الازمة التي عصفت بالاسواق المالية الاوروبية خلال الاسابيع الثلاثة الماضية وأدت الى تخفيض قيمة كل من الليرة الايطالية والبيزيتا الاسبانية، بقرار حكومي، والى تراجع قيمة الجنيه الاسترليني بنسبة لا تقل عن 15 في المئة، قسمت العملات الاوروبية، كما يقول لپ"الوسط" ديفيد مارش الخبير المالي في "الفايننشال تايمز" الى ثلاث فئات يتوقع لها ان تخوض عمليات مضاربة ضارية في المستقبل القريب، اذا لم يتم التوصل الى تعديلات جذرية في نظام آلية صرف العملات الاوروبية. وهذه الفئات الثلاث هي: 1 - العملات القوية او الصعبة وهي الالمانية والفرنسية والبلجيكية والدنماركية والهولندية. 2 - العملات الضعيفة وهي اليونانية والايرلندية والبرتغالية والسويدية. 3 - العملات المخفضة، وهي الايطالية والبريطانية والاسبانية والفلندية. ويضيف مارش انه "خلال السنوات الخمس الماضية كان المستثمرون والمضاربون في اسواق المال يقبلون على شراء العملات الضعيفة والتعامل بها من دون خوف من خسائر كبيرة بسبب حصانة هذه العملات في اطار الية الصرف الاوروبية التي تحصن عملات الدول الاعضاء عبر تحديد الحد الاقصى لانخفاض قيمتها في السوق. اما الآن وبعد خروج الليرة الايطالية والجنيه الاسترليني من نظام هذه الآلية فإن العملات الضعيفة ستتعرض لمزيد من الضغوط: ضغوط السوق من جهة وضغوط السياسات الحكومية من جهة اخرى". وحول ضغوط السياسات الحكومية المرتبطة بآلية الصرف الاوروبية يقول محمود يوسف بكير المستشار الاقتصادي في مصرف دلة البركة ان "الحفاظ على سعر صرف العملة المحلية ازاء العملات الاخرى، يقتضي فرض قيود نقدية، اولها رفع سعر الفائدة وتكلفة الاقراض. لكن ذلك، اذا ترافق مع التضخم يؤدي الى كساد وركود، وبالتالي الى رفع سعر الفائدة من جديد. وهذا ما حصل في بريطانيا اخيراً حيث فرض المضاربون سعراً مخفضاً للجنيه الاسترليني ووضعوا الحكومة البريطانية امام ثلاث خيارات هي: 1 - رفع سعر الفائدة. 2 - خفض قيمة الجنيه. 3 - الخروج من آلية الصرف الاوروبية". في اليوم الاول للازمة، عشية الاستفتاء الفرنسي على معاهدة ماستريخت، لجأت الحكومة البريطانية الى رفع سعر الفائدة مرتين خلال اربع ساعات فقط، ومن 10 في المئة الى 15 في المئة. كذلك دفعت بنصف احتياط الخزينة من العملات الصعبة لشراء الجنيه وتعديل سعره. مع ذلك كان السوق والمضاربون اقوى من كل هذه الاجراءات واستمر سعر الجنيه بالتدهور، فلم يكن امام الحكومة البريطانية في آخر الامر سوى الخروج من آلية الصرف الاوروبية ليتولى السوق المالي، بدلاً من الحكومة، تخفيض قيمة الجنيه، بصورة تجعل الحكومة البريطانية قادرة على تخفيض سعر الفائدة دون الالتفات الى قوانين آلية الصرف الاوروبية، وبالتالي تحفيز الاقتصاد وانتشاله من الركود. وحول ضغوط السوق يقول الخبير المالي البريطاني المعروف طوني ماغواير، الذي يتولى تبسيط اعقد المشكلات المالية في الصحف الشعبية، ان المضاربين يمتلكون قدرات مالية لا تستطيع معظم الدول مقاومتها. ويضيف ماغواير ان "الف مليار بليون جنيه استرليني و1500 مليار بليون دولار، يتم تبادلها يومياً في كل من لندن ونيويورك. وتشكل هذه المليارات نهرين عملاقين من السيولة ينبعان من لندن ونيويورك كل صباح ويجريان حول الكرة الارضية بأكملها في ساعات ما قبل الظهر، ويجرفان في طريقهما الكثير من الضحايا، سواء على مستوى الاشخاص او الامم او العملات الوطنية". والنهر الذي غاص فيه الجنيه الاسترليني خلال الازمة الاخيرة شكله السوق، او المضاربون، كما يقول ديفيد كارين من معهد ادارة الاعمال في لندن، لان