في شارع "جاكس" في مدينة تورنتو الكندية تقع بناية عالية تتألف من تسعة وعشرين طابقاً، وكما هو الحال في مثل هذه البنايات العالية تخصص غرفة فسيحة لجمع قمامة سكان كل طابق. وفي غرفة قمامة الطابق الثالث والعشرين بدأت احداث قصة عجيبة في احد ايام صيف عام 1987 عندما ذهبت "بيغ فروبس" لالقاء القمامة الخاصة بها، اذ لفت نظرها في تلك الغرفة جهاز عتيق غريب الشكل لم تر مثله من قبل. كان واضحاً ان احد سكان العمارة قد اراد التخلص منه، وكان ظاهراً ايضاً في حجم الجهاز الضخم ان الذي تخلص منه يعيش في الطابق نفسه. بعدما فحصت "بيغ" الجهاز بسرعة قررت ان تجره الى شقتها لتتفحصه على مهل، فقد لاحظت انه يضم مجموعة من الشرائح الفيلمية العتيقة التي اثارت خيالها. وبصعوبة بالغة، وبعد ان طلبت من زوجها مد يد المساعدة لها، تمكن الاثنان من سحب الجهاز الى شقتهما حيث امضيا الامسية في تفقده و"الفرجة" على محتوياته، وهكذا بدأت رحلة طويلة دامت 13 عاماً للبحث في سر شرائح السلايدات الفيلمية واصحابها، لم تكن تخطر على بال بيغ وزوجها. تقول بيغ عن الساعات الاولى التي تفحصت فيها الجهاز: "اولاً لم اكن اعرف ما هو، فلم اكن رأيت آلة عرض لأفلام السلايدات والمسماة اليوم بالبروجيكتور تعود الى العهد القديم. ثانياً كنت في حيرة من امري، واذكر انني كنت اتساءل بيني وبين نفسي هل صحيح ان هناك شخصياً يريد التخلص من هذا الجهاز العتيق؟ وماذا عن الصور التي يحتويها؟ ترى لمن هذه الصور؟ ولم انم ليلتها من التفكير والقلق والترقب. وما ان جاء الصباح حتى اخذت أدور على جيراني اسألهم لمن هذا الجهاز؟ ومن هو صاحب الصور ولكن دون جدوى - كأن هذا الجهاز قد هبط فجأة من الجو الى غرفة القمامة الخاصة بطابقنا في العمارة". بداية القصة بعد يومين من الاستفسار والاستعلام بين السكان والجيران بدا واضحاً لبيغ ان الجهاز لا يخص شخصاً معيناً في العمارة، وحتى لو كان هناك من يملكه فمن الواضح انه لا يريده! وهكذا قررت ان تدرس محتوياته عن كثب وبتمهل. كان جهازاً لعرض صور السلايد يعود تاريخ صنعه الى العام 1900 كما تذكر البطاقة الملصقة على ظهر الجهاز، وهو من صنع شركة فرنسية تدعى "الموزع الآلي" او "دستربيوتر اوتوماتيك"، والى جانب هذه البطاقة وجدت بيغ بطاقة اخرى ملصقة تحمل ارشادات التشغيل بالفرنسية، وبعد صبر وجهد استطاعت ان تترجمها الى حركة تشغيل فعلية في الجهاز. ولكن جهودها اتت بثمارها فقد استطاعت بعد ذلك ان تشاهد محتويات الجهاز عن قرب. فقد كانت مجموعة الصور التي يضمها الجهاز كبيرة وباجمالي يبلغ 250 سلايداً. كما كانت الصور مرقمة ومرتبة بعناية ومبوبة بحسب البلدان التي التقطت فيها، وتنوعت المجموعات الملتقطة في اثني عشر موقعاً هي: اوروبا والقدس والاسكندرية والقاهرة، منطقة الاهرامات ومناطق اثرية اخرى بمصر، وعروض عسكرية في مواقع مختلفة، ومناظر داخلية لقصور وبيوت فخمة، وثكنات عسكرية، وسيدات ورجال بملابس الطبقات الراقية في اوائل القرن، واحتفالات في الحدائق والقصور، ومناظر من سباقات للخيول، ومناظر على متن سفن مختلفة، ومناظر ليخوت صغيرة وقلعة. ولكن من بين كل هذه المواقع، كانت الصور الملتقطة في مصر تشكل النسبة الاكبر من السلايدات، الا انه لا وجود لأي معلومات توضح من التقطها او من يمتلكها او من الاشخاص الذين تصورهم، ما عدا ثلاث صور كانت تحمل ثلاثة تعليقات مبتورة الاولى تقول: "مولى اوجستا وبيرسوس"، والثانية "تقول في حديقتنا"، والثالثة تعطي التاريخ فقط: حزيران يونيو 1922. وتساءلت