قال الرجل ويعيش وحيداً بعد أن هجرته زوجته لطبيبه النفسي المعالج: إنني أتألم، أتذكر لسعة الغدر والخيانة فأبكي، أتذكر وحشة الليل ووحدتي فأعاني، أخاف الظلام وأشعر معه بالضعف والملل والهوان، أستعيد الذكريات العذبة فأتذكر أنها انقضت فيزداد حزني، أريد التخلص من هذا الألم والعودة إلى حياتي السابقة، فيرد الطبيب في هدوء ويقول: ليس من المفيد لك أن"تبتسر"الألم على الفور وتتخلص منه قبل أن يستكمل دورته الطبيعية ويزول تدريجياً مع الأيام، بل إنك في حاجة الآن، لأن تقبل به كحقيقة من حقائق الحياة كما تقبل بغيره منها، فيتفاجأ الرجل بجواب طبيبه ويسارع بالرد قائلاً: أنا أحتاج إلى الألم! أنا أصرخ للبرء منه لأعيش حياتي وأواصل الطريق، فيجيبه الطبيب: لا أحد منا في حاجة إلى الألم بالمعنى الحرفي للعبارة، لكن حين يصادفنا من أحداث الحياة ما يدعونا إلى التألم له، فلا بد لنا أن نعاني، وأن نقبل بألمنا ونتوافق معه إلى أن يرحل عنّا بسلام، ولو لم نفعل ذلك لحقّ لنا الشعور بالقلق على سلامة أحاسيسنا وأجهزة استقبالنا وقوانا العقلية، فالناضجون فكرياً والمتزنون عاطفياً هم وحدهم الذين يتألمون لما يستحق أن يتألموا له، والمضطربون عقلياً ونفسياً هم وحدهم الذين لا يحزنون في مواضع الحزن، ولا يفرحون في مواضع الفرح، لذا أنا أدعوك إلى تقبل ألمك والصبر عليه حتى تنقضي فترة حضانته الطبيعية لديك...ويخفت. كلمة أخيرة: إنها"حكمة الألم"في حياة الإنسان، وكيف أننا لا نعرف غالباً قيمة الأشياء إلا حين نتعامل مع أضدادها، وأعظم تجربة من كل ألم يصادفنا ومضى أنه مضى، فلا شيء يبقى على حاله، وقصارى ما يمكننا فعله هو تدريب أنفسنا على القبول بألمنا ومحاولة ترويضه في صندوق من الصبر والفهم والتجمّل إلى أن ينصرف عنّا بسلام كما جاءنا من غير دعوة، فنستعيد أنفسنا وعافيتنا بمغادرته، ونتعلم كيف نشعر بمعاناة غيرنا، وكيف نخفف عنهم حرقتهم، فنحن لا نحسب في عداد الأحياء إلا بقدر عطائنا، فالنفس التي لم تتألم، هي نفس لم تتعلم، هي روح لا تستطيع التحليق في سماء الإنسانية، فلا شيء يخلق فينا يقظة الضمير ويصيّرنا أكبر من ذواتنا غير الألم، فهو مربينا لأن تأثيره علينا ضعف ما تحدثه اللذة فينا، وقد قيل أن الألم واللذة يتزاحمان على نفس الطبق، غير أن طعم الأول أقوى بمرارته وأعلق بالذاكرة من حلاوة الثاني، وهكذا وجدت آلام الحياة في دنيانا أكثر من ملذاتها، فصادق ألمك حتى ترتاح، وتأكد أن الألم يأتي إليك مهرولاً، أما الشفاء منه فيسير بطيئاً ومتثاقلاً، يقول جبران خليل جبران:"للرجل العظيم قلبان: قلب يتألم وقلب يتأمل"، فتأمل حزنك وألمك تجده يطهرك...وتجدك أكثر شفافية وقرباً من الله، ومن التواصل مع المخلوقات...والطبيعة! وقالوا:"التجربة مدرس صارم يجري الامتحان أولاً، ثم يشرح الدرس"فيرنون لو. [email protected]