تدفع مصر غرامة تأخير. تطفو إلى السطح هذه الأيام كل المشكلات التي تجاهلها الحكم السابق وسعى إلى دفنها والهرب منها. الأحدث بين المعضلات الآتية من أعماق الكبت، اثنتان: الأقباط والجيش. المقتلة التي وقعت أمام مقر التلفزيون في القاهرة، تعلن أن «المسألة القبطية» قد فُتحت في مصر. ليس ما يدعو إلى الراحة في وضع الأقباط. والصدام بين متظاهرين منهم وبين القوة العسكرية التي كانت تحرس مبنى التلفزيون في ماسبيرو، ليس غير ذروة التناقض بين جماعة أهلية وبين جهاز السلطة الأقوى، الجيش. وقد يدعو إلى الغضب الشديد تعرّض دار عبادة قبطية إلى الحريق، في ثالث حالة منذ ثورة كانون الثاني (يناير) في حالات تفوح منها روائح التواطؤ بين تيارات إسلامية متشددة وبقايا الأجهزة الأمنية السابقة، وتبقى من دون تحقيق. ثم يتعرض المتظاهرون الذين جاءوا إلى مبنى التلفزيون للاحتجاج إلى معاملة عنيفة، ينفي الجيش مسؤوليته عنها، تسفر عن سقوط أكثر من عشرين قتيلاً قبطياً (بالإضافة إلى عدد من العسكريين وفق تأكيدات القوات المسلحة). لا يصح بحال عزل حوادث يوم الأحد الماضي عن تاريخ طويل من التمييز الصريح والمستتر الذي يعاني الأقباط منه منذ عقود بل قرون. لكن المعضلة تتخذ أبعاداً أعمق عند النظر إليها كعنصر من عناصر الأزمة التي تعيشها مصر في مرحلتها الانتقالية الحالية. والمرحلة هذه تقتضي، تعريفاً، أن تنقل البلاد من حال إلى آخر. وأن تؤسس، في أضعف الاحتمالات، لمناهج في التغيير الديموقراطي السلمي للأوضاع القائمة اليوم ولعلاج الأزمات، ومنها أزمة العلاقة بين الأقباط من جهة، وبين الدولة والمسلمين، من الجهة الثانية. وبعدما بدا في الأشهر القليلة الماضية أن الموضوع القبطي قابل للإرجاء، إلا أن أحداث ماسبيرو، وما رافقها وتبعها من تحريض صريح مارسه بعض وسائل الإعلام ضد الأقباط، والجنازات الغاضبة للضحايا، والارتباك في معالجة الموقف الذي ظهر في أداء السلطات، أمور تقول كلها أن الاستمرار في حرق الكنائس والتعامي عن أوضاع الأقباط، وصفة ناجحة لتمزيق نسيج البلاد. يصعد هنا السؤال حول الأدوات والهيئات، السياسية والأمنية والاقتصادية، التي ستتولى نزع فتيل الصراعات الطائفية. فأجهزة الدولة برمتها هي موضوع بحث، إن لم يكن نزاع وصراع، بين رؤى وتيارات يسعى كل منها إلى ترسيخ وجوده في الحيز العام استعداداً للانتخابات المقبلة، وهذا - بداهة - من ميزات المراحل الانتقالية. من بين المؤسسات المطروح وضعها على البحث، الجيش الذي يعتبر نفسه «العمود الوحيد الباقي من أعمدة الدولة». وهو يرى انه يتعرض لهجوم مخطط عليه لدفعه إلى الانهيار والقضاء بذلك على مصر ككيان سياسي. يمكن نقاش وجهة النظر المذكورة وتفنيدها، من خلال رسم لوحة عريضة للوضع المصري يدخل الجيش فيها كأحد عناصر الدولة والمجتمع وليس «العمود الوحيد». وإذا جرى توسيع زاوية الرؤية، لظهرت ملامح من يريد وأد الثورات العربية باستغلال سقوط الضحايا الأقباط. ولسُمع صوت من يهمس قائلاً أن جريمة ماسبيرو هي المضمون الحقيقي، القاتل للمسيحيين وللأقليات الدينية والعرقية كلها، «للربيع العربي». الحقيقة غير ذلك. وما جرى في القاهرة يوم الأحد الماضي، ليس سمة عامة تتشارك فيها الثورات العربية. على أن ذلك لا ينبغي أن يفسر تقليلاً من صعوبة المرحلة الانتقالية في مصر، ولا من أخطار الانزلاق إلى صراعات طائفية أو مذهبية في بلدان عربية أخرى. بيد أن الإصرار على رفض التغيير لن يؤدي سوى إلى تضخم غرامة التأخير.