قلت إن اتباع أسلوب التلقين والحفظ والنقل في مناهجنا التعليمية والتربوية حتى وقتنا الحاضر، أنتج لنا عقولاً وذهنيات لأجيال تأخذ ولا تعطي، يفكر عنها ولا تفكرعن نفسها، عقولُ"أمية ثقافياً"، لا تؤمن الا بالمعرفة الوثوقية الدوغمائية، التي لا تؤمن بمفهوم الجدل الفكري أو العلمي او بالتعددية او بالنسبية في الحقائق. هذه العقول التي تختزن المعلومة وتستعيدها آلياً، إما لأهدافٍ ذاتية ضيقة ساذجة، او لأغراضٍ عارضة آنية ذات طبيعة اجرائية سطحية، ولا تعرف كيف تستخدمها وتوظفها لاحقاً في تحليل أو توصيف او تطوير واقعها المعيش، هذه العقول لا يمكن ان تنتج الجديد والمغاير، ولا أن تضيف جديداً الى المعرفة العلمية وانجازاتها الكونية، فلا تنفتح بالنتيجة خارج أقواس منظومتها التقليدية، ولا تبصر الأرضيات المعرفية المختلفة المحيطة والبعيدة، أو تحلق بخيالها الى أفق المغايرة والتحديث، وهي بذلك كما نراها طرائد سهلة ومطواعة لقوى التعصب والتشدد والجمود، التي تنسف كل السياق المعرفي البشري التراكمي الذي تحقق حتى اللحظة، فلا تلتقي مع المعطيات والاستنتاجات العلمية الجديدة، فعلى سبيل المثال هي لا تؤمن حتى الآن بنظرية داروين، أو نظريات الهندسة الوراثية والجينية واستنتاجاتها المذهلة، فتتجاهلها وكأنها غير ماثلة أمامها، أو ليست ذات تأثير ملموس في واقعها وحياتها، وهو ما ترك أثره واضحاً في مستويات وطريقة كتابة البحث العلمي في جامعاتنا، الذي يدعي علميته لكنه حقيقةً يستخدم استراتيجية ثقافة الذاكرة غير المبدعة، ولا يخرج عن حصار منظومته وأحادية معرفته. كيف يمكننا الانتقال بنظامنا التعليمي من ثقافة التذكر والتسليم والنقل الى ثقافة التفكر والتخييل والابداع؟ بالطبع لا أملك وحدي اجابة شافية على سؤالٍ حيوي كهذا، بل لعلي أشير الى بعض ملامحها هنا، فلعل التوسع في التعليم الحر والخاص، بدءاً من مراحله الأولى الى العليا تقنياً وادبياً ومهنياً، دمقرطته واستقلاله التام منهجاً وغايات عن المنظومة التعليمية العامة وضوابطها ومواضعاتها المجتمعية الضاغطة، يفتح الباب واسعاً الى وضع برامج ومناهج تعليمية مغايرة وخلاقة، تذهب الى عمق العملية التربوية الابداعية في ارتباطٍ جدلي، بواقعها التنموي وحاجاته الموضوعية، وفي توظيفٍ خلاق لما توصل اليه الفكر التنموي العالمي، وتجاربه الحيوية النظرية والعملية، ولعله يمهد ? بذلك - التربة الاجتماعية لتخليق جيلٍ ابداعي جديد ذي طاقة تخييلية يقبل التحدي الحضاري الراهن ويتفاعل معه، ويستوعبه ويفكر في المستقبل، ويضعه في رأس اولوياته. بمعنى منح المدارس والجامعات الأهلية الخاصة حرية ابداع المناهج التعليمية الخاصة بها، والاضافة اليها خارج اطار الضوابط والثوابت، التي تلتزم بها المدارس الحكومية. وبمعنى تأسيس تعليمٍ حرٍ مبدعٍ، طالما يدفع متلقيه مقابلاً مادياً له، أي أن تحقيق الاستقلالية والتمايز المنهجي والتقني للمدارس الخاصة، يعد شرطاً ضرورياً لأفق التعليم الحر وترقية مستوياته. وفي واقع الأمر ليس الكل بقادرٍ على تحمل نفقات وارهاقات التعليم الحر المالية، فبلادنا تنعم بمجانية التعليم في كل مراحله، الذي هو أحد حقوق المواطن على الدولة، الا أن مجانية التعليم يجب الا تكون ذريعة لتدني مستوياته، وقلة جودته وتأخر مواكبته لمستجدات العملية التربوية العالمية، او آخر انجازات الفكر التنموي الجديد، كما أن الخروج عن منهجية التلقين والتذكر الى أفق الفهم والتحليل والابداع، جوهر التغيير المنشود في مناهجنا التعليمية الحكومية أيضاً، فهذه المنهجية ما زالت تقاوم وتراوغ وتمارس وصايتها التربوية، دافعةً الى تعطيل ذهنية الابداع والتخييل وتعويق تبلورها، وهي وان بدت في الآونة الأخيرة محسنة لآلياتها، وطرق تفعيلها او لصور تمظهراتها في العملية التعليمية، الا أنها ما زالت باقية كأسٍ جوهري لمفهوم ذهنية النقل، لا العقل الممتدة من مفاهيم البنية الثقافية السائدة وخطاباتها المتعددة، فمفهوم التلقين هو المعادل التربوي لمفهوم النقل الوثوقي الدغمائي، يخلق استمراره مهاداً سهلة وأبواباً مفتوحة يلج منها - بلا مقاومة ذهنية - خطر مفاهيم التشدد الديني والتطرف الى عقول شبابنا وشاباتنا، ويجذبهم الى أرضيته وغاياته التدميرية. فنحن فعلاً بحاجة قصوى الى نهضة عقلية في التعليم، تغير في بنيته الثقافية أولاً على مستوى المنهج العلمي والمنهج الديني والأدبي، تخرجه من حصار الجمود وانسدادات أفق الخصوصية الاجتماعية الى حيوية المدار المفتوح للمعرفة المبدعة، التي تتمايز عن عقلية الحفظ والتلقين وفلسفة النقل والاتباع بعقلية التفكير والتخييل. فلماذا مثلاً لا ندرس شبابنا بدءاً من المرحلة الثانوية وضمن مادة التربية الإسلامية بعض قضايا الفكر الديني وطروحاته المتنوعة بقصد حب التعلم والانفتاح على المغاير لا بقصد النقض والتسفيه، كأطروحات محمد جمال الأفغاني ومحمد عبده في التوفيق بين العلم والمدنية وإنجازات المفكر الإسلامي محمد إقبال في تجديد الفكر الديني أو أطروحات محمد أركون الفكرية وحفرياته في قراءة التراث الإسلامي، وكثير لا يحصى من المفكرين العقلانيين الذين أسهموا بعمق في تقليب هذه التربة وتجديدها الا أنهم حتى الساعة يواجهون الإهمال والازدراء والطعن في اعتقاداتهم وخصوصياتهم الفكرية والعقلية؟ ولماذا لا يتم إشراك الأدباء والمفكرين المعاصرين في وضع المناهج التعليمية وبخاصة في مواد الأدب واللغة والتاريخ وعدم الاقتصار على مدرسة أدبية معينة والوقوف عند نتاجاتها وإبداعاتها، بل على المنهج الأدبي الجديد أن يتوسع في تقديم نماذج حديثة ومعاصرة من أجناس أدبية وفكرية محلية وعالمية بحيث يتم تعريف شبابنا بواقع الحراك الثقافي الجديد ووضعه في قلب المشهد الأدبي لا تغييبه عنه ووضع الحجب الكثيفة عليه؟ ولماذا لا يتم خلق بيئة"بحث علمي"جديدة يتخلق في أجوائها باحثُ علمي تخييلي عندما يتناول في معالجاته للظواهر كلها العلمية والدينية والتاريخية لا يتم ذلك ضمن حصار المفاهيم التقليدية وتسليماً بضوابطها واكراهاتها، أو ضمن المفهوم الرغبوي أو ضمن اللا تجريد الموضوعي والارتكان إلى ما توصل اليه السلف او السابقون بل عبر انفتاح ذهني خلاق على كل علوم العصر وآفاقه، ليس بروح وثوقية من يملك الصواب في استنتاجاته ومقارناته النظرية بل بروح النظر العقلي الفاحص الذي يشغفه البحث عن الحقيقة غير المكتملة وعن بعض الحقيقة التي يملكها الآخر في وجهٍ من وجوهها بشكلٍ نسبي؟ وهنا لابد أن أشير بتقدير كبير إلى القرار السياسي الواعي بتجديد البعثات التعليمية إلى الخارج برنامج الملك عبدالله للابتعاث الخارجي، فهذا قرار عقلاني صائب بامتياز سيخلق لنا في المستقبل القريب جيلاً نوعياً آخر، جيلاً مسلحاً ليس بالديناميت والأحزمة الناسفة وغريزة الموت وثقافة الكراهية، بل بمنهجية ذهنية بنائية جديدة مغرمة بحب الحياة وإنسانها على امتداد الكرة الأرضية، وبقدر ما يحمله من ارثٍ ثقافي وديني تسامحي له بعده الخاص وهويته المكانية بقدر ما يأتي هذا الجيل مشبعاً بمعارفٍ حديثة وبمناهج جديدة في التفكير والحياة مغايراً لما تعود عليه أو عاشه في سنين تكونه الأولى. منهجية ذهنية كهذه لاشك ستسهم في تبيئة هذه العلوم والمنهجيات الجديدة في واقعها مدشنة لنهضة علمية وفكرية مؤملة ومندرجة في سياقها الكوني. وأتمنى أن تستمر هذه البعثات لسنواتٍ قادمة وألا تقتصر على التخصصات العلمية والتقنية البحتة بل أجد من الضرورة أن تضم التخصصات الأدبية والدينية والثقافية بحيث تشمل دراسة العلوم الدينية والإنسانية والتاريخ الثقافي والأنثروبولوجي والحضاري العالمي في معاهد وجامعات أميركية وأوروبية معروفة والانفتاح عن قرب على طرائق ومناهج تعامل المجتمعات الحضارية الأخرى ومقاربتها للظاهرات الدينية والثقافية وإنجازاتها التاريخية في مجاوزة معضلة التطرف والتعصب الديني ومناهج تفكيرها الفلسفي وتعاطيها مع الشأن التعليمي وعلاقاته مع المنظومات الدينية المختلفة. وهنا لابد لي أن أتساءل: ما فائدة العملية التعليمية إذا لم تحدث التغيير في المجتمع؟ فهي كي تغير لابد أن يحدث التغيير في قلبها أيضاً كلما ألحت الحاجات الموضوعية، فجدل التغيير هو جوهر وغاية العملية التعليمية واستراتيجيتها، وجوهر التفكير العلمي على مدى صيرورته وتطوره التاريخي. جوهر التغيير الملح في العملية التعليمية في تصوري- يتحدد في اتجاهات وآليات متعددة من ضمنها، عندما تهدف الى التخلص من منهجية ثقافة الذاكرة والتذكر الى ثقافة التفكير والتخييل والنقد، وعندما تدفع بالعقلية المتعلمة الى أن تتحول من خلال التعلم الى عقلية حوارية ناقدة، وعندما تعلم متلقيها أن الحقائق الثابتة المؤكدة ليست من صفات العلم وما أنتجه العلم حتى الآن من حقائق علمية تصبح حقائق نسبية في مرحلة قادمة من تطوره. هذا الجوهر-الجذر سيدفع بالعملية التعليمية إلى تحفيز توظيف المعلومة، مضفيةً عليها أبعاداً تغييرية ذات دلالات عملية في ذهن متلقيها والى تحفيز قيمة التخييل في ابتكار المعلومة الجديدة المتجاوزة لسابقاتها، والى توظيف النقد وطريقة التفكير النقدي في تحليل الواقع ومجاوزته الى الأرقى. * ناقد وقاص.