سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
"الثورات العربية" تعيد الباحثين إلى الملك عبدالعزيز من "بوابة أخرى" ... بعد عقود من رحيله . الثنيان : المؤسس جعل "الكرامة" أساس الوحدة ... وما كان يجعل الأعزة أذلة ! 1 من 2
ظلت السعودية منذ وقت مبكر من تاريخها، ملتقى حكماء العرب، إلا أن بعض أشقائها من بين يديها ومن خلفها، ظلوا كلما ظنوا"الفرصة مواتية"، يمدون نحوها يداً تعبث أو لساناً يهمز. في غضون ذلك، ربما رأت"دارة الملك عبد العزيز"كشف شيء من النقاب، عن الخلفية التي يستند إليها حكام الجزيرة العربية، وفلسفتهم في شيمهم تلك، في عام"الثورات"، الذي بعثر أوراقاً عدة، فتبنّت كتاب"إنسانية ملك"للكاتب السعودي، التربوي الدكتور عبد العزيز الثنيان، وهو الذي حاول فيه تجنب علل ما يُكتب عن الأمراء والملوك والسلاطين من الإطراء والمدائح، وانصرف إلى تدوين ما شهد به الأعداء، ووثقه أكابر الكتاب، أو خصه به من الأحياء، الرجال العدول. و"الحياة"التي حصلت على المسودة النهائية للكتاب، قبيل طبعه من"الدارة"، تستعرض، نماذج من المواقف التي تضمنها، خصوصاً تلك المتعلقة بأحداث مضت، وتكاد في عصر الثورات تعيد نفسها، كما لو أنها سنة لا تتبدل. انطلق مؤلف كتاب"إنسانية ملك"من الأسباب التي دفعته إلى إعادة إخراج كتابه في حلة جديدة، بعد أن كتبه أول الأمر، قبل عقد من الزمان، عندما أهداه إلى روح الملك عبد العزيز في ذكرى تمام المئة الأولى من دخوله الرياض، التي كانت الحبة الأولى من"السبحة"التي استحق جمعها 30 عاماً، قضاها الراحل على صهوة جواده أو في خنادق المواجهات، وهي المهمة التي استوقف الكاتب تمامها على يد رجل، لم يكن وقتئذ يملك كثيراً من العدد والعدة، فحاول البحث عن السر. وقال:"وجدتُ أن تلك المواقف أجابت على الكثير من الأسئلة التي كُنت أسمعها وهي: كيف استطاع الملك عبدالعزيز في عصر الحصان والجمل أن يجمع قارة، ويوحد القبائل، ويجمع القلوب من حوله"؟ ويستعين بأمين الريحاني ليفهم أكثر، فينقل روايته عن الملك عبد العزيز"أنا لا أخشى إلا الرجل الذي لا شرف له ولا دين"، فيرى الثنيان أن المواقف التي رواها، جعلته يؤمن بأن"أساس الوحدة ليس السيف والقوة، ولا الخشونة والقسوة، ولا الانتقام والبطش، وإنما هو الدين والشرف، والمعاملة الكريمة، والعفو والتسامح، والتأسِّي بالمنهج النبوي،"اذهبوا فأنتم الطلقاء"وإبقاء الأعزة أعزة فاجتمعت على الملك عبد العزيز حوله القلوب قبل الأجسام". ابن القتيل ... يحرس المُلك! عندها بدأ الكاتب يسرد المواقف بقراءته الخاصة، فيما تكتفي"الحياة"بذكر الموقف مجرداً، وإن كان الباحث عبر تتبعه لا يخفي قناعته، بأن النماذج التي توصل إليها وإن كانت قليلة إذا ما قورنت بحياة الراحل الغنية، إلا أن عبرها استطاع تفسير كثير من المواقف الأخرى، ولذلك بدا جازماً بأن الملك عبد العزيز بنى"فلسفته"عليها، وليست جانباً عابراً في شخصيته أو استثناء. أعجب موقف في نظر الثنيان، كان استطاعة الملك عبدالعزيز ? رحمه الله - أن يجعل ابن القتيل حارساً للمُلْك فذاك سليمان بن عجلان اسْتَّلَّ الملك عبدالعزيز ضغينته وحوّله من العداوة إلى الصداقة، ومن الكره إلى الحب فصار أحد كبار حراسه