كانت الأم أماً من دون اسئلة وأجوبة، وباتت أماً جاهزة وتحت الطلب. وكان المرء يولد ويموت بپ"أم" واحدة وصار في وسعه ان يغيّر أمه كما يغيّر لون عينيه واسمه وجنسه. يسعد الاميركيين كونهم يحبون الامور ساخنة ويرمون الحصى في المياه الراكدة. وهم اليوم يثيرون الاسئلة حول الامومة ويجعلونها استحقاقاً. لم تعد الأم البيولوجية تملك الحق في حضانة طفلها مدى الحياة، ولم يعد الرابط الجسدي سبباً جامعاً مانعاً كافياً وافياً لإثبات صلاحيتها. ففي أول دعوى من نوعها طلب الفتى غريغوري كينغسلي الذي يبلغ الثانية عشرة أن "يتبنى" أماً وأباً بدلاً من أمه الحقيقية التي لا يجدها كذلك، ولبّى القاضي توماس كيرك الطلب. فالأب مدمن على الكحول والأم على المخدرات، اضافة الى علاقاتها السيئة ووضعها طفلها في دار للأيتام عندما كان في الرابعة وقضائها معه سبعة اشهر في السنوات الثماني الاخيرة. قال القاضي ان الطفل ليس "تابعاً" لأهله بل كائن له شخصيته وحقوقه ومن مصلحة غريغوري ان تحرم امه من حقوق امومتها ليصبح ابن جورج واليزابث راس اللذين وضع في رعايتهما. ولم تجدِ المقارنة المألوفة بين الأم الباكية وإبنها الضاحك الذي فرح بالتخلص منها. فالمرأة أهملت طفلها حقاً ولم يُسئها غيابه في حين حاولت الانتحار عندما تخلّت عنها إحدى صديقاتها. مذ أقرّت شرعة حقوق الطفل في 1989 بات له الحق في العيش بكرامة والتمتع بكل حقوقه الانسانية. لكن الأمومة والأبوة جُرِّدا من قدسيتهما عبر الأدب، الشعبي وغيره، وعلم النفس. لم تعد الكليشيهات تكفي لتصف علاقة الأهل بأولادهم وعبارة نابوليون "الأم التي تهزّ السرير بيمينها تهزّ العالم بيسارها" اختبرها الأطفال في مواضيع الانشاء حتى مجّوها، ولكنها لا تدل في الضرورة على حب الأم لأطفالها بل على قدرتها على الفعل في المجتمع. ونعرف ان أم نابوليون كانت طاغية قوية الشخصية فضلت جوزف، شقيقه الأكبر، عليه على الرغم من كل عظمته ومجده. ويشكو كثيرون من امهاتهم اللواتي يعتقدن ان متاعب الحمل والولادة سبب كافٍ لتمنين الأولاد بهموم الأمومة طوال العمر. لكن هذه لم تعد بيولوجية، يقول الغرب، بل اختيار عند الاساءة، وما اكثرها. كم نفكّر بالعودة الى الرحم كلّما لمسنا طفولة وعجزاً عن مواجهة الحياة في لوحة او نص أدبي. الغرب تحلّل من الروابط الطبيعية منذ زمن وبات الأولاد يتحملون مسؤولية انفسهم عند بلوغهم سن الرشد. وكثيراً ما يخيل للشرقيين ان الغربيين يفضلون كلابهم وهررهم على أولاد من لحمهم ودمهم كأنهم يطلبون عبرها بديلاً مطيعاً عن الولد العاصي الذي فقدوه. ولكن ربما كان الحنين للعودة الى الرحم إدانة لا للعالم فقط بل للأم ايضاً التي يختلف داخلها عنها، علماً ان الداخل "مسيّر" وهي حرة في انتقاء بعض وجوهها، ومنها الأمومة، الى حد كبير.