يذهبُ رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا تعالى الضحى إلى بيت زوجه التي هو عندها وفي يومها، فإذا دخل بيته كان أول شيء يفعله عند الدخول السِّواك والسَّلام على أهل البيت، ثم يصلِّي صلاة الضحى أربع ركعات، وربما زاد فصلَّاها ستاً أو ثمانياً. وربما صادف طعاماً فأصاب منه، إذا لم يكن طَعِم في الصباح، وقد يُعرض عليه الطعام وهو صائمٌ فيُفطر، فقد قالت له عائشةُ رضي الله عنها يوماً: يا رسولَ الله، أُهديت لنا هديةٌ، أو جاءنا زائرٌ، وقد خبأتُ لك شيئاً قال:"وما هو؟". قالت: حَيْسٌ - وهو طعام من الأَقِط والسمن والتمر، تخلط جميعًا - قال:"هاتيه". فجاءت به فأكل، ثم قال:"قد كنتُ أصبحتُ صائماً". وفي دخوله هذا رأى زوجته جُويرية رضي الله عنها في مصلَّاها تذكرُ الله، وكان قد دخل عليها في الصباح وهي على حالها تلك فقال:"ما زلتِ على حالك التي فارقتك عليها؟"قالت: نعم. قال:"لقد قلتُ بعدَك أربع كلمات ثلاثَ مرات، لو وُزنت بما قلتِ منذ اليوم لوزنتهن: سبحان الله وبحمده، عدد خلقه، ورضا نفسه، وزِنَة عرشه، ومِدَاد كلماته". وكانت هذه ساعة خلوته في بيته مع أهله. وربما أتاه فيها بعض نساء المؤمنات يسألنه عن أمور دينهن مما لا يجرؤن على السؤال عنه أمام الرجال، ويكون السؤال بمحضر أمهات المؤمنين، فحفظن للأمة هذه الفتاوى النبوية في خاصة أمور النساء. ومن ذلك: أن إحدى نساء الأنصار أتته عند عائشة رضي الله عنها، فسألته عن غسل المحيض فقال:"تأخذ إحداكُنَّ ماءَها وسِدْرَتها، فتطهَّرُ، فتُحسنُ الطُّهورَ، ثم تصبُّ على رأسها، فتَدْلُكُه دَلْكاً شديداً، حتى تبلغ شؤونَ رأسها، ثم تصبُّ عليها الماء، ثم تأخذ فِرْصَةً مُمَسَّكةً - وهي قطعة قطن تُطيَّب بالمسك - فتطهَّرُ بها". فقالت المرأة: وكيف تَطَهَّرُ بها؟ فقال:"سبحان الله، تطهَّرين بها!". واستحى وأعرض، قالت عائشة رضي الله عنها: فلما رأيتُه استحى جذبتها إليَّ، فقلتُ: تتبَّعي بها أثر الدم. وهو يسمع ولا ينكر. وأتته أم سُليم وهو عند زوجته أم سَلَمة رضي الله عنهما، فقالت: يا رسولَ الله، أرأيتَ إذا رأتِ المرأةُ أن زوجَها يجامعها في المنام، أتغتسل؟ فقالت أم سَلَمة: تَرِبَتْ يداك يا أم سُليم، فَضَحْتِ النساءَ عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم! فقالت أم سُليم: إن الله لا يستحي من الحق، وإنا إن نسأل النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم عمَّا أَشْكَلَ علينا، خيرٌ من أن نكون منه على عَمْيَاء! فقال النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم لأم سَلَمةَ منتصراً لأمِّ سُليمٍ:"بل أنت تَرِبَتْ يداك"إن خيرَكن التي تسأل عمَّا يَعنيها، نعم يا أمَّ سُليم، عليها الغسل إذا وجدت الماءَ". فقالت أم سلمة: يا رسولَ الله، وهل للمرأة ماء؟ فقال النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم:"فأَنَّى يشبِهُها ولدها؟ هن شَقَائِقُ الرجال". وقد كانت لنساء الأنصار رضي الله عنهن جرأة في السؤال والاستيضاح، حتى قالت عائشة رضي الله عنها:"نِعْمَ النساءُ نساءُ الأنصار"لم يمنعهنَّ الحياءُ أن يتفقهن في الدين". وربما زاره في هذا الوقت بعض خاصة أصحابه"لأمر يعرض لهم: ومن ذلك: أن رسولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم كان في بيته مضْطَجِعاً على فراشه، لابساً مِرْطاً لعائشة، كاشفاً عن فخذيه أو ساقيه، فجاء أبو بكر رضي الله عنه، فاستأذن، فأَذِن له، وهو على تلك الحال، فقَضَى إليه حاجته ثم انصرف، ثم جاء عمرُ رضي الله عنه، فاستأذن، فأَذِن له، وهو على تلك الحال، فقَضَى إليه حاجته ثم انصرف، ثم جاء عثمانُ رضي الله عنه، فاستأذن، فجلس صلى الله عليه وآله وسلم وسوَّى عليه ثيابه، ثم أَذِن له فدخل، وتحدَّث إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقضى إليه حاجته، ثم انصرف، فقالت عائشة رضي الله عنها: يا رسولَ الله، دخل أبو بكر، فلم تهتشَّ له ولم تُبَالِه، ثم دخل عمرُ فلم تَهْتَشَّ له ولم تُبَالِهِ، ثم دخل عثمانُ فجلست وسوَّيتَ عليك ثيابك؟ فقال رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم:"أَلَا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة! إن عثمانَ رجلٌ حَيِيٌّ، وإني خشيتُ إن أذنتُ له على تلك الحال أن لا يَبْلُغَ إليَّ في حاجته". أَمَّا إذا خلا مع زوجته في بيته، فقد وصفت عائشة رضي الله عنها حاله تلك فقالت:"كان إذا خلا في بيته مع أهله ألينَ الناس، وأكرمَ الناس، كان رجلاً من رجالكم، إِلَّا أنه كان ضَحَّاكاً بَسَّاماً، وما كان إِلَّا بشراً من البشر، كان يكون في مِهْنة أهله - أي: خدمة أهله - يخصف نعلَه، ويخيط ثوبَه، ويحلُب شاته، ويخدُم نفسه، ويعمل في بيته كما يعمل أحدكم في بيته". إن هذا مشهد من مشاهد التمازج الزوجي في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فلم يكن في بيته الذي كان حجرة واحدة متقاربة الأطراف ما يُحْوِجُ أهلَه إلى معونة، حتى يكون في مِهْنة أهله، ولكنها العظمة الأخلاقية، إذ يشارك أهلَه مهنتَهُم"ليشعرهم بأن البيتَ بيتُهم جميعاً، كما أن الحياةَ حياتُهم جميعاً. كم في هذه اللفتة النبوية من رسائل الاهتمام الزوجي والحفاوة بالحياة الزوجية! فصلَّى الله على مَن كان خيرَ الناس للناس، وخيرَ الناس لأهله. وكما كان في بيته ومع أهله مساحة واسعة للوُدِّ والرحمة، ففيه مساحة واسعة للأنس والبهجة، وعفوية الحياة ولهوها، فها هي سَوْدة تزور عائشة رضي الله عنهما يوماً في حُجرتها، فجلسَ رسولُ الله بينها وبين عائشة، ووضع إحدى رجليه في حِجر عائشة ورجله الأخرى في حِجر سَوْدة، وكانت عائشةُ قد عملت حَرِيرةً، وهي حساء الدقيق، فقالت لسَوْدةَ: كُلي. فأبت وقالت: لا أشتهي ولا آكُلُ. قالت: لتأكلي أو لأُلَطِّخَنَّ وجهك. فأبت، فأخذت بكفِّها شيئاً من القصعة، فلطَّخت به وجهها، فضحك رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم، ورفع رجله من حِجْر سَوْدة"كي تَسْتَقِيدَ منها، ووضعَ بيده لها، وقال:"الْطَخِي وجهَها". فأخذت من القصعة شيئاً، فلطَّخت به وجهَ عائشةَ، ورسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم يضحك من صنيعهما، وبينما هم يضحكون جميعاً، وانفعالات الفرح الصاخب تُدَوِّي في الحجرة النبوية، إذ سمعوا صوت عمر رضي الله عنه ينادي في المسجد: يا عبدَالله بن عمر، يا عبدَالله بن عمر. فقال صلى الله عليه وآله وسلم:"قوما فاغسلا وجوهكما"فلا أحسبُ عمرَ إِلَّا داخلاً". فجاء عمرُ فقال: السلامُ عليك أيها النبيُّ ورحمةُ الله وبركاتُهُ، السلامُ عليكم، أَأَدْخُلُ؟ فقال رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم:"ادْخُلْ ادْخُلْ". لقد كان هذا التآنس والتهازل حَرَاكاً في مساحة السَّعة الواسعة التي جعلها رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم ميداناً للحياة"إن في ديننا فُسحةً. وكان ينام القَيْلولةَ إلى قريب صلاة الظهر، وكانت قَيْلُولته في بيوته وعند أزواجه، ولم يكن يدخل على أحد من النساء إِلَّا على أزواجه، عدا أم سُليم رضي الله عنها"فإنه كان يدخل عليها ويَقِيل عندها، وهي من محارمه، فقيل له في ذلك، فقال:"إني أرحمها"قُتل أخوها معي". وربما دخل ونام على فراشها، وليست في بيتها، فأُتيت يوماً، فقيل لها: هذا النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم نائمٌ على فراشك. فجاءت، وذاك في الصيف، وقد عَرِقَ النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم، حتى استنقع عَرَقُه على قطعة أَدِيم - جلد مدبوغ - على الفراش، فجعلت تُنَشِّف ذلك العرق وتعصِرُه في قارورةٍ، فاستيقظ وهي تصنع ذلك، فقال:"ما تصنعين يا أمَّ سُليم؟". قالت: يا رسولَ الله، عرقك أجعله في طِيْبي، وأرجو بركتَه لصبياننا. قال:"أصبتِ". ودعا لها بدعاء حسن.