هؤلاء المضاربين لم يقتنعوا بسياسة الحكومة البريطانية، التي شاءت المحافظة على سعر صرف الجنيه من خلال اسعار الفائدة المرتفعة - وبالتالي تمكنوا من فرض التخفيض رغم ارادة الحكومة. ويؤكد ماغواير ان نسبة "5 في المئة فقط من اصل الالف مليار بليون جنيه استرليني التي يتم التعامل بها يومياً في لندن، تستخدم في قضايا الاستيراد والتصدير، واستعادة ما اخرجه السياح البريطانيون من جنيهات الى دول اخرى، وما تبقى هو عدة العمل اليومي لدى المضاربين" الذين لا يرى ماغواير سبيلاً الى حصر مجال نشاطهم الا في نظام آلية الصرف الاوروبية، لكنه يعتقد ان عدداً من الاصلاحات الجديدة لا بد منه، بصورة تجبر المانيا على تحديد صلاحيات البوندسبنك البنك المركزي الالماني المستقل عن وزارة المال هناك. وكانت مصادر مقربة من وزارة المالية البريطانية ذكرت لپ"الوسط" قبيل اندلاع الازمة ان هناك مخاوف من ان تكون قيمة الجنيه الفعلية قد انخفضت ازاء المارك الالماني الى 2.35، وازاء الدولار الاميركي الى 1.50، وفي خضم ازمة الجنىه الاسترليني، نفت مصادر بنك انكلترا في اتصال مع "الوسط" هذه المعلومات، لكن ديفيد كاري، اكد انه من غير المستبعد في الظروف الحالية ان يفرض السوق سعراً مشابهاً للجنيه. مع ذلك يعتقد رولان راد من "الفايننشال تايمز" ان تخفيض قيمة الجنيه وتخفيض سعر الفوائد، سينفر على المدى القريب المستثمرين الذين يعملون لآجال قصيرة، لكنه سيجذب الآخرين الذين يفكرون بتوظيفات طويلة الامد، لان هذين الاجراءين من شأنهما اخراج الاقتصاد من حالة الركود، وتأمين استقرار اطول في سعر صرف الجنيه، اضافة الى ارتفاع اسهم الشركات البريطانية. وهو الامر الذي بدا واضحاً منذ اليوم الثاني لانخفاض الجنيه واعادة سعر الفائدة الى 10 في المئة مثلما كانت قبل يوم الازمة، ثم الحديث عن تخفيضات قريبة. بالمقابل يعتقد ديفيد بتر رئيس تحرير مجلة "ميد" المتخصصة بشؤون الشرق الاوسط الاقتصادية ان الفوضى في الاسواق المالية الاوروبية ستستمر حتى نهاية هذا العام، على اقل تقدير، حتى يتبين مستقبل معاهدة ماستريخت وآلية الصرف الاوروبية. ويحمل مسؤولية هذه الفوضى للمصرف الالماني المركزي الذي يريد الحفاظ على فوائد عالية ليمنع الحكومة الالمانية من تخفيض موازنتها، خصوصاً الجزء المتعلق بعملية التوحيد مع المانياالشرقية سابقاً. ويؤكد بتر ان عملات اوروبية اخرى مثل البيزيتا الاسبانية والليرة الايطالية والدراخما اليونانية ستتعرض لمزيد من التخفيض في قيمتها. بل ان ديفيد مارش يعتقد ان دول العملات الاوروبية القوية قد تضطر الى تخفيض قيمة عملاتها بسبب علاقاتها التجارية الكثيرة مع دول العملات الضعيفة، وذلك للمحافظة على قدرتها على التنافس التجاري. ومن هذه الزاوية يعتقد بعض الخبراء ان الفرنك الفرنسي المسلح بنتيجة الاستفتاء حول ماستريخت، وهو في وضع اقتصادي متين وعلى علاقة وثيقة مع المارك الالماني، قد يتعرض لضغوط شديدة لتخفيض قيمته. لكن ديفيد كاري يستبعد مثل هذا الاحتمال لان القادة السياسيين ووزراء المال الاوروبيين قد لا يسمحون بإطالة مرحلة الفوضى لتنال من جميع العملات الاوروبية. ومعظم هؤلاء القادة اصبح مقتنعاً بضرورة اعادة النظر بآلية الصرف الاوروبية وترميم ثغراتها. وحتى توضع هذه القناعة موضع التنفيذ، سيستمر الصراع في الاسواق المالية بين عملات فرنسا ودول البنيلوكس بلجيكا واللوكسمبورغ وهولندا والمانيا، وهي العملات المرتبطة بالمارك الالماني، من جهة، وبين العملات الايطالية والبريطانية، التي خرجت من آلية الصرف الاوروبية، والعملات الضعيفة من جهة اخرى.