أثناء دراستي في الولاياتالمتحدة الأميركية وقعت لي حادثة غريبة، حبكت المصادفة خيوطها بطريقة متقنة جعلتها بالغة التأثير علي. كنت أقيم في سكن الطلاب، وكان من عادتي في صباح كل يوم سبت أن أذهب إلى مغسلة عامة في طرف الحرم الجامعي وأقوم بغسل ثيابي. في ذلك الصباح خرجت مصطحباً الملابس، وبدأت بالسير في ذلك الشارع الطويل الذي يمتد قرابة الكيلومترين ويفضي إلى منطقة تجارية محاذية للحرم الجامعي وبها المغسلة التي أقصدها. في ذلك اليوم لاحظت أن هناك أعداداً غفيرة من الناس تسير بعكس اتجاهي، وفي ما يبدو كانت متوجهة للاستاد الرياضي في وسط الحرم الجامعي، وكان أمراً معتاداً أن تقام مباريات كرة القدم في أيام السبت، مضيت في طريقي أسير بعكس اتجاه الحشود، وكأنني أسبح ضد التيار، وبدأت أشعر أن هناك أمراً غريباً في نظرات الناس لي. لاحظت أنه كلما اقتربت مني جماعة أجدهم يحدقون فيّ بفضول شديد وهم يبتسمون، وبعضهم يشير بيديه وكأنه ينبه زملاءه إلى أمر ما يتعلق بي. استمر هذا الوضع المقلق، ومع كل جماعة تمر كان قلقي يتصاعد وتوتري يزداد. في البداية تفحصت سحاب البنطلون لعله كان مفتوحاً وهو السبب، ولم يكن كذلك، وتلمست أزرار القميص ووجدتها في وضعها الطبيعي، وتفقدت شعري ولم أجد شيئاً غير مألوف. كل الأشياء التي أعرف أنها تلفت انتباه الآخرين وتثير ضحكهم تفقدتها وتأكدت أنها في أوضاعها الطبيعية، ولكن نظرات الفضول المركزة والابتسامات الساخرة لم تتوقف. وبدأت أتساءل ما الذي يحدث. كل من يقابلني يحدق فيّ بطريقة غريبة، وبعضهم يشير إلى رفاقه لكي لا تفوتهم فرصة رؤيتي وكأني شخص مشهور. لم يكن هذا الوضع مريحاً على الإطلاق، وجعلني أفكر في كل شيء في هذه الحياة. تخيلت في البداية أنني في برنامج"الكاميرا الخفية"، وبدأت أبحث عن الكاميرات، ولكن مع تزايد أعداد الذين يرمقوني بتلك النظرات تبخرت هذه الفكرة، فمن المستحيل أن تكون كل هذه الحشود جزءاً من برنامج الكاميرا الخفية. فأعدادهم تكفي لإنجاز فيلم حربي. وخطر لي بعد ذلك أن ما يحدث لي هو النتيجة الطبيعية لمبالغتي في قراءة هابرماس وماكس فيبر ونظرياتهما التي شطحت بي بعيداً عن الواقع. المهم في نهاية الطريق وبعد أن أرهق السير قدماي، وأنهكت الهواجس عقلي وصلت إلى ساحة المواقف الرئيسية في طرف الحرم الجامعي، ووجدتها مكتظة بأعداد هائلة من الحافلات المتنوعة الأحجام. ولاحظت عندما اقتربت منها أن إحدى الحافلات مكتوب عليها الصحة العقلية لمنطقة كذا وكذا. ونظرت لحافلة أخرى ووجدت أنها لمركز رعاية عقلية، وأخرى تابعة لمعهد لعلاج التخلف. وهكذا تكشفت لي الأمور، وتبين أن كل أولئك الذين هزتني نظراتهم من الأعماق، وجعلتني أشك في كل شيء يتعلق بي، لم يكونوا سوى مجانين ومتخلفين عقلياً. في البداية تنفست الصعداء وشعرت وكأن حملاً ثقيلاً إنزاح عني، فلم يكن الخلل بي أنا وإنما كان بهم هم، وهذه الحافلات تشهد على ذلك. بعد لحظات بدأت بعض الأسئلة الثقيلة تحط عليّ الواحد تلو الأخر، لماذا شعرت بالرعب من نظرات الآخرين، ولماذا جعلتني أرتبك بهذا الشكل، وكم العدد المطلوب من المجانين الذي يقنعني بأن لدي مشكلة؟ بدأت رحلة التبرير المعتادة والتي تتلو كل خيبة أمل، ولم أجد ما أعزي به نفسي سوى أن ردة فعلي كانت طبيعية جداً، بل وتؤكد سلامتي العقلية. ومضيت في التبرير مفترضاً أن العاقل فقط هو الذي يبني توازنه النفسي والعقلي على نظرة الآخرين له، وحدهم المجانين لا يهتمون برأي ونظرة الآخرين لهم. في ذلك الشارع الطويل من المجانين كنت العاقل الوحيد، رغم أن ذلك لم يكن واضحاً حتى بالنسبة لي. جعلتني تلك الحادثة أتفهم بشكل لم يكن في متناولي من قبل أهمية الاندفاع نحو المناطق الدافئة في وسط القطيع، فمشاعر الخوف لا تطاق عندما يمطرك الآخرون بنظرات الفضول والاستغراب إذا ابتعدت عنهم قليلاً. وأصبحت منذ ذلك الوقت أقيس الذكاء بدرجة التوغل والاندماج في وسط القطيع. عندما عدت إلى السكن صادفت أحد الزملاء وأخبرته بالقصة فضحك، وسألني منذ متى وأنت تقيم بهذا السكن، فأجبته منذ ثلاثة أشهر، فرد علي وهو يضحك بصوت مرتفع"صدقني أن من حدثتني عنهم لم يكونوا مجانين، هم فقط مستغربين، لماذا تشقي نفسك بالذهاب الى تلك المغسلة البعيدة، وفي السكن مغسلة مجانية". [email protected]