الحروب الفكرية من أخطر أساليب الحروب، مقارنة بالحروب العسكرية البدنية، خصوصاً أن الأولى تفسد الإنسان ابتداءً والأرض تبعاً، أما الثانية فتفسد الأرض ابتداءً والإنسان تبعاً. وفي الحديث عن ثورة المصريين فإن وجه الخطورة عليها يكمن في أن من يدير الحرب الباردة عليها وعلى ثوارها هو من داخل حصون الثوار، وأن نبال الأعداء تنطلق من وراء ظهورهم ومن حيث يأمنون! ولا شك في أن مجمل الأحوال السياسية في مصر يقول: إننا لم نرَ عاماً تجلت فيه أوجه الخطورة على الوطن وكثرت مشكلاته في كل شأن، سواء أكان سياسياً أو اقتصادياً أو أمنياً كهذا العام، ولا يرجع سبب ذلك لأن مصر يغلب على حالها الطابع الثوري وأنها في فترة تغيير. ولكن السبب الرئيس الذي يجعلنا نقيم الوضع بأن هناك خطراً على الثورة بل على الثوار أيضاً هي إدارة المجلس العسكري للبلاد، التي يرى البعض في ظاهرها الفشل ولكننا نرى في باطنها حرباً باردة على الثوار. ولمن يلتمس في المجلس العسكري حسن النية ويحكم على أفعاله بغير دقة ولا رؤية عند التقويم، ويقول بفشله نظراً لانعدام إدراكه بالسياسة، ولا يدقق برؤية عند تقويم المجلس العسكري، واضعاً في اعتباره واقع القهر الذي يحياه الثوار. وقد يطول بي المقال إن أردت أن أذكر تفاصيل أفعال المجلس العسكري الخاطئة التي اقترن بها سلوكيات فظيعة، التي لا توصف معها تلك الإدراة بوصف غير"الحرب الباردة"على الثوار، وذلك بما يستجد كل يوم على أرض الواقع التي كان من بينها على سبيل المثال"كشوف العذرية وسحل الفتيات واعتقالهن وتعذيبهن في غرف مجلس الشعب"، حتى وإن قلنا إنه ليس مدركاً بالسياسة بل جاهل بها. ليس من العدالة أن يأخذ المجلس العسكري تبريراً جميلاً على كل يوم سُقِيَتْ فيه الأرض بدم الإنسان وسمدتها أتربة الحجارة المقذوفة وأعيرة الرصاص من هنا وهناك على المتظاهرين الشرفاء التي تبيت في صدورهم أو في عيونهم. المجلس العسكري بما يملكه من جيش عظيم أبعد من أن يكون مغلوباً على أمره بالفشل في إدارة البلاد أمنياً أو بغلبة البلطجية على تأمينه، إن أراد التأمين على شيء مهما كان، وأن المجلس العسكري أدهى من أن يكون غير مدرك أو جاهلاً بالسياسة ويعوقه شأن سياسي مهما صعب. لكنه يدير حرباً باردة على الثوار، إما بالقول الذي يتجلى كل يوم في تصريح، إما على لسان منسوبيه، بمثل ما قاله اللواء كاطو"عن أزمة مجلس الوزراء الأخيرة: بأن هؤلاء المتظاهرين يستحقون أفران هتلر، أو بسكوته عن جموع مختلة معتلة كجموع العباسية التي تمثل أفراداً لم يشتهروا في ساحة الإعلام أو السياسة أو الثقافة إلا من سفاح بين مهنهم وبين نظام مبارك الفاسد. المجلس العسكري استطاع أن يجعل له في مصر طائفة مدللة من التيارات الدينية، وطائفة أخرى ممن يجيدون لعق أحذية الرؤساء في أن يعلقوا بذيله ومعهم صافرة يشيرون بها إلى طائفة أخرى عريضة في ظلمات الجهل والغباوة، فتارة يقولون بسلاح التشكيك"الثوار عملاء"، وتارة يقولون"إنهم مخربون"، وبذلك استطاع المجلس العسكري أن يكافئ الثوار الذين كانوا بمثابة الآلة الرافعة للمتطوحين في عواثير التعاسة والشقاء، والمتدهورين في مهاوي الخذلان بين حالين: حال القتل أو الجرح المادي بكتائبه التي لا ترحم، وإما معنوياً بقتلهم في مجتمعاتنا التي تلاحق من يخالفها فقط باللعنات، إذن فما بملاحقة العملاء والمأجورين؟ النهاية الحتمية التي يجب أن يقررها الشعب على المجلس العسكري هي وجوب ترك السلطة في 25 كانون الثاني يناير المقبل، وذلك حتى تنهض الأمة من ضعفها وإقالة عثرتها وإقامتها في مصاف الأمم القوية بتسليم أمورها الكلية إلى رجال من ساسة تلك الأمم يقيمون فيها القسط، ويرفعون لواء العدل والمساواة، ويغلون أيدي المتسلطين عن التعدي، ويجتثون شجرة الرشوة الخبيثة من أصولها، ويعممون فيها الأمن، وينشئون المعامل والمصانع، ويسهلون الطرقات، خصوصاً أن صح ما يدعيه البعض في جانب المجلس العسكري من انعدام إدراكه وجهله بالسياسة، وانتهى بسؤال أطرحه على المجلس العسكري هل تدير الحرب الباردة ضد الثوار؟ محمد جلال عبدالرحمن - الرياض [email protected]