لا تزال 5 مدن سعودية تدين بالفضل ل"خط أنابيب الزيت الخام عبر البلاد العربية"التابلاين، إذ قفز بها حضارياً بعد أن كانت قرى يعاني سكانها من الفقر والجهل ويعتمدون على الرعي لتوفير قوت أولادهم. بل إن عاصمة منطقة الحدود الشماليةعرعر لم تكن لتوجد لولا"التبلاين"، إذ اختارت الشركة المنفذة الموقع الذي تحتله المدينة حالياً مركزاً رئيسياً للإشراف على محطات خط"النفط"، ليتحول مقر"المحطة الرئيسي"إلى مدن وقرى يسكنها نحو 100 ألف نسمة اليوم. والتابلاين هو خط نفط ينطلق من بقيق وينتهي في مدينة صيدا اللبنانية المطلة على البحر المتوسط. وبدأ تشغيله عام 1950 إلا أنه توقف عن العمل في 1976. وأنشأت الشركة المشرفة على"الخط"مدارس في المحطات الخمس التي تمر فيها، إضافة إلى مستشفيات ومطارين، ووفرت فرص عمل للسكان المحليين. وتناقش"الحياة"أثر"التابلاين"الذي كان عند إنشائه حدثاً عالمياً على المدن التي مر فيها ثقافياً وتنموياً على مدى ثلاث حلقات. ومن المفارقات أن محافظة طريف وهي آخر محطة ل"التابلاين"في السعودية التي تشكو حالياً من"تعثر"مشاريع التنمية فيها، كانت متقدمة في مقاييس ذلك العصر على مدن سعودية كبيرة مثل جدة. ويؤكد الكاتب الدكتور علي التواتي أنه افتقد وسائل الترفية مثل"العروض السينمائية"، والأكلات الغربية التي كانت متوافرة في طريف حين انتقل إلى جدة لإكمال دراسته. يمكن القول إن"خط أنابيب الزيت الخام عبر البلاد العربية"التابلاين أحدث نقلة حضارية كبيرة في خمس مدن سعودية كان يمر من خلالها، منذ بدء تشغليه عام 1950 وحتى توقفه في 1976. فهؤلاء السكان الذين كان يتجاوز عددهم عند إيقاف التشغيل 500 ألف نسمة، تعلموا في مدارس تعد الأفضل على مستوى المنطقة العربية، فضلاً عن مستشفيات كانت تُجرى فيها جراحات معقدة في الخمسينات. ويعود إنشاء التبلاين أو"البيب"كما يسميه أهالي المناطق الشمالية إلى أسباب اقتصادية، فحينما خرجت أوروبا من الحرب العالمية الثانية"محطمة"كانت تحتاج لإعادة بناء بنيتها التحتية. في تلك الفترة كان"الذهب الأسود"هو مصدر الطاقة الأساسي، لدعم بناء وتعمير البلدان، وكان الطلب عليه كبيراً، حينها كانت رحلة النفط الخام من رأس تنورة على الخليج العربي إلى البحر الأبيض المتوسط بطول 11.5 ألف كيلو متر، تستغرق وقتاً طويلاً. من أجل ذلك فكرت الشركات المالكة ل"أرامكو"في تلك الفترة بإنشاء خط أنابيب لنقل النفط الخام من حقول النفط في مدينة بقيق السعودية إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط. فكانت الفكرة أن يكون مصب الخط في ميناء حيفا في فلسطين إلا أن قيام إسرائيل عام 1948 عطل تنفيذ المشروع، عندها أمر الملك عبدالعزيز، إما بإلغاء الخط كاملاً أو إيجاد مسار بديل، وتم تحويل مساره إلى ميناء صيدا في لبنان عبر الأردن وسورية. وعلى مدار أكثر من أربعين عاماً لعمل"التابلاين"في السعودية لا يمكن إغفال التأثيرات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية التي أحدثها"الخط"في سكان المناطق التي مر من خلالها. ويعود الفضل ل"التابلاين"باستقرار البدو الرحل لتلك المناطق في محافظاتالنعيرية والقيصومة ورفحاءوعرعر وطريف، وتوفيره لفرص عمل لهم ولغيرهم من آلاف سكان مناطق السعودية كافة. واكتسب هؤلاء السكان ثقافة ولغة ومهارات لم تكن تتسنى لهم لولا عملهم في"التابلاين"، كما وفرت لمواشيهم الماء من خلال 52 بئراً حفرته الشركة الأميركية المنفذة للمشروع"بكتل"في المناطق التي يقطعها الأنبوب. وأنشأت"بكتل"مساكن للعاملين لديها في المحافظات الخمس تتوافر فيها مستشفيات وخدمات الكهرباء و"البرقيات"، كما أتاحت للسكان المحليين الاستفادة من وسائل ترفيهية مثل الملاعب الرياضية، ومطاعم تقدم مأكولات غريبة في ذلك الوقت مثل"الهمبرغر"والآيس كريم، فضلاً عن توفير الماء البارد والثلج. وفي السياق ذاته، قال المدير العام للتربية والتعليم في منطقة الجوف للبنين سابقاً الدكتور عارف المسعر ل"الحياة":"إن مدينة عرعر هي أكثر المحطات التي حظيت باهتمام التابلاين وأصبحت ذات أهمية كبرى في موقعها بالنسبة للشركة، إذ أسست فيها ممثلية لها ومستشفى عظيماً في مستواه وخدماته"، مبيناً أن"بكتل"عملت على تخطيط مدينة"عرعر"بشكل راق. وأشار إلى أن تمركز الأعمال الفنية والمدنية المهمة للشركة في عرعر، أدى إلى حرص سعوديين من المناطق كافة على القدوم إلى المدينة طلباً للعمل فيها. وعدد المسعر ما اعتبرها أوليات تختص بها مدينة عرعر، متفوقة على المدن الأخرى، وهي: خُططت المدينة من قبل شركة"التابلاين"بشكل سليم، عُبدت شوارع المدينة بالإسفلت قبل غيرها من المدن، أنيرت المدينة بالكهرباء فكانت المدينة الوحيدة في شمال المملكة التي حظيت بهذه الخدمة، تأسست في المدينة بلدية ذات تشكيل فني وإداري جيد فكانت فتحاً في زيادة تنظيم المدينة ونظافتها، زودت مدينة عرعر بشبكة لمياه الشرب، وأُسس فيها مركز للتجنيد تابع لوزارة الدفاع والطيران عام 1952 ما وفر فرص عمل لشبان المنطقة، أُنشئت فيها مدرسة ثانوية كانت الأولى من نوعها في المنطقة". وأضاف:"كما أن هناك خدمات اختصت بها عرعر منها محال تجارية كانت تعرف ب الكانتين أو السوبر ماركت تحتوي على مواد غذائية لم تكن متوافرة في غالبية المدن السعودية، وأسس فيها مركز رياضي ترفيهي، كما اُفتتح فيها أول مركز بث تلفزيوني في مناطق الشمال". "الشركة" تحوّل "محطات" إلى مدن ... وتنشئ "إمارة" تحوّلت"المحطات"الخمس التي يمر بها خط"التابلاين"إلى مدن بعد مرور سنوات قليلة، بعد أن كانت قرى نائية مجهولة. وشيّدت الشركة المشرفة على الخط مقار لأجهزة حكومية في المحطات التي تمر بها، ففي عرعر مثلاً أنشأت مباني الإمارة والشرطة والمحكمة الشرعية ومكتب البريد، إضافة إلى مدارس للبنين والبنات. كما شيّدت محطات للمياه والكهرباء في هذه المدن، فضلاً عن إنشاء مطارين في عرعر وطريف، والأخير كان في ذلك الوقت"إقليمياً"ويستقبل رحلات دولية. ولم تكتفِ الشركة ببناء مقار الأجهزة الحكومية، بل عملت على تأثيثها وتجهيزها بشكل راقٍ. وإضافة إلى هذا كله، عبّدت طرقاً في المدن الخمس، خصوصاً عرعر التي كانت تقيم فيها إداراتها الرئيسية، التي تشرف منها على محطات"الخط"الأخرى، إذ أُسّس طريق عريض يقطع المدينة إضافة إلى شوارع فرعية. وأدت عمليات التنمية هذه إلى استقطاب آلاف المواطنين إلى عرعر بحثاً عن عمل، وكان من بين هؤلاء البدو الرحل الذين كانوا يلاحقون المراعي في شمال الجزيرة العربية. وكانت عرعر تُسمّى في بداية تأسيسها عام 1950"بدنة"، وعُيّن أميراً عليها الأمير محمد السديري، فيما بقيت المحطات الشمالية تعرف باسم محافظة"خط التابلاين"، إلى أن صدر أمر ملكي عام 1956 بتغيير اسمها إلى منطقة الحدود الشمالية، وعُيّن أميراً عليها الأمير عبدالله بن عبدالعزيز بن مساعد آل سعود، وتضم المنطقة إضافة إلى عرعر محافظتي رفحاء وطريف. "طريف" تتفوق على جدة "ثقافياً" من المفارقات أن محافظة طريف، وهي آخر محطة ل"التابلاين"في السعودية التي تشكو حالياً من"تعثر"مشاريع التنمية فيها، كانت متقدمة في مقاييس ذلك العصر على مدن سعودية كبيرة مثل جدة. ويؤكد الكاتب الدكتور علي التواتي أنه افتقد وسائل الترفيه مثل"العروض السينمائية"، والأكلات الغربية التي كانت متوافرة في طريف حين انتقل إلى جدة لإكمال دراسته. وأضاف:"حينها كان أهالي طريف يستمتعون بمشاهدة العروض السينمائية ومتابعة قناة الشركة التلفزيونية، كما أن أبناءهم تعلموا في المدرسة الابتدائية التي أنشأتها الشركة قبل إنشاء وزارة المعارف، إضافة إلى مستشفى متطور جداً بقياس تلك الفترة". وتابع:"كما كان باستطاعة السكان السفر إلى العواصم العربية المختلفة مثل بيروت مباشرة عبر طائرات الشركة من طراز الداكوتا". أما الباحث الاجتماعي هايل الدغماني، فيقول:"عرفت طريف الأكلات الغربية مثل الهمبرغر والبروستد والحلويات مثل الكيك وباونتي والمارس والسنكرس في مطلع الخمسينات". وقال ل"الحياة":"إن الشركة المنفذة ل"التابلاين"اهتمت بالجوانب الترفيهية لموظفيها، فأنشأت ملاعب لكرة القدم والسلة والغولف، كما أن الاحتكاك بين موظفي الشركة الأميريكان والموظفين المحليين في أوقات الفراغ أدى إلى نقل بعض الألعاب الغريبة مثل قفز الحواجز والوثب الطويل إلى سكان طريف". سيرة "التابلاين" بدأ إنشاؤه في كانون الثاني يناير 1948. يمتد من مدينة بقيق في المنطقة الشرقية إلى ميناء صيدا اللبناني بطول 1664 كيلومتراً. أقيمت خمس محطات للضخ في السعودية، في كل من النعيرية والقيصومة ورفحاءوعرعر وطريف، بين كل محطة عن الأخرى 300 كيلومتراً. احتاج"التابلاين"إلى نحو 350 ألف طن من الأنابيب. عمل في إنشائه 16 ألف عامل، بمساعدة 3 آلاف قطعة من الآليات ومعدات البناء. اكتمل الخط في أيلول سبتمبر 1950. وبلغت كلفة إنشائه 250 مليون دولار، وهو رقم كبير في ذلك الوقت. بدأ ضخ النفط الخام عبر ميناء صيدا في شهر تشرين الثاني نوفمبر 1950. حين تم تحميل النفط الخام من ميناء صيدا كان سعر البرميل في بورصة نيويورك 3 دولارات. كانت طاقة"التابلاين"عند بداية العمل فيه 320 ألف برميل يومياً أي ما يعادل 30 في المئة من إنتاج السعودية من النفط في تلك الفترة. تم رفع طاقته في الستينات إلى550 ألف برميل يومياً. توقف ضخ التابلاين موقتاً مرتين الأولى خلال"العدوان الثلاثي"على مصر عام 1956، وإثر"النكسة"عام في 1967. توقف"الضخ"إلى ميناء صيدا في 1976، جراء اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية. استمر"الضخ"إلى مصفاة الزرقاء الأردنية حتى توقف نهائياً عام 1990 لأسباب اقتصادية وسياسية. سُحب النفط المتبقي في"الأنابيب"عام 2000، وتعادل كميته نحو مليوني برميل. بدأت شركة أرامكو السعودية بتفكيك محطات الضخ الخمس في السعودية عام 2006، في حين لا يزال الخط موجوداً.