يأتمنه على نفسه، ويضع روحه بين يديه، ويقف ذلك الموتور بقتل والده حارساً على رأس الملك عبدالعزيز يَذُود عنه ويفتديه بنفسه فوالده هو عجلان الذي انتصر عليه الملك عبدالعزيز وقتله أثناء اقتحامه المصمك واسترداده للرياض. إنها لوحة نادرة وحالة فريدة لا يمكن أن تكرر في التاريخ. فابن القتيل يحمي القاتل. أمرٌ يُثيرُ العجب، ويبعث الفخر، ويستوجب الدراسة فأي إنسان ذاك الرجل العظيم رحمه الله. ويقول أحد رجال الملك عبدالعزيز: رأينا الملك يُدني مَنْ كانوا أشد خصومة وعداوة له، بل صحبهم معه في غدواته ورَوْحَاتِه وكان يقول لمن يذكره بماضي هؤلاء المحيطين به:"لقد أعدت ضمائرهم إليهم، وإني أكاد أقرأ ما يجول في نفوسهم من أسفٍ وندمٍ على ما صدر منهم". ويقول عبدالرحمن عزام:"كنت في سنة 1938 ضيفاً له، في شمال نجد، وبقينا أياماً في البادية للقنص، وكلما جلسنا إلى طعام وجدت حوله من قاتلوه.. أو قاتله آباؤهم، يمرحون ويمزح معهم ويشاركهم في قُوته وماله ومتاعه"وهو يتفكه بقصصهم وقصص آبائهم معه، والهزائم التي ابتلي بها في قتالهم، والنصر التي آتاه الله عليهم، ويقسم أنه يراهم كما يرى أبناءه، ولا يرضى فيهم إلا بما يرضى في أبنائه. وفعله معهم هذا، أكبر دليل على صدقه، فقد عاش أمراء جزيرة العرب وشيوخها الذين استولى على ملكهم، أعزاء في كنفه، تحميهم كلمة التوحيد، وتصون حقوقهم تلك الروح التي لم يجد الزمان بمثلها، روح عبدالعزيز السامية وعقله الكبير وحلمه وتواضعه وخوفه من الله سبحانه وتعالى". وموقف آخر يحكي نفسية الملك عبدالعزيز الكريمة، إذ جاءه أحد الأشراف يهنئه باغتيال الشريف الملك عبدالله بن الحسين وهو من الخصوم الذين ما فتئوا ينالون منه وكانت له معه صولات وجولات، وكر وفر. جاء ذلك الرجل وظن أن الملك عبدالعزيز سَيَطرَب للخبر وسيبادله التهنئة إلا أن الملك غضب وثار ونهر ذلك الرجل وطرده من مجلسه ووصفه بالخسة والنذالة وقال: هل أشمت بموت الملك عبدالله؟ وهل يشمت عاقل بموت الناس؟ لا يشمت إلا الجبان الرعديد، إن اغتيال الناس مهما كان سببه ليس من الرجولة، ولا من البطولة، بل هو نوع من الخبل، ولا يشجع عليه إلا رجل تنقصه الشجاعة والرجولة. شتيمة أنتجت"وقفاً سنوياً" وفي باب السماحة والإكرام نفسه الذي استفتحه الكاتب بالخبر السابق، أردف إليه موقف آخر، لا يقل غرابة وأسطورية، وذلك أن الطوق حول مدينة حائل مقر إقامة آل الرشيد"حلفاء الأتراك"، الذين أسقط الملك عبدالعزيز إمارتهم، وكان الحصار، والموقف كراً وفَراً، وساحة نزالٍ وقتال، الرؤوس تتساقط، والفرسان تتجالَد، والصوت للسيف، والقرار للبندقية، وتتقارب الجموع، ويصطف المقاتلون، وعلى وقع سنابك الخيل، ولمعان السيوف، وصليل الرماح، ونخوة الأبطال، تلوح في الأفق شموع السلام، وترتفع رايات السكينة والحوار، وبشائر الصلح والوئام، ويبعث أمير حائل وسيد شمَّر وحاكم الجبل آنذاك محمد بن طلال بن رشيد وفداً من رجاله برئاسة عبدالعزيز بن زيد للتفاوض والصلح وحقن الدماء وحفظ الأرواح. ويصل الوفد ويرحب به الملك عبدالعزيز ويجتمع بوفد السلام، ويلتقي في ذلك الجو الحربي المتوتر، وفي تلك الساعات الحرجة"فالأعصاب مشدودة والنفوس مضطربة، وكل يتلمظ بالآخر، إلاّ أن