الرواية، تاريخ من لا تاريخ لهم، فهي تقوم على الناس ولهم، ومن أجلهم، والعالم الفسيح المُطل على أحداث خيالية أو واقعية من خلال حكاية تصور فيها الشخصيات والأفعال ممثِلة للحياة الحقيقية للماضي أو للحاضر، وذكريات وكائنات وأصوات يحملها الكاتب وتشكّل غواية للمتلقي والمبدع على حد سواء، نكتشف من خلالها ونتأمل. إن الرواية التي ظهرت علامات التجديد على أساليبها وطرائق التعاطي معها بعد نتائج الحرب الكونية الأولى في عموم دول أوروبا وأميركا، هي فن الحياة والسؤال العميق والكشف المضني، إنها أداة الحفر في أعماق الأسئلة والأفق الذي ُيطل على آماد بلا حدود، والفن الذي استوعب وهضم ووظف الفنون جميعاً. إن الرواية هي الجنس الإبداعي الذي أصبح جزءاً من المشهد الأدبي العربي والعالمي، ويتوافر على رصد التحولات الاجتماعية والتاريخية وكشفها ومتابعتها، والمُعبّر عن الأنماط الاجتماعية والشاهد على صيرورة التاريخ وصيرورته وعلى تغيرات البيئة والمجتمع. ولعل الرواية، الفن الأكثر تعقيداً، بتعاملها مع ُمكونات التجربة البشرية وتشابكاتها وزمكانها وسبر أغوار شخوصها النفسية، هي التي تمنحنا متعة التخيل وتذوق اللغة والإبحار في دقائق المشاعر. هذه مقدمة لا بد منها، ونحن نقف أمام هذا المنجز الإبداعي الجديد للكاتب الباحث خالد أحمد اليوسف، والذي أبهرنا بنصه وشوقنا لمفرداته. إذا سايرنا النقد الحديث الذي ينظر لعنوان النص عتبة أولى لفهمه ومن ثم لوحته التي تعتبر مدخلاً ثانياً للكشف عن هوية وفضاءات النص، أمكننا القول أن العنوان لم يكن موفقاً في حمل المتلقي للذهاب بيسر إلى مضمون النص، إن لم يكن العكس هو الصحيح، إذ لا علاقة مباشرة بين فضاءات النص ومحمول العنوان وما يمكن أن يوحي به، في الوقت الذي جاءت فيه لوحة الغلاف محملة بالدلالات والإيحاءات، فالنظر المباشر للوحة يمنح المتلقي قمماً جبلية وقد يجد المتعمق أجساد نساء متلفعات بالأبيض فإذا ما دققنا النظر أكثر وجدنا مقطعاً جانبياً لوجه رجل تظهر شواربه وشفاهه وأنفه وكلها محل تأويل ومطارحات دلالية. يرصد الكاتب في نصه تحولات الزمن وانعكاساته على الإنسان والمكان بتشويق ومماحكات إيروتيكية، مسجلاً صور الحياة الشعبية وأطلس مفرداتها مضيئاً أحد الجوانب التي غفلت عنها الرواية السعودية كموضوع الأقليات التي تتكاثر هناك وما تمثله حيواتهم في شوارع الرياض الخلفية كالجالية اليمنية التي لها نصيب ولم نجد أثراً لغيرها من التجمعات البشرية الآسيوية. بطولات كثيرة يمكنها أن تتنازع بطولة النص غير ما وضع الكاتب كبطولة المكان وتطوره وتعدد الشخصيات وثرائها ونموها والتي تميزت بخاصية نحتها بطريقة جميلة موحية مريم الورقاء/شريفة الصماء/ناطح الجبل/شهاب الزين/سعيد الأعرج. وكما تتبع النص حركة الإنسان وارتباطه بالمكان وجدلية ذلك سلباً وإيجاباً، وهو ما يعد نجاحاً توثيقياً في هذا الجانب من دون أن ننسى التأشير على خاصية أخرى وظفها الكاتب وتمثلت في ملامسة الحقبة التاريخية التي وقف عليها النص من ستينات القرن الميلادي الماضي حيث وفاة الملك عبدالعزيز وثورة السلال وإغلاق قناة السويس فإن النص حول الكثير من المحذوفات والمضمرات التي كانت تحتاج إلى تفصيل أكثر يكسب النص عمقاً ويؤرخ لمزيد من حراك الشخصيات الاجتماعي. ولئن بدت المرأة في هذا النص هي المحور والفلك الذي يدور حوله مجتمع الرجال قاطبة فإن هذه الالتفاتة تُحسب للكاتب والنص الذي أعطى المرأة حقيقية دورها في المجتمع وتوظيف اندماج الخاص بالعام، عكس ما تحاوله الكثير من السرديات التي تجترحها الكثير من الأقلام النسائية عندما تضيء زوايا لا تأخذ من عالم المرأة إلا التهميش والتابعية للرجل.