أكد الكاتب شايع الوقيان أننا في حاجة إلى الفلسفة، بل العالم - في ظل هذا التوتر الذي يعيشه - في حاجة إلى الفلسفة. وقال:"إن الفلسفة لا تقدم حلاً جاهزاً لمشكلات المجتمعات، ولكنها المهماز الذي يوقظنا من نومنا باستمرار". مشيراً إلى أن الكتابة الفكرية والفلسفية تحديداً في ساحة الثقافة السعودية، لا تزال في بداياتها وأن الهوة التي بين الحداثيين والماضويين ليست سحيقة بالقدر الذي نتصوره، مشدداً على أن الحداثيين السعوديين لا يزالون يستعيرون كثيراً من آليات الخطاب السلفي، ويرجعون إليه من أجل مهادنته واكتساب مشروعية."الحياة"التقت الوقيان، فكان هذا الحوار: بداية كيف ترى دور الكتابة الفكرية والفلسفية في المشهد الثقافي السعودي؟ الكتابة الفكرية والفلسفية تحديداً في ساحة الثقافة السعودية لا تزال في بداياتها، وكما يعرف الجميع فإن حاجتنا إلى الفلسفة في السعودية هي حاجة كل حضارة للنهوض ولبناءِ خطابٍ حضاري أو لنقلْ ? بحسب فوكو ? لتحديد ملامح"نظام معرفي شمولي"مرن قادر على أن يكون محضناً خصباً لاستيلاد الأفكار المبدعة ولتوزيع الخطابات المختلِفَة، بصورة تسمح بالحوار والتواصل الفعال. والفلسفة في رأيي ما زالت أم المعارف وإنْ بمعنى مختلف عن المعنى السابق"فهي وإن كفَّتْ عن تزويد العلوم بالحقائق فإنها لم تكفَّ بعدُ ? وأظنها لن تكفَّ - عن إثارة الأسئلة واستعادة الدهشة وإقلاق راحة العلوم، التي لا تستطيع اختراق جدار النظام المعرفي السائد أو البراديغم العادي والكشف عن انحلاله وضعفه إلا بتحريضٍ من الفلسفة. إذاً نحن بحاجة إلى الفلسفة في السعودية لبناء نظام معرفي جديد، يقطع تماماً مع النظام القديم الذي أثبتَ فشله الذريع، والذي يجاهد"حرّاسه"بيأسٍ لبعثه وبث الروح فيه وترقيعه ولكنَّه لا يستجيب، كما أننا بحاجة الفلسفة لتفكيك وهدم هذا النظام الجديد، حينما يستنفد ممكناته ويصبح غير قادر على الإبداع. فهي عملية مزدوجة تنطوي على بناء وهدم أو هدم وبناء. في جدليةٍ دائبةٍ تسري فيها روحُ السلب النقد كما تسري الدماء في العروق. ما الصعوبات التي تواجه الكاتب في الفكر والفلسفة؟ غياب المجتمع الفكري والفلسفي، أو المجتمع المعرفي كما يحب عبد الله المطيري أن يسميَه. ولن يتحقق هذا المجتمع مادام كل كاتب يعيش منعزلاً وكأنه قادر على الاستغناء عن جهود المفكرين الآخرين. ومادام كلٌّ منهم يفهم التنافس والاختلاف بوصفه انفصالاً وقطيعةً ورفضاً للآخر، وليس اتصالاً به وامتداداً من خلاله واغتناءً بغنائه. وهذه المشكلة ليست محلية بل عربية، ويمكن استثناء المغاربة من هذه الآفة حيث يلاحظ أن كل مفكر حاضرٌ بقوة في نصّ الآخر، ليس للاستئناس به أو للتلمذة عليه واتخاذه مرجعيةً صلبة، بل للحوار معه. إذا كانت الهوة بين الحداثيين والماضويين سحيقة لا تقبل الردم، فكيف يمكن حل مثل هذه المشكلة، في رأيك؟ يمكن القول إن الهوة التي بين الحداثيين والماضويين ليست سحيقة بالقدر الذي نتصوره، فالهوة السحيقة في رأيي تكون بين نظامين معرفيين أو بين عقلين ? بالمعنى الذي يقصده الجابري. والمتأمل في الخطاب الحداثي، وتحديداً في السعودية، يرى أنه لم يبتعد كثيراً عن الخطاب السلفي"لأنَّ الأولَ يفتقد للمستَنَد الفلسفي والاجتماعي الحقيقي، في حين أن الخطاب السلفي له مستنده الفكري والعقدي والتاريخي العريق، ولذا لا يزال الحداثيون السعوديون يستعيرون كثيراً من آليات الخطاب السلفي ويرجعون إليه من أجل مهادنته واكتساب مشروعية منه ? إنها حداثة سطحية وليست جذرية. وحتى في الوطن العربي نجد أن البدايات الأولى للتأسيس الفلسفي للحداثة النهضة قد تعطَّلت لأسباب كثيرة أهمها عدم تجذُّر هذا الأساس في الثقافة العربية بشكل يساعد في إقامة قطيعة إبستمولوجية جازمة، مع أنماط التفكير الموروثة ومع البنى العميقة للعقل. إن الهدف من إنشاء الحلقة الفلسفية هو تهيئة الجو الثقافي للقيام بالمهمة النقدية الصارمة، التي تستهدفُ تحليل وتفكيك ونقد النظام المعرفي السائد، وبقدر ما تتم حلحلة الأسس البنيوية لهذا النظام، بقدر ما تنفرج كوى ونوافذ يمكن أن نرى من خلالها ملامح نظام جديد. لماذا الإصرار على الفلسفة بالذات؟ وهل تعولون عليها كحل لمشكلات المجتمع؟ نحن في حاجة إلى الفلسفة. بل العالم - في ظل هذا التوتر الذي نعيشه - في حاجة إلى الفلسفة. إن الفلسفة لا تقدم حلاً جاهزاً لمشكلات المجتمعات ولكنها المهماز الذي يوقظنا من نومنا باستمرار ويذكِّرنا بألا ننسى الرسالة الحقيقية لكل جهد بشري وهي الانتصار للإنسان ولكرامته ولحريته، والكشف عن حالات الاغتراب التي يعيشها بعد أن أصبح وسيلة، ويكون ذلك عن طريق استعادة المعنى والقيمة التي تلاشت في دوامة الصراع المسعور، وهذه مهمة الفلسفة. هل الفلسفة إذن ضد مقولة الصراع الحضاري؟ هو في الحقيقة صراع إيديولوجي مبطَّن، يتخذُ من الحضارات والثقافات وسيلة له لإذكاء جذوة الصراع ولإلقاء البشرية في مزيد في جحيم العنف والإرهاب. والإيديولوجيات بعامةٍ لا تنمو إلا في أجواء التوتر والصراع وانتشار قيم العنف والإقصاء والكراهية. لقد كان التفاوت الطبقي في ما مضى فرصةً ملائمةً لاستثمار مشاعر الغضب، وهذه المشاعر هي وقود الإيديولوجيا المحرِّك بعد تحويلها وتفريغها من براءتِها الأولى. إن الإيديولوجيا بحد ذاتها تحركها غريزة الجشع، وهذه لا يمكن تبريرها إلا بالغضب الشعبي. وأما اليوم فلم يختلف الوضع كثيراً فقد رفعت الإيديولوجيات شعار الخوف بديلاً عن الغضب. ولكنَّ الجشعَ وحب السيطرة لا يزال هو قلب الإيديولوجيا النابض! يمكن القول إن الحضارات بحد ذاتها تسمح بإقامة جسور التواصل والتبادل السلميين. الانزعاج من حلقة الرياض الفلسفية ما تقويمك للحراك الثقافي السعودي أخيراً؟ ثمة ما يبشر بالتفاؤل، فالإقبال الملحوظ على تناول المواضيع الفكرية والفلسفية ? بعد عقود طويلة من السبات الأدبي والشعري الذي لا يعوَّل عليه كثيراً ? يساعدنا على التنبؤ بظهور حركة فكرية شابة وجديدة أقوى من الحركات التحديثية السابقة التي افتقرتْ إلى أهمّ معين للنقد وهو الفلسفة، وأما حالياً فإنني منزعج من موقف كثير من المثقفين من حلقة الرياض الفلسفية فتراهم يهاجمون ويسخرون ويثبطون. كما أن فهمهم للفلسفة لا يختلف عن الفهم الشعبي لها، فالفلسفة تارةً هي الثرثرة، وتارة هي والشعر سواء، وربما تصوّروا الفيلسوف على هيئة الحكماء والخطباء العرب القدماء، الذين يرسلون الكلام عفواً فيذهب مثلاً سائراً ويغتبط به الناس ويظنون أن لدينا فلسفة منذ العصر الجاهلي! ومن هؤلاء عبدالله البريدي وعبدالله الناصر ومحمد السحيمي"وهذا الأخير أعلن أن الشاعر المبدع جاسم الصحيّح فيلسوف حقيقي، والأغرب أنه يصر على أن"جدته حمدة"فيلسوفة! وأود في الختام أن أبعث بدعوة إلى كبار المثقفين السعوديين كالغذامي والعلي والقصيبي وتركي الحمد والبليهي وغيرهم ليكونوا على اتصال بالحراك الفلسفي والفكري الذي يقوده الشباب، والذي لا يقتصر على الحلقة الفلسفية فثمة كتابات معتبرة خارج الحلقة، فالتواصل هو الطريق لتأسيس مجتمع معرفي حقيقي يتابع فيه كل مثقف ما يطرحه الآخر ويتحاور معه بل ويفكر من خلاله. ولا يفوتني أن أشكر المثقفين الذين وقفوا معنا ودعموا هذه الخطوة الجريئة، وأخص بالذكر سعد البازعي ومعجب الزهراني وعثمان الصيني. ألا ترى وجاهة لهذا الانتقاد، كونك تكيل الألقاب لبعض الكتاب في وقت باكر؟ قد يكون لهذا الانتقاد وجاهته، بل إن بعضاً من أولئك الشباب الذين وصفتُهم بالمفكرين اعترضوا على التسمية، وعلى رغم ذلك لم يسلموا من الهجوم، الذي وجهه لهم الأديب القاسي محمد السحيمي في ثلاثة مقالات على الأقل. وأما إطلاقي صفة مفكر على كاتبٍ شاب ما زال في بداية الطريق، فقد شرحتها مطولاً في مقال بعنوان:"من هو المفكر"نشر في"عكاظ". وذكرتُ أن صفة المفكر يوصف بها كل مشتغل على الفكر بصرف النظر عن مكانته وموقعه في"مدينة الفكر الفاضلة"التي لابد من أن يترأسها ? بحسب التوجه الثقافي العربي منذ الفارابي ? واحد أحد يكون القلب الذي يترأس ولا يُرأس!. وإذن فالصفة هنا وظيفية وليست معيارية، إنها تحيل إلى المهنة التي يتولاها الكاتب.