ما أن يُثار الجدل أو النقاش حول الموقف أو الرأي تجاه الكثير من القضايا والمفاهيم المعاصرة ذات العلاقة بحياتنا الراهنة وبناء مستقبلنا، والبحث وإيجاد الحلول للكثير من أزماتنا ومشكلاتنا في ظل تعقيدات وتحديات الحياة الحديثة، إلا ونشهد استغراقاً واسترسالاً واضحاً من بعض أصحاب الرؤى الدينية في الاستعانة والاستشهاد بنقولات ونصوص جملة وافرة من علماء وفقهاء الإسلام ممن كان لهم الحضور والفاعلية والتأثير بآرائهم، وممن أثروا تراثنا بمؤلفات ومصنفات في قرون خلت وعصور مضت. فعلى رغم أن هؤلاء الأعلام قد أفضوا إلى ربهم إلا أنهم لا يزالون أحياءً وفاعلين بيننا في كثير من قضايانا المعاصرة ومستجدات حياتنا نحن الذين نعيش فيها، حتى أصبح الجدل والسجال حول الحاضر والمستقبل والبحث عن الحلول لواقعنا لدى هؤلاء مرتهناً بالعودة إلى تلك الاقتباسات والنصوص بصورة تحيلها من كونها مجرد قراءات وآراء اجتهادية للنص والوحي المقدس، وأنها كانت مرتبطة بظروف زمانية ومكانية معينة، ونتيجة لتفاعل مع واقع ومعطيات وحياة المجتمعات المسلمة في ذلك الوقت إلى درجة قريبة من القداسة والإلزامية، وليتم الارتقاء والنأي بها بعيداً من النقد، أو الرد بصورة وطريقة لم يطلبها أولئك الأعلام، ولم يدعوا الناس إليها، بل جميعنا يدرك ما ينقل عن كثير من تلك الرموز والأعلام بأن ما قالوه وما كتبوه ما هو إلا رأي اجتهادي قد يحتمل الخطأ بقدر احتماله للصواب، وأن آراءهم ما هي إلا موضع نقاش وقبول أو رفض ورد. لقد تعاقب أئمة المذاهب الأربعة الكبار وتزامن بعضهم، ومنهم من تتلمذ على الآخر، وعلى رغم ذلك فإن أحداً منهم لم يعتقد وجوب الوقوف عند اجتهادات من سبقه، وهذه الجرأة والفاعلية منهم في الاجتهاد لأنهم كانوا ينطلقون من الإيمان والقناعة بأن لا قداسة إلا للوحي، وأن اجتهادات من عاصرهم أو من سبقهم ليست سوى اجتهادات بشرية يؤخذ منها ويرد حتى كانت آراء بعضهم قد تخالف آراء واجتهادات بعض الصحابة، ولكن حينما ضعف هذا المنطلق أصبحت معارف وآراء هؤلاء الأئمة قيداً على فهم النصوص، فشاع منطق وعقلية التقليد وظهرت آراء تنادي وتدعوا إلى عدم جواز الخروج على أقوال أولئك الأئمة، وأن الحق لا يخرج عنهم وعدم جواز إحداث قول من بعدهم، وأصبح الناس يرون فهم النصوص فقط هو من خلال فهم أولئك السابقين، على رغم تغير ظروفهم وأحوالهم وتطور المعارف البشرية من حين ومن مكان لآخر. التساؤل المثار هنا هو ما الذي يمكن أن تضيفه تلك النقول والاجتهادات الموغلة في ظرفها التاريخي والزماني والمكاني إزاء الكثير من تحديات الحياة المعاصرة؟ وما الذي يمكن أن يقدمه أولئك الرموز والأعلام الذين عاشوا في تلك القرون لمسلمي القرن ال 21؟ وما الذي يمكن أن يقدمه أولئك الفقهاء الأجلاء، على رفعة مكانتهم وعلو منزلتهم ممن عاشوا في عوالم محصورة الأبعاد والآفاق للمسلم المعاصر الذي تنفتح حياته اليوم على عوالم بلا حدود وآفاق بلا نهاية في مشارق الأرض ومغاربها؟ إن معالجة كثير من قضايانا عبر اللجوء والاعتماد بصورة كبيرة على أقوال أولئك الذين توارثت الأجيال على تعظيمهم، وتشبعت بكيل الثناء الغامر لهم، وأحاط بهم البعد الزماني بهالات التبجيل والتفخيم بصورة تجعل منهم متحكمين في حاضر الأحياء ومستقبلهم ما هو إلا تغييب لدور العقل والإبداع، وإذا حصل التوقف عند مرحلة معينة من مراحل الإبداع بحيث تصبح المجتمعات تعتمد عليها بصورة رئيسة وتنجر إليها في جميع أمورها فإن ذلك يعني توقف البناء وبداية التآكل الحضاري وتدهور المجتمع، وأن الخضوع والاستغراق بتلك الصورة المبالغ فيها للتراث، ولتلك التصورات والآراء والاجتهادات البشرية لن يؤدي إلا إلى مزيد من حال الجمود والانحدار والتخلف الحضاري، وأي اعتقاد بأن تلك التفسيرات التاريخية وفقهها صالح لكل زمان ومكان، وأنها تملك القدرة في الإجابة عن كثير من تحديات وأسئلة الحياة الحديثة التي تتسم بالتغير والتجدد وليس بالثبات والاستقرار، والإذعان لتلك الاجتهادات ولذلك الماضي الساحر الذي تدفق نوره في زمن سحيق ليملأ الدُنيا خيراً ومعرفة وسلاماً، والنظرة إليه بعين الرضا وعين الاطمئنان والتسليم والقبول المطلق، وكأن الأزمنة لم تتغير، وكأن أحوال الناس ومعاشاتهم لم تتبدل، وأن أية فكرة أو قضية لا سبيل لاكتساب شرعيتها إلا منه. ما هو في الحقيقة إلا نوع من التضييق على مسلمي اليوم، وجعل الدين السامي بما احتواه من قيم سامية وتعاليم عظيمة يبتعد عن التغيير والتأثير في حياة الناس وتلبية متطلباتهم، وهو ما يجعلنا في حاجة ماسة للدعوة إلى تجديد الفهم للقيم الدينية لتكون قادرة على مواكبة الحداثة والتطوير والانسجام مع الحياة العصرية ومتغيراتها، ولا يمكن الحصول على ذلك إلا من خلال طرح التساؤلات والمناقشات الجريئة والشجاعة لواقعنا وسبل معالجتنا لها، وأهمية وجود الدراسات والأطروحات التي تسهم في الاستفادة من تراثنا وتوظيفه بصورة إيجابية تتوافق وتنسجم مع قيم الحياة المدنية الحديثة وبوعي ومرونة تكون قادرة على معايشة الواقع بتغيراته وليس مجرد الجمود والثبات على عتبة التاريخ والتراث. * كاتب سعودي. [email protected]