إن ما يحدث في وقتنا الراهن داخل الساحة المصرية من تعدد في مشكلاتها وازدياد في معاركها، إنما كان نتيجة لاتساع الحدود الفاصلة بين أبناء الشعب كلاً بحسب توجهه، سواء سياسياً أو دينياً وفقاً للأهواء الشخصية، وليس وفقاً للقواعد الوطنية. ليست المشكلة في الاختلاف كما قال الشاعر: وقد تتعدَّد الآراء فينا .. وتختلف المسالك والشِّعابُ. وما يدعو إلى الغدر اختلاف .. فكلٌّ حَسْب نيَّته يُثابُ. لان ذلك يعد إثراء ولا يؤدي حقيقة إلى ما نشاهده حالياً في مصر وعلى الأخص في شأنها السياسي من معارك إذا دققت في سبب وجودها تجد إنها مصطنعة وليس لها أسباب قامت من أجلها أو لتزود عنها. لست ممن يقولون بضرورة وجود خط أحمر لا يجوز أن يتجاوزه أحد مدَّعياً أنَّه يريد تصحيح الأخطاء ومعالجة التجاوزات وإكمال النَّقص إلا أن في حياتنا بكل ما فيها يوجد من الأمور والمسلمات ما لا يجب الاختلاف عليه، وقد تختلف من أجل مناقشة الظروف التي تحيط بتلك الأمور ولكن يجب ألا تختلف في ثباتها كمبدأ من مبادئ الحياة لا يقبل التغيير أو التبديل. ومن ذلك ما حدث من معارك لبعض الوقت كادت أن تنذر بفتنة هنا وهناك اختلافاً على تغيير المادة الثانية من الدستور، خوفاً من أن تكون مصر دولة دينية تلك التي تعد برأينا شأناً لا يقبل الاختلاف ولا النقاش فيه. فإنه من المسلمات أن يكون لمصر خلفية إسلامية تؤكد على أن تخرج تشريعاتها وقوانينها وفقاً لتاريخ يقول بأن مصر دولة إسلامية المرجعية والحضارة والثقافة بل إن الدول الغربية تنص على الدين في دساتيرها، إذن فهل كانت المادة الثانية من الدستور المصري مضموناً يقبل الاختلاف والنقاش فيه؟ وفي الحديث أيضاً عن المعارك المصطنعة ما يجري حالياً من خلاف على أن مصر ستكون دولة مدنية أم دولة دينية، وذلك على رغم أننا دولة وسطية تجمع بين الدولة الدينية والمدنية، فمصر دولة"مدنية ذات مرجعية إسلامية"وهو نفس النظام الدستوري الذي انتهجه رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينةالمنورة. إذ كانت دولة مدنية تمارس فيها الحريات بألوانها المختلفة ويتم استصدار القرارات بناءً على رأي الأغلبية، وكان تشريعها إسلامي يكفل العدل للمسلم وغير المسلم على حد سواء، وقد عاش بها المسلمون مع المسيحيين واليهود، ومسموح لكل من المسيحيين واليهود ممارسة عباداتهم والذهاب لمعابدهم وكنائسهم، ولهم حرية اختيار الدين. ولا ننسى أيضاً الحديث الطويل عن حق أبناء الشعب المصري في الخارج عن أحقية التصويت من عدمه التي تأتي من مبدأ المساواة وهو مبدأ ثابت في الشرع والقانون ومعطى من معطيات حقوق الإنسان، لا يقبل المعركة الطويلة التي خاضها الكثير من المصريين برفع الدعاوى القضائية والتهديد باللجوء إلى القضاء الدولي من أجل الحصول على حق لا يقبل الاختلاف أو النقاش في مشروعيته لتلك الفئة المصرية المهجرة بحثاً عن لقمة العيش. والحديث الطويل الذي ترتب عليه معركة أيضاً مصطنعة ما بين الجميع، وهو عزل فلول ورموز الحزب الوطني السابق، ذلك المطلب الذي لا خلاف على أحقيته، كمطلب مشروع ثبت لكل مصري بمجرد سقوط رأس النظام وحل الحزب الوطني، نظراً لثبوت خلافه بصورة مفترضة لا تقبل إثبات العكس. في الحقيقة في تلك الفترة الانتقالية التي تولى فيها المجلس العسكري إدارة شؤون البلاد ترتب الكثير من المعارك المصطنعة بصورة تجعلنا نقول بأمرين: الأول: إما أن رب البيت الذي يحكم مصر ويدير شؤونها لا يقر حقوقنا المشروعة التي ثبتت أحقيتنا فيها من منطلق الأمور، وأنه يريد تلك المعارك المصطنعة. الثاني: وإما أنه مقصر وكان الارتباك الذي نعانيه الآن هو سبباً أساسياً فيه. ونهاية ادعوا الجميع حاكماً أو محكوماً إلى إدراك مطلوب.. يجب أن ندرك أننا حالياً في مرحلة خطرة لا تحتمل أن يماطل المجلس في تسليم السلطة، أو يختلق البعض هنا أو هناك معارك مصطنعة حتى نصل إلى بر آمن، ولكي لا يجد الحاقدون علينا داخلاً وخارجاً مدخلاً لإشعال نيران الفتن والخلافات التي ترسِّخ جذور المشكلات والأخطاء، وتنفخ في نيران تأتي من نزاعات على ثوابت تؤدي إلى فتنة محققه.. حفظ الله مصر. محمد جلال عبدالرحمن - الرياض [email protected]