بيغ في قرارة نفسها عندما تفحصت محتويات الصور وقالت: "شعرت على الفور بالرغبة العارمة في كشف سر هذه المجموعة المتكاملة من الصور وكان واضحاً انها تخص اسرة جندي بريطاني وزوجته وامه واولاده الى جانب كلبهم. وبالبحث والاسترشاد من "متحف اونتاريو" قدرنا الفترة الزمنية التي التقطت فيها الصور ما بين عامي 1910 و1935. ولكن الشعور الآخر الطاغي الذي انتابني هو الرغبة في معرفة اصحاب الصور، وما اذا كان لهم اقرباء او احفاد يهمهم الاحتفاظ بهذه الصور الفريدة والجهاز العجيب". من رغبة الى هاجس هذه الرغبة الملحة سرعان ما تحولت الى هاجس يسيطر على تفكير بيغ، ولم يجد زوجها مفراً من الاستسلام الى الحاحها للكشف عن هوية اصحاب الصور، فاضطر في النهاية ان يساعدها في مشوارها الطويل. ولكن لماذا سيطرت هذه الفكرة على ذهن العجوز الكندية التي كان من السهل عليها ان تقضي سنوات تقاعدها مرتاحة البال. تقول بيغ: "لم اكن من هواة التحف والانتيكات من قبل. ولكن هذا الجهاز كان شيئاً آخر فالتكامل الذي يميز مجموعة الصور الموجودة فيه، والعناية البالغة التي رقمت بها الصور وبوبت، اشعلتا جذوة حب الاستطلاع لدي لمعرفة الشخص الذي تذكر ان يعتني بكل هذه التفاصيل، ونسي ان يكتب اسمه او عنوانه على الجهاز. واذكر انني قلت لنفسي ذات يوم لو كان هذا الرجل جداً لي لشعرت بالفخر ان ارث عنه مثل هذا الجهاز المليء بالذكريات، وهكذا اخذت على عاتقي ان ابحث عن عائلة اصحاب الصور واسلمهم اياها". رحلة المئة الف ميل لكن رحلة البحث التي بدأتها بيغ كانت رحلة طويلة وشاقة، وبرغم ان بعض العلامات الموجدة على الصور كانت تبشر بالخير الا انها بمرور الاعوام لم تؤد الى نتيجة. بداية درست بيغ صور القلعة بعناية وقررت انها تشبه القلاع الاسكتلندية، وبمساعدة عدد من الاصدقاء والاتصال بمالكي القلعة الاسكتلندية "دنديرف" التي تشبه تلك الموجودة في الصور، قررت زيارة بريطانيا. ولكن زيارتها لم تثمر عن اي معلومة، فقد كان ملاكو القلعة القدامى باعوها الى مالك حديث لم يستطع ان يقدم يد المساعدة. وشهدت بيغ امل التعرف على اصحاب الصور يذوي امام عينيها لكنها لم تيأس. ما زال امامها مفاتيح اخرى من الصور نفسها، فتوجهت الى الاقسام الثقافية المصرية في كل من كنداوبريطانيا والولايات المتحدة لعلها تلتقي بمن يمكنه ان يسلط الضوء على الشخصيات المصرية الموجودة في الصور. من هذه الزاوية نجحت بيغ نجاحاً نسبياً، فقد امكن التعرف على بعض الشخصيات المصرية الهامة التي حكمت وعاشت في مصر في العشرينات. من هؤلاء الملك الاسبق فؤاد الذي توفي فورث العرش من بعده ابنه الملك فاروق آخر ملوك مصر. كذلك كانت هناك ملامح لشخصيات اخرى مثل سعد زغلول وعبدالعزيز فهمي. وهناك صور تصور "المحمل" والموكب الذي كان يخرج للحج من مصر كل عام. كل هذه المعلومات بدأت تلقي بعض الضوء على مجموعة الصور واهميتها وان كانت لم توضح اسم الشخص او الجندي الذي يظهر فيها هو واسرته. واتجهت بيغ الى وسيلة اخرى. حملة اعلانات من يرى "بيغ فوربس" يشعر في شخصيتها بلون من البساطة والسذاجة، بل وقد لا يصدق المرء ان هذه السيدة التي تجاوزت الستين تتمتع بمثل هذه الارادة الحديدية لمحاربة المجهول. ولكن هاجس بيغ الذي لم يفارقها كان هو الدافع الذي يمنحها القوة لمواصلة البحث. وبعد ان تجمعت لديها بعض المعلومات العامة، واستنفدت البحث من ناحية اسكتلندا ومصر، توجهت الى وسيلة اخرى هي الاعلانات واستخدمت بيغ بعض الصور التي عثرت عليها لدعم الاعلانات وزيادة