لم يخف الشاعر علي بافقيه قلقه من تفشي الأنانية والتزييف، اللتين تسيطران على الساحة الثقافية، وانعكاساتهما بالتالي على المنجز الأدبي، وتكون لهما أعراض مؤثرة في خطط التنمية الفكرية مستقبلاً. وأكد صاحب"جلال الأشجار"و"ورقيات"في حديث مع"الحياة"أن ما حدث بين الغذامي والعلي لا يخرج عن إطار الثقافة الصحراوية، التي سيخرجان منها خاسرين تماماً. كما وصف الشعر الذي قدمته الشاعرة السعودية في السابق، بأنه نوعية غير جيدة. وعلّق أمالاً على الجيل المقبل من الشاعرات الجديدات في إنتاج الشعر الحقيقي، من دون الافتعال الذي يراه سبباً رئيسياً في آفة الشعر الحديث. هنا نص الحوار. هناك مقولة متداولة تقول:"من السهل الدخول إلى الكتابة الروائية لكن من الصعب كتابة قصيدة"، إلى أي مدى ترى هذه المقولة صحيحة؟ - ربما يكون في هذا شيء من الصحة، لأن القصيدة بحاجة إلى اختمارات داخلية. تراكم التجربة المعيشية واللغوية والمعرفية في بوتقة واحدة. هذه مهارة لا يتقنها سوى الشاعر. كذلك الارتطام بالحياة من خلال اللغة الإبداعية. في القصيدة تتلاقح التجربة الشخصية وتجربة المجتمع التاريخية وتجربة الإنسان، كل ذلك يختمر في داخل الشاعر وفي داخل لغته الإبداعية. ربما تكون الأمور أكثر تركيباً أو تعقيداً، فهذا لا يعني استسهال الرواية طبعاً. فهي عمل إبداعي كبير وصعب. وهذا ليس اصطفافاً مع أحد، فالاصطفاف يجب أن يكون مع الإبداع وحسب. وكيف ترى ظاهرة تحول الشعراء إلى روائيين؟ - في ظني أن هذه المسألة فيها كثير من الإيجابيات. الشاعر ككاتب وإنسان ومواطن يريد أن يعبر عن آرائه، وعن نظرته للحياة ونظرته للمجتمع وتاريخه الداخلي. هناك من يريد أن يكتب بأدوات أخرى غير الشعر"فدخول من يستطيع من الشعراء إلى عالم الرواية مكسب للساحة الإبداعية، بشرط أن يمتلؤوا بالصدقية والجرأة والطاقة الفنية. الساحة تتذكر الآن غازي القصيبي وعلي الدميني وعبدالله ثابت. لقد كانت تجربة غازي القصيبي أشبه ما تكون برمي حجر ضخم في المياه الراكدة، لأن الشعراء أقرب خلق الله إلى المغامرات والمهالك. لكن ألا ترى أن دخول الشاعر إلى العالم السردي، سيؤثر في نضج وطزاجة قصيدته؟ - ربما تكون الإجابة على هذه السؤال شائكة وصعبة، لأن الشاعر هو الذي يستطيع أن يحكم على قصيدته، فعندما يجد القصيدة ليست بالمستوى الراقي يفترض فيه ألا ينشرها أو يكتبها أصلاً، وأن يكون لديه وعي كاف بالارتقاء بالقصيدة، لأن الشاعر بإمكانه أن ينشر كثيراً من الدواوين والقصائد، إذا كان مستسلماً للكتابة على علاتها، أما إذا استسلم للشعر وحرائق الشعر وعذاباته وجمالياته، فإنه سيمتلئ بذاته المبدعة من دون حاجة إلى الكميات. وإلى ماذا تحيل الأسباب في تراجع الشعر اليوم؟ - المسألة ليست تراجع الشعر ولكنها الظروف المحيطة بالشعر، وعندنا في العالم العربي الصعوبات كثيرة التي يصطدم بها الإنسان، والتغير الذي يحدث في الحياة بسرعة هائلة، العملية التربوية، الذائقة الشعرية، الاكتراث بالشعر في المدارس والجامعات. هناك الكثير من السلبيات في التعامل مع الشعر. ما ذكرته صحيح ولكن ألا يتحمّل النقاد جزءاً من المسؤولية؟ - نعم خصوصاً حينما يتحول بعضهم إلى محلل للنص، فلا يوجد هناك فرق بين تحليل المقالة وتحليل القصيدة والدفع بأسماء أو نصوص لا تستحق الذكر ولا فرق بين نص شعري، يستحق أن يُدفع به وأن يكتب عنه، وبين نص متواضع يكتب عنه وهي مشكلة في الساحة الأدبية ربما يتنبه لها النقاد وعلينا أن نتفاءل. فالنقاد يراكمون خبرتهم أيضاً في الحياة والناس والإبداع، فتتجه بعد حين إلى النوعية. يقول الشاعر الكبير الراحل محمود درويش: ما دمت اكتب النثر فهو نثر من دون أن اسميه قصيدة، في رأيك هل هناك مشكلة مع مصطلح"قصيدة النثر"؟ - تبدو المشكلة في الدلالة التراثية إذ الأدب شعر ونثر. وحين تقول قصيدة نثر يختلط الأمر على الذاكرة التراثية. على أية حال الشعر يستعصي على التعريف والمصطلحات. ولكن ربما يستقر الباحثون بعد حين على مصطلح. وكيف تفسر الخلط الفاضح بين قصيدة النثر والخاطرة؟ - هذه تحدث في كل الأشكال الشعرية وفي كل زمان ومكان، يسمونها النظم وهي نفسها في قصيدة النثر. هي محاولات لكتابة الشعر تتكاثر مع كثرة وسائل النشر. قبل عامين نال الشاعر محمد الثبيتي جائزة"سوق عكاظ"وتسلّلت إلى الساحة الثقافية أصوات معارضة لنيله إياها، فهل يستحقها الثبيتي أم أن هناك أسماء أخرى أحق بها؟ - الثبيتي يستحق الجائزة بلا شك. لكن قصيدة التفعيلة في المملكة نضجت بين يدي علي الدميني طوال فترة السبعينات، ثم نضجت بعد ذلك قصيدة الثبيتي أوائل الثمانينات. هما معاً رمزان من دون شك في تطورات القصيدة المحلية المعاصرة، وأنا أحسن الظن باللجنة الشعرية وأتوقع الجائزة في الدورة المقبلة لعلي الدميني. وكيف ترى إعادة"سوق عكاظ"بالنمطية التي كان عليها؟ - لم احضر"سوق عكاظ"الدورة الماضية وأتمنى أن يتجه لما هو أفضل سنة بعد أخرى. دعني انتقل معك إلى ما حدث أخيراً بين الناقد عبدالله الغذامي والشاعر محمد العلي كيف تفسر ذلك؟ - هناك انسدادات واحتقانات في المسار الثقافي والاجتماعي، لأن مسألة تجديد الثقافة وتكريس ثقافة التجديد وإيجاد مساحة للفكر النقدي لم يحسمها الزملاء والأساتذة في الساحة، وعلى رأسهم العلي والغذامي. إننا لا نستطيع كمجتمع أن نمارس الحياة في القرن الحادي والعشرين بقيم القرون الماضية. لا يمكن نهوض المدينة بقيم القرية والبادية والقبيلة والمنطقة. هل يوجد خلاف على ذلك؟! إن مسألة التعدد والفكر النقدي مسألة مصيرية. من دون الاتفاق على هذا يكون الأستاذان الكريمان كلاهما خاسرين تماماً، لأن الساحة ضيقة وهي بهذه الصفة صالحة للتناحر بدل التحاور، صالحة للوحوش والغربان أكثر من صلاحيتها للأيائل واليمام، صالحة للانتفاخ والتزييف أكثر من صلاحيتها للرشاقة والنبل. ولأن الثقافة السائدة منغلقة رثة فهي مكسب للطموحات الشخصية والأنانية التي تستبعد القيم الثقافية والفكرية الأصيلة. هل نستطيع القول بأن مراهقة ثقافية حدثت بينهما وجاءت على كِبَر؟ - ليست مراهقة. هذا فقط ما يظهر على السطح من جبل الجليد كما يقولون. فالساحة الثقافية موبوءة بالأمراض الاجتماعية نفسها. إنها ثقافة البادية والقرية والقبيلة تسود المدينة المكتظة بالملايين، وهذا خطر تستشرفه الدولة ولا يستشرفه الكثير من المثقفين. فالأحادية في وجه التعدد والوصاية وسوء الفهم والتغافل والأنانية في وجه الفكر النقدي. إنها تلك العراقيل الثقافية التي تقف في وجه التيار الإصلاحي المدني، الذي ينادي به الملك عبدالله ولا يلتفت إليه سوى قّلة من المثقفين للأسف من مثل إبراهيم البليهي وعبدالرحمن الحبيب وعبدالله المطيري، وقلة من المبدعين ممن تخلوا نهائياً عن الطاووسية وبهرجة الصحف. المناهج الجامعية لا تحتوي على نموذج حقيقي ل "القصيدة" يرى علي بافقيه أن الأسماء النسائية الجديدة التي ظهرت أخيراً"ستدفع بمسيرة شعر المرأة إلى المستوى النوعي، لأن الأسماء القديمة كانت كمية فقط، قد أدت تلك الأسماء دورها في الدخول إلى المعترك الكتابي ومعترك الكتابة الشعرية، والدخول إلى الساحة الأدبية والثقافية أما الدور في الارتقاء بالجودة أو النوعية فهذا يأتي من الجيل الجديد، لأنه في اعتقادي لم يكن هناك نوعية جيدة من الشاعرات السابقات، أما الآن فهناك أسماء جديدة ستمتلك لغتها الخاصة، ومحاولتها الخروج من الافتعال الذي هو آفة تجربة المرأة حتى هذه اللحظة. وأعتقد أننا في قصيدة النثر تحديداً ربما نكون على مشارف تجارب جديدة مقبلة". ويلفت إلى أنه"إذا لم تكن هناك تربية جمالية، وتربية للذائقة والدخول بالأجيال الجديدة إلى القراءة الحقيقية للشعر والأدب والهوس به، إذا لم يحدث هذا فسيكون القارئ نخبوياً بلا شك... وهذه مشكلة". ويضيف:"لابد أن نعترف بتغيب الأدب الحديث والشعر تحديداً عن المناهج التعليمية، بل هناك نماذج رديئة في المناهج لعدم التمييز بين النظم والشعر. وأصبح المشرفون على وضع المناهج يتجهون إلى الفكرة، ويطرحون نماذج لنظّامين ويبتعدون عن الشعر الحقيقي. ولا يتم اختيار نموذج جدير بان يطلق عليه مسمى قصيدة، خصوصاً في المناهج الجامعية، ويفترض أن النوعية هي التي تحكم الشعر وليس التوجه الفكري أو التوجه الإيديولوجي. كما أن الشعر إذا أُبعِد عن القراء وتحديداً الشباب الجديد وعن المدارس والجامعات، خصوصاً الشعر الحديث والجديد بقيمه الفنية الجديدة فستحدث فجوة أدبية بين القارئ والكاتب".