في البدء، كان الظلام الدامس هو الذي يسيطر على أحاسيسه، ويدرك في قرارة نفسه كم هو رهين هذا الظلام، الآن الأصوات التي يسمعها مثلّت له مخرجاً، بل إنه كان يرهف السمع لكل شيء، وكان حذراً من أية حركة تصدر صوتاً، وعلى مدى طويل، أدرك كنه الأصوات التي تصل إليه، بل ومقدار خطرها أو حتى سلامتها، بطبيعة الحال، حفظ عن ظهر قلب أصوات كل المحيطين به من أقارب وأصدقاء وربما بعض الضيوف، أصبح سمعه"بنكاً"مليئاً بالأصوات التي يفرزها. ويعرف كيف يمكن أن تكون فرحة أو حزينة أو محايدة، العمى محيط مليء بالشك وبالضواري، العمى صحراء تملك المتاهة ولا تملك الوجهة، هذا الرمل الذي تنفثه الصحراء بفعل اختلاف النجوم يؤكد حضورها الغارق في الغموض ومهابة المكان، العمى صفة للأرض وليست للإنسان. العمى صفة للنبات، العمى سجن مثمر إلا أن ثمره نادر وشحيح ومؤلم وبائس. حين استيقظ من نومه ذاك اليوم وكان ذلك اليوم يذكره جيداً، وكأنه أشبه بعيد ميلاده الذي لا يتذكره، إلا أنه منذ تلك اللحظة شعر بالارتباط بينه وبين صوت الديك. عمره تجاوز العاشرة، إلا أن عائلته التي سكنت إحدى القرى في نجد كانت تنوء بفقر مبصر، الأب يعمل في واحدة من مزارع النخيل التي تتناثر هنا وهناك، يقوم بسقيها وحين ينضج التمر يصعد إلى رؤوس النخل حيث يخرف عراجين التمر، ومع الكثير من العمال يرص المنتوج داخل عربات النقل التي تنقله إلى السوق الرئيس، حيث يتم"الحراج"عليه، وينال أجراً بخساً يعود به إلى منزله الطيني المتواضع وامرأته وهذا الطفل الأعمى. كانت الدائرة ضيقة والفرح لا يعرفه بعد أن عرض ابنه على الكثير من الأطباء حين وفّر مبلغاً ليصل به إلى الرياض، لكن الجميع اتفقوا على ألا أمل في عودة الإبصار إليه.. يعود حزيناً، يحاول قدر الإمكان أن يشعر ابنه بأن الأمل بالله كبير. لكن الابن الذي يعرف طبقة الصوت يحس مدى الحزن الذي يصبغ صوت والده ويدرك ألا أمل في القريب، كان في صغره يسأل والده ليصف له الرياض وشوارعها، كان يصغي بشوق عجيب لتلك الاسطوانات والأغاني الشعبية، كان يحتفظ بأصوات الركاب وروائحهم، يعرف الحزين والفرح لكنه يتوق لملامستهم والحوار معهم لكنه لا يسمع إلا تلك الكلمة التي تؤرق خاطره:"ربنا يشفيه". ثم يطبق باب التاكسي ليدرك أنه برفقة والده وصوت"حجاب بن نحيت"ومع ركاب لا يعرفهم. في تلك السنة وحين بلغ اليأس مداه لدى والده وأدرك ألا علاج، قرّر أن يدخل الديرة في الرياض. للمرة الأولى يسمع مهرجاناً من الأصوات وجلبة البائعين ورائحة الخضار والفواكه التي كانت تتسلل إليه وتأخذ مساحة الشم والسمع، بل كان والده يسمح له بين الحين والآخر ليمسّد أجساد الأرانب الناعمة داخل الأقفاص، ويلمس الكتاكيت الصغيرة حتى كاد أن يقتلها، سمع أصوات جميع الحيوانات التي رهنت للبيع، عاش ثلاث ساعات في نشوة السمع والشم واللمس وكأنه يثري في داخله مجموعة من المعارف، كان يبتسم ويمسك بيد والده الخشنة من جراء"خراف"النخيل، وتغيب الابتسامة، تتوارى وحزن دافق يجتاحه، فقد شعر من لمس كف والده مدى حزنه وإخفاقه وقلة حيلته، لا يدري لماذا قرّر والده شراء الديك، ضحك عليه أحدهم وباعه رفقة مجموعة من الدجاج بالكاد يدخل في شنطة التاكسي، حيث كان صاحبه متبرماً بل إنه زاد الأجرة، كان يتألم حين يدخل السيارة وحين يضع والده يده فوق رأسه خوف الاصطدام لكن حبه لوالده جعله يمرّر ذلك الألم ويدخله منطقة العفو. حين دخل المنزل قبلته والدته وفرحت به، أحس بذلك الفرح من اللمسة والصوت، إلا أن انكساراً في صوتها كدّر خاطره، وانتشرت غيمة من حزن حاد داخل قلبه وعرف أنها ستسأل والده أو هي قد سألته بالفعل لإشارة من يدها وكأنها تقول: بشّر! وربما أن إشارة من يديه تصرخ:"ألا