فرص الحصول على رد ايجابي من احد. تقول بيغ: "كان واضحاً ان الضابط صاحب الصور يهوى ارتداء القبعات وألبسة الرأس بكل انواعها، فبعض الصور كان يلبس فيها اشكالاً مختلفة من القبعات الغربية وفي صور اخرى كان يلبس العمامة البلدية، والطربوش، ولكن هذا لم يخف الكثير من معالمه بقدر ما اكد على فكرة ان هذا الشخص كان يستمتع بالكاميرا ويستخدمها ببراعة او على الاصح لديه من يستخدمها ببراعة. وهكذا عمدت الى نشر عدد من الاعلانات في الصحف الاسكتلندية والكندية تحمل مجموعة مختلفة من الصور لهذا الشخص بقبعات مختلفة". لكن النتيجة مع ذلك ظلت غير مشجعة! فاتجهت بيغ الى فكرة اخرى وهي التعرف على صورة الطفلة التي تضمها صور مجموعة الشرائح، وكانت لطفلة في السادسة من العمر تقريباً، وانها ربما كانت الابنة او الحفيدة لصاحب الصور. وظهرت الاعلانات... ولكن ايضاً دون جدوى! لم يكن هناك سوى بضع رسالات وصلت الى بيغ رداً على الاعلان، اثنان من اسكتلندا، ورسالة من بوليفيا في اميركا الجنوبية واثنتان من كندا، وكلها كانت رسائل تتعرف على القلعة الاسكتلندية التي التقطت فيها الصورة ولكن دون اي اشارة الى الطفلة من تكون ومن هم اقاربها. وهكذا امضت "بيغ" حتى ذلك الوقت احد عشر عاماً وهي تنقب وتبحث عن سر مجموعة صور "السلايد" التي عثرت عليها ذات يوم في القمامة دون طائل، وبالطبع كانت خيبة املها آنذاك كبيرة فهي تقول: "بعد كل هذه السنوات، والساعات الطوال التي امضيتها ليل نهار في فحص الصور ومحاولة استخلاص اي معلومة منها، وصلت الى درجة سيئة من الاحباط كادت ان تؤثر على صحتي. كان زوجي يطالبني احياناً ان انسى هذه الصور وانسى اصحابها، وكان اصدقائي ينصحونني - عندما يلمسون تدهور صحتي البدنية والنفسية - ان اتخلص من الجهاز وصوره وألقيه في غرفة القمامة مرة اخرى. ولكن الجميع كان يعلم انني لن افعل ذلك". وقبل ان يلعب الحظ لعبته مع "بيغ" كان عليها ان تحاول مرة اخرى وتفشل. فقد خطر لها زاوية اخرى يمكنها ان تعالج منها معضلة الصور، تقول بيغ: "خطر لي ذات صباح ان هذا الرجل كان جندياً في مصر في اوائل القرن، وان اسرته كانت تصحبه في كل هذه الرحلات، لا بد اذاً انه كان يشترك في احد الاندية البريطانية الخاصة بالعسكريين، واسعدني هذا الخاطر لدرجة ان امسكت بقلمي وسطرت رسالة ونسختها وارسلت صوراً منها الى كل النوادي الخاصة بالعكسريين في بريطانياوكندا طالبة السماح لي بمقارنة مجموعة الصور التي بحوزتي مع ارشيف الصور الموجود لديهم". ولكن هذه الفكرة وحدها، كانت الضوء الاخضر الذي تولدت عنه شرارة فك اسرار الصور، فمن بين الاشخاص الذين راسلتهم بيغ ضابط انكليزي ينتمي لعضوية نادي الجيش والبحرية العتيق في لندن والذي يوجد في المقر نفسه في قلب العاصمة البريطانية منذ اكثر من مئة وثلاثين عاماً. هذا الضابط ينتمي الى عائلة انخرط رجالها في السلك العسكري بالوراثة، وكان جده في القاهرة حتى بلغ السابعة من العمر بعدها ارسل الى انكلترا للدراسة. ومن دوغلاس حصلت بيغ على اول مفتاح للغز اذ انه كان واثقاً من ان الطفلة الموجودة في الصور، هي طفلة عاشت في مصر في الفترة نفسها تقريباً وانها تنتمي لعائلة القائد البريطاني "غوردون إنغرام" الذي خدم معظم الوقت في مصر وفلسطين، وكان ينحدر من منطقة ارغايل في اسكتلندا، وبالبحث في هذه المنطقة بدأت المعالم تتضح حول شخصية انغرام وعائلته، وعرفت بيغ ان الاسرة قد هاجرت من بريطانيا الى كندا في اوائل الخمسينات. وتمضي بيغ لتكمل الحكاية فتقول: "كنت كمن حصل على مفتاح الكنز اخيراً، وكان ذلك قبل عامين فقط وبعد كل هذه السنوات من البحث، ولكن الغريب ان متاعبي استمرت كما هي حتى بعد ان عرفت اسم الشخص صاحب المجموعة، فلم يكن معنى معرفة اسمه اني توصلت الى معرفة احد من اقاربه الذين بقوا على قيد الحياة. بل كان الاسم الوحيد لدي هو اسم الطفلة "بيبن" وكان اسم التدليل الذي لقبت به وهي صغيرة ولا شك انها اصبحت سيدة كبيرة الآن، ولها اسم كامل، وربما تغير لقبها بسبب الزواج. كانت هذه الطفلة هي كل من تبقى من الاسرة وكان لا بد ان اعثر عليها لأعيد لها مجموعة الصور". أين أنت يا بيبن؟ بعد مئات الرسائل والمكاتبات الى عديد من البلدان، وبعدما انفقت الكثير على الاعلانات في الجرائد والمجلات، تعترف "بيغ" بانها لم تستطع مواصلة الانفاق على بحثها عن اصحاب مجموعة الصور، وفي لحظة يأس اتصلت هاتفياً باحدى الاذاعات الكندية وشرحت لأحدهم قصتها وحكاية الصور، ووجدت القصة هوى في نفس المذيع فقرر استضافة "بيغ" في برنامجه، وهكذا وجدت بيغ امامها فرصة ذهبية لتشرح القصة لألوف المستمعين وتوجه النداء الحار اين انت يا بيبن؟ عبر المذياع. وتعاطف مع "بيغ" معظم المستمعين وبدأ الكثير منهم يتطوعون للتعرف على "بيبن" والبحث عنها كي تتسلم مجموعة صور عائلتها النادرة. تقول بيغ: "كان تعاطف الجمهور مع قصتي بمثابة الجائزة التي حصلت عليها بعد كل هذه المشقة، وان كنت بالطبع لا اطمع من البداية في اي مكافأة. ومن بين الجمهور المتعاطف وعشرات المكالمات التي اقترحت اسماء عديدة ورشحتها لان تكون بيبن وصلتني مكالمة من سيدة استمعت للحديث الاذاعي، وعرفتني بالفعل على "بيبن" التي اصبح اسمها الآن "الكساندرا تومسون" وتعيش في منطقة هاليفاكس في كندا. وبالواقع كانت "بيبن" امضت سنوات عدة في البحث عن مجموعة الصور الفريدة بعد ان ضاعت من الاسرة". واخيراً وجدتها ولكن بقي السؤال معلقاً: كيف ضاعت هذه المجموعة النادرة من الصور وكيف انتهى الامر بهذا الجهاز في غرفة القمامة بالطابق الثالث والعشرين حيث تعيش بيغ؟ تضحك قائلة: "لم يفتني ان احلّ هذا اللغز ايضاً، فقد كان سرّه يثير فضولي طوال الوقت، لقد عاش بعض افراد اسرة الضابط "انغرام" في عمارتنا نفسها لدى هجرتهم الى كندا لفترة قصيرة، وعندما قدموا من بريطانيا كان الجهاز معهم، وعندما غيروا السكن بعد ذلك تركوا الجهاز امانة لدى بعض السكان لحين العودة لأخذه، ثم نسوا امره وبقي الجهاز لدى السكان سنوات، وتوفي هؤلاء فبيعت الشقة الى سكان جدد الذين قرروا التخلص من الجهاز الغريب برميه في القمامة، وهذا يؤكد المثل الكندي القائل: "قمامة غيري جواهر بالنسبة لي..." والآن تلف بيغ مع زوجها كل المناطق التي نقبت فيها وراسلت اهلها بحثاً عن سر الجهاز في بريطانياوكندا ومصر، وتحكي قصتها الغريبة في محاضرات عامة مفسرة بالصور التي عثرت عليها، وقبل ان تسلم الجهاز "لبيبن" تنوي ان تؤلف كتاباً حول القصة برمتها. تقول بيغ: "من عجيب ما جمعت من معلومات عن الضابط غوردون انغرام الذي كان يلقب في مصر ب"انغرام بك" انه كان مستشاراً مقرباً من الملك فؤاد وكان هناك يتخصص في مكافحة مهربي المخدرات في اوائل القرن، وكان بمساعدة "الهجانة"، وهي فرقة الجنود التي تستخدم الجمال كوسيلة تنقل يسافر بين مصر وفلسطين عبر سيناء للقبض على المهربين. الغريب كذلك ان حفيدته "بيبن" تشرف الآن على جمعية خيرية لمعالجة مشاكل الادمان في منطقة هاليفاكس بكندا، وليس هذا هو ما ورثته عن جدها فقط، بل هي ايضاً مولعة جداً بارتداء القبعات"!