بشائر النصر للملك عبدالعزيز فلهُ آيات الغلبة، ومعه أدوات القوة، فهو الزاحف المحاصر، وهو القوي الغالب. وتحدث رئيس الوفد ابن زيد وقال: نقبل الشروط التي سبق أن عرضها الملك عبدالعزيز على الأمراء السابقين من آل رشيد، وتقضي تلك الشروط أن يظل ابن رشيد أميراً في حائل مستقلاً استقلالاً داخلياً. إلا أن الملك عبدالعزيز رفض ذلك الطلب على اعتبار أن تلك الشروط سبق عرضها ولم يقبلها أمير حائل آنذاك. وكان طلب الملك أن يتم الاستسلام نهائياً مع سلامة الأمير ومواطنيه، وحفظ كرامة الجميع، ورفض ابن زيد عرض الملك عبدالعزيز وقسا في قوله. احتد النقاش بين الملك وابن زيد، وأحسب أن الملك عبدالعزيز تمالك نفسه فالرسل لا يُقتلون، وزاد النقاش سخونة وتوتراً فالملك يريد الاستسلام وابن زيد ينشد موافقة الملك عبدالعزيز على العرض السابق، وتتابع الكلام وعلت الأصوات حتى غضب الملك على رئيس الوفد المحاور وأسمعه كلاما قاسياً إلا أن ابن زيد كان جريئاً وصلباً وقال للملك: يا عبدالعزيز إن لم تقبل فبيننا وبينك السيف. وعند ذلك ازداد غضب الملك فزجره وطرده من مجلسه ثم أرسل الملك عبدالعزيز إبراهيم ابن جميعه إلى ابن زيد يسأله إن كان لديه كلاماً يخفيه غير الكلام الذي تكلم به في المجلس العام لكن ابن زيد قال: إن ما قلته علانية هو ما أقوله سراً: ليس بيننا وبين عبدالعزيز سوى السيف. حالة حرجة، فالنار مشتعلة، والحرب قائمة، والكِفَّةُ للملك عبدالعزيز، والتراجع والذبول لأمير حائل وهذا الرسول يتمادى في قوله وكأنه المنتصر، ولهذا غضب الملك واشتد غضبه فشتم ذاك الرسول وشتم والده. وعاد الوفد إلى حائل وأعلم ابن رشيد بما دار من حوار. إلا أن ابن رشيد لام رئيس الوفد فالحصار يشتد والخوف يزداد ولكن ابن زيد قال لابن رشيد كما يقول الرواة:"إذا أردت أن تقبل شروط الاستسلام التي يطالبك بها ابن سعود، فعليك أن تبعث جارية سوداء تفاوضه عنك بقبول الصلح، أما أن تبعثني وأنت لا تريد الاستسلام فإنه لا يسعني إلا أن أقف الموقف الصلب الذي يُمليه علي إخلاصي ووفائي لك ولبلادي". ومضت الأيام وصار الاستسلام وفق شروط الملك عبدالعزيز وعادت حائل للسيادة السعودي، وبعد أن دخل الملك مدينة حائل عفا عن الجميع، وتناسى كُلَّ زلة، وتجاهل كل هفوة، بل ها هو"يعلن على رؤوس الأشهاد اعتذاره عن شتيمة والد ابن زيد ذاك الرجل الذي أغضبه، وذاك الرسول الذي أزعجه. يقول ابن زيد عن نفسه: كنت أتوقع أنني أول مواطن من أهل حائل سيضرب عنقه عبدالعزيز بالسيف، وكنت حائراً لا أدري ماذا أفعل فأي أرض تُقلَّني؟ وأي سماء تُظلُّني؟ إلا أنني عندما رأيت جميع أهل البلاد ذهبوا يقدمون الطاعة للفاتح الجديد، ويعاهدونه على أن يَفُوا له كما وفوا لأمرائهم السابقين، فعند ذلك اضطررت مُرغماً إلى أن أذهب مُندساً وسط الرجال الذين يُعاهدون عبدالعزيز، ويُعاهدهم هو أيضاً على الأمان، إلا أن عبدالعزيز ساعة ما رآني قابلني بالرضا والابتسام، وقال: أين ابن فارس وكيل المؤونة؟ وعندما جاء الشيخ ابن فارس قال له: ألم أقل لك: إذا ضحيَّتَ لوالدي ووالدتي وأهلي الأموات، فاذبح أضحية للمرحوم حمود الزيد، والد عبدالعزيز هذا تكفيراً مني لشتمي لوالده في تلك الساعة التي أغضبني بها؟.