أمل ولا فائدة". حاولت أمه أن تطرح الأسئلة المتتالية عن الرياض وأهل الرياض وبنات الرياض، لكن ذلك لم يحرّك فيه ساكناً، شعر كم هو عبء عليهما، وتألم كيف أنه وعلى مدى الزمن المقبل لن يستطيع رد الجميل، لن يستطيع أن يسعدهم، لاذ إلى الصمت ودخل إلى غرفته، استلقى على فراشه، فرّت من عينيه دموع كثيرة بلا صوت، أغمض عينيه ودلف إلى ظلام دامس، ولم يتبق سوى صوت الطبيعة ومن على بعد يتناهى إلى سمعه مواء القطط ونباح الكلاب، سقط من تعبه في بئر النوم. استيقظ ذلك الصباح بعد مرور خمسة أعوام حين لم يجد جدوى من العلاج ها هو يدخل عمر المراهقة ويشعر بكثير من التغيرات، لم يستطع السؤال عنها ولم يستطع التعامل معها، الأم شعرت بأن الابن أصبح داخل نطاق الرجولة، تنهدت:"لكن من تقبل به؟"أو تصبر عليه، البنات كثر في هذه القرية، إلا أنهن يطمحن بالخروج من هذه القرية التي لا تورّث لهن إلا الغم والهم، يرغبين بالهرب إلى المدن، بل حتى المطلقات لن يرضين به وعددهن لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة. المنزل أصبح حديقة مصغرة للحيوانات بحوشه الواسع. انتثرت الأغنام والدجاج والأرانب في كل صوب، كان الوقت الثالثة ظهراً في شهر من شهور الصيف، إذ ينتظر النخيل نضوج ثمره. أحسّ بحكة في العين لم يشعر بها من زمن وكأنها توطئة لشيء ما، مرت ساعتان.. لم يحدث شيء. الحكة عاودته مرة ثانية قبل أذان المغرب، هاجس يملؤه للمرة الأولى أن حدثاً ما يمكن أن يقع، ابتسم، الخاطر ينمو أكثر فأكثر، ولحظات الترقب تزيد من دقة قلبه وفجأة فإذا بالظلام الذي أطبق عليه ينقشع وحينها أبصر منزله، وجه أمه، لكن بؤرة الإبصار لديه تركزت في ذلك الديك الذي دخل عليه ليشاهده للمرة الأولى. صاح بأمه وبكاء مخبول يجتاحه، قبلته وبكت حين أخبرها بأنه يراها، لم تصدق وقالت له:"أنت صاحي؟". ذرف دمعه وأقسم بالله.."يكفي شوفتي للديك". الأم بين الفرح والحزن، لا تصدق لكن قلبها شعر بذلك من خلال صوته.. فجأة بكى بكاء مراً وبدأ يتخبط بكفيه كما كان. عاد سيرته الأولى داخل ظلمات التوجس والحذر والأصوات التي تملأ المكان، سمع الديك وهو يؤذن، على رغم هذا الحزن طافت بوجهه ابتسامة منكسرة وكأنه يسلي نفسه:"لقد شاهدته". الأم لم تخبر الأب، والابن لم يعد يذكر ذلك أمام أمه وكأن به رغبة بدفن ذلك الموضوع، فمن الذي يصدّق أنه رأى الديك عياناً بياناً وذلك العرف الأحمر يتوّج رأسه الصغير وذلك الذيل الذي يمثل شلالاً من الألوان المتباينة، الصمت يقلقه ويجعله يهرب إلى مناطق بعيدة، حيث لن يصدقه أحد، ربما والدته عرفت صدقه لكنه كان زمناً من الإبصار والانفكاك والحرية لم يدم طويلاً إلا أنه يقسم بالله أن ذلك حدث وأنه رأى الديك. ذات نهار.. وكانت رائحة القهوة تملأ المكان وصمت مريب يدفع والدته للحديث وكأنها تتمنّع من البوح أو أنها ترغب في ترتيب أوراقها لكي لا تحدث مفاجأة، شعر بذلك كله، بادرها:"ماذا لديك؟"، قالت مندلقة:"ودنا نزوّجك"، ارتبك عقد حاجبيه، ثم ابتسم ودخل في لحظة صمت عجيبة، قال:"كيف"؟ قالت له والدته:"مثل خلق الله"، جاوبها:"خلق الله يبصرون ويختارون أما أنا".. ودخل منطقة صمت آمنة. الأم أيضاً لاذت بالصمت أمام حقيقة لا تستطيع إنكارها. والدته امتلكت الجرأة وأخذت تصف العروس القادمة وحسنها وأخلاقها و.. و.. صمت طويلاً، فرك أصابعه، ومسح على جبينه مرات عديدة. كانت والدته تعرف أنه بهذه الحركة العصبية يرغب في طرح سؤال، شجعته:"هاه إيش رأيك"؟، سألها بصوت مرتعش والحزن يملأ كل كلماته:"وماذا تشبه من الديك"؟ والأم بكت بصمت وهو يكرر السؤال:"وماذا تشبه من الديك"؟ لم يسمع الإجابة ولاذ بغرفته وظلامه. الرياض - 16 شوال 1433ه * قاص سعودي.