تعمل بالوكالة ولخدمة المصالح الغربية في آسيا الوسطى، ومبعث ذلك، شعور ايران بأن تركيا حققت نجاحاً في مناطق تعتبرها ايران مجال نفوذ تاريخي لها، من ناحية اخرى انتقدت تركيا موقف ايران في الصراع بين أرمينياوأذربيجان حول اقليم ناغورنو قره باخ واتهمت طهران بأنها تساعد أرمينيا عسكرياً وانها ارسلت لها السلاح. والتنافس التركي - الايراني لا يقتصر على السعي الى اقامة علاقات ثنائية مع هذه الجمهوريات، وإنما يمتد ايضاً الى اقامة تنظيمات اقليمية للتعاون الاقتصادي والتجاري. فتركيا انشأت منطقة التجارة الحرة في البحر الأسود، وتضم كلا من اذربيجانوأرمينيا وجورجيا وروسيا وأوكرانيا ورومانيا وبلغاريا، ولها سكرتارية دائمة في اسطنبول، وحسب التصور التركي فان هذه المنطقة تشمل سوقاً يضم 400 مليون شخص وان الهدف هو تحقيق حرية انتقال المنتجات بين الدول بحيث تكون بمثابة الاطار التنظيمي للتعاون في شرق القارة الأوروبية، وإيران انشأت مجلس بحر قزوين الذي يضم تركمانستان وكازاخستان وروسياوأذربيجان ومقره طهران ويهدف الى تحقىق التعاون الاقتصادي بين الدول المطلة على بحر قزوين. وتشترك كل من تركيا وإيران - علاوة على باكستان - في منظمة التعاون الاقتصادي الايكو، وهي منظمة قديمة تحافظ على رمز للتعاون الاقتصادي بين الدول الثلاث التي كانت تسمى بالحزام الشمالي للشرق الاوسط في الخمسينات، حسب افكار الاستراتيجية الاميركية يومها، وبعد استقلال بلدان آسيا الوسطى تم دعوتها للمشاركة، وبالفعل شاركت اذربيجانوتركمانستان وكيرغيزستان وطاجيكستان وتم اجتماع في طهران في شباط فبراير 1992 حول مجالات التعاون الاقتصادي بين الدول. ولا ينبغي، موضوعياً، التهويل من حجم التعاون الذي تم حتى الآن، ولا من شأن المنظمات التي انشئت، فنحن نتحدث عن افكار ومشاريع في بدايتها، وليس عن انجازات تحققت بالفعل، وأي منظمة للتعاون الاقتصادي الاقليمي مثلاً تحتاج الى سنوات طويلة قبل ان تحقق اهدافها، وعلى سبيل المثال فان معاهدة روما التي وضعت الأساس للسوق الاوروبية المشتركة وقعت عام 1958، وبالمنطق نفسه عندما نتحدث عن بناء سدود أو شق طرق أو مد خطوط انابيب نفط فالأغلب ان الحديث هو عن فكرة يتم بحثها أو مشروع تتم مناقشته، ذلك أن انجاز هذه المشاريع يتطلب تمويلاً ضخماً، كما يحتاج الى عدد من السنوات لانجازه. وليس لدى أي من ايران أو تركيا الفوائض المالية التي تسمح لهما بالعمل عن سعة في هذا المجال، لذلك فالأرجح ان تركيا تتوقع ان تؤيدها الدول الغربية في انشطتها، وإيران ستعمل على الحصول على تمويل خليجي عربي. وهذا يجرنا الى الحديث عن الدول العربية ودورها في آسيا الوسطى. وهذا هو موضوع الحلقة الثانية من الدراسة ننشرها في العدد المقبل. * أستاذ ومدير مركز البحوث والدراسات السياسية - جامعة